في حلقة الأربعاء الأخير من برنامج " مباشرة معكم"التي خصصت لمناقشة موضوع الأمية بالمغرب ، التي تعتبر إشكالية خطيرة لكون عدد الأميين بالمغرب - حسب المسؤول عن الوكالة الوطنية لمحو الأمية- بلغ 10 ملايين، بالإضافة على التكلفة الاقتصادية التي تتمثل في هدر أكثر من 10 ملايير درهم من الناتج الوطني بمعدل 2 بالمائة من نسبة النمو، ولذلك يحق التساؤل عن وجود رؤية استراتيجية لمعالجة الإشكالية. إن ورش محو الأمية هو واحد من الأوراش المهمة للدولة من جهة ، ولكنه في الوقت نفسه يعد قطاعا من القطاعات المؤرقة للدولة والمجتمع،باعتباره إحدى المعضلات الكبرى التي تعيق مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحضارية للأمة المغربية . ومعضلة الأمية تكمن في كونها من أخطر المشكلات التي تواجه المجتمعات البشرية والمجتمع المغربي في الزمن الحاضر ، لتعدّد أبعادها وأسبابها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية. ومن أخطرآثار الأمية ظاهرة الفقر التي لا تعود- دائما- إلى اختلال في عوامل التوزيع العادل للثروات ، أو إلى استئثار فئة قليلة بهذه الثروات فحسب، وإنما تعود - كذلك- إلى غياب الوعي الحضاري ، وامتلاك النضج الثقافي لمكونات المجتمع بأهمية التعلم باعتباره عاملا أساسيا من عوامل النهوض الحضاري للأمم،وكذا إلى غياب رؤية متوازنة وحكامة جيدة،ومن ثم كانت الدعوة في بناء المشروع الحضاري للأمة قائمة على أساس الأمر بالقراءة والكتابة ،باعتبارها مفتاح العلم والتمكين الإنساني الحضاري. إن هذا الملمح البارز هو الذي يعتبر المفردة المفتاح،في أية عملية للتنمية البشرية الناجعة ، وتحقيق معدلات محترمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى رؤية ناظمة تعتمد حكامة جيدة في تدبير قطاع محو الأمية بالمغرب.من هنا يبرز هاتان الناظمان باعتبارهما رافعة حضارية في التخطيط لمشروع محو الأمية : 1- ناظم الرؤية الاستراتيجية 2- الحكامة الجيدة، باعتبارهما دعامتين قويتين في التخطيط لمشروع محو الأمية على المستوى التنظيمي ،وهو ما حدده الظهير الشريف رقم 11.11.142 بتاريخ الوطنية لمحو الأمية المنشوربالجريدة الرسمية عدد 5980 بتاريخ 23 شوال 1432 الموافق ل 22شتنبر2011. الذي جاء فيه بالنص ما يلي :" استلهاما لمبادئ ديننا الحنيف الذي كانت أول آية من كتابه المنزل القرآن الكريم "اقرأ" والذي أعطى أولوية كبرى لمحو الأمية وتعليم القراءة والكتابة باعتبارها مدخلا للعلم والمعرفة وتأهيل الإنسان للقيام بشعائره الدينية والاضطلاع بمهامه ووظائفه وأدواره الاجتماعية " وفي مجال الحكامة الجيدة يحدد النص جملة من الآليات في الباب الثاني المتعلق بالإدارة والتسيير والباب الثالث الذي يحدد الأسس التنظيمية والمالية .كل ذلك يروم التعاطي مع الظاهرة تعاطيا ينطلق من رؤية استراتيجية ويرصد آليات التنفيذ . إن المتأمل في التطور التاريخي لظاهرة الأمية في المغرب، يقف على جملة من التراكمات التاريخية التي ظلت تحول دون تحقيق الأهداف المسطرة ، أو على الأقل تقلل من نسبة تحقيقها ، بفعل سياسات معينة ظلت تفتقر في بعض فترات تنفيذها إلى رؤية متوازنة ، تداخل في تغييبها جملة من العوامل الذاتية والموضوعية ،وكذا سريان بعض التطبيقات البشرية التي ظلت تفتقد إلى هذه الرؤية في غياب الحكامة الجيدة في التعاطي مع الظاهرة، فقد عرف قطاع محو الأمية منذ الاستقلال تطورا طفيفا حيث ظهرت مبادرات مختلفة جعلت من أولوياتها الحد من آفة الأمية بالمغرب ، وسعت إلى التأهيل الفعلي للمواطن المغربي ، وهكذا تعاقب على تدبير القطاع عدد من القطاعات الحكومية ، مما شكل عائقا موضوعيا حال دون تحقيق الأهداف المرجوة القريبة والمتوسطة والبعيدة والتقليل من نسبة تحقيقها. ومن أهم هذه القطاعات : - الشبيبة والرياضة في الفترة : 1957إلى1966 - التعاون الوطني : من الفترة: 1970 إلى 1977 - الصناعة التقليدية والشؤون الاجتماعية: 1978 إلى 1990 - وزارة الشؤون الاجتماعية من خلال إحداث قسم لتعليم الكبار سنة 1991 - إحداث مديرية محاربة الأمية التابعة لوزارة التشغيل والتكوين المهني :1997 - إحداث مديرية التربية غير النظامية وبوزارة التربية الوطنية منذ 1998 - صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي خصص الدعامة الثانية من دعاماته لمحو الأمية سنة 1999، فكان محو الأمية ضمن العوامل الأساسية لإصلاح المنظومة التعليمية في ما سُمّي بعشرية التربية والتكوين ، حيث اعتبر الميثاق الوطني محاربة الأمية تعاقدا اجتماعيا وإلزاما وطنيا للدولة لتحقيق الرفع من النمو الاقتصادية فتمت تعبئة كل الطاقات ورصد الموارد البشرية المتوفرة مع إعادة رصد الإمكانات وتحديد الأهداف . فكان من نتيجة ذلك : - إحداث كتابة للدولة لدى وزير التربية الوطنية مكلفة بمحو الأمية إلى جانب التربية غير النظامية حيث تم الجمع بين مديرية محاربة الأمية بوزارة التشغيل ومديرية التربية غير النظامية بوزارة التربية الوطنية، لتصبح في التعديل الحكومي - ما قبل الحكومة الحالية - تابعة لوزارة التربية الوطنية على المستوى المركزي والجهوي والإقليمي . ولعل من مبادرات هذه الفترة -انطلاق برنامج الدعم التربوي سنة 2005 وإحداث خلايا اليقظة على صعيد المؤسسات التعليمية الابتدائية ، الذي يهدف إلى التصدي لظاهرة الانقطاع الدراسي والحد من الهدر المدرسي. - انتقال القطاع إلى كتابة الدولة في التعليم المدرسي سنة 2007. - إحداث "الوكالة الوطنية لمحو الأمية" بموجب الظهير الشريف بتنفيذ القانون رقم 38.09 بتاريخ 17غشت 2011. هذا القانون الذي جعل من الوكالة الوطنية لمحو الأمية مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وتخضع لوصاية الدولة والمراقبة المالية المطبقة على المنشآت العامة، ويحدد للوكالة جملة من المهام ضمن الاستراتيجية الوطنية. إن صدور هذا القانون المنظم لإنشاء "الوكالة الوطنية لمحو الأمية" يعتبر إقرارا ضمنيا واضحا في الاعتراف بالخلل الذي عمّ القطاع منذ فترة الاستقلال إلى حين صدور هذا القانون ، ومن ثم يأتي هذا القانون التنظيمي ليقدم رؤية تصورية للتعاطي مع ظاهرة محو الأمية،من خلال تحديد الاستراتيجية وتوفيرالإمكانات القانونية والتنظيمية والبشرية والمالية ، ليرتقي مشروع محو الأمية إلى مؤسسة عمومية تعكف على ورش كبير من الأوراش التي تشتغل عليها الحكومة . إن هذا القانون - بأبوابه الأربعة ومواده التسعة عشر - يعد - في تقديري المتواضع- إنجازا متميزا على المستوى القانوني والتنظيمي ، كما يعتبر واجهة من واجهات الحكامة الجيدة لتدبير أوراش التنمية الكبرى على أسس أصيلة تحترم ثوابت البلد وتواكب متطلبات الواقع ، ومن ذلك ما يلي : 1- مرجعية الدين الحنيف باعتبار النص القرآني المدخل للعلم والمعرفة وأثر هذه المرجعية على المستفيدين والمستفيدات في القيام بوظائفهم الدينية والاجتماعية. 2- مرجعية الميثاق الوطني للتربية والتكوين باعتباره أرضية تصورية في المقاربة التشاركية التعاقدية الالتقائية بين القطاعات المعنية في إطار ربط محاربة الأمية بإصلاح منظومة التربية والتكوين ومشاريع التنمية البشرية ومحاربة الفقر. 3- التوجهات الدولية في محاربة الأمية . ويمكن القول : إن الرهان القانوني والتشريعي - بعد صدور هذا القانون- يعد قفزة نوعية ملحوظة في مجال العمل المؤسساتي ، ويبقى التحدي هو تفعيل القانون وتوفير الإمكانات المالية والبشرية التي تتوفر لديها مؤهلات عديدة تستحضر جملة من الدوافع ، أهمها :داعي المواطنة وما يستتبع الانتماء للوطن من مسؤوليات. وإذا كان القانون المنظم للوكالة الوطنية لمحو الأمية قد حدد الإطارالعام لسياسة عمومية وطنية لمحو الأمية، فإن اعتماد نظام الجهوية الموسعة- بدوره-يعتبر مشروعا وطنيا مهما لتحقيق التنمية البشرية في أبعادها المختلفة وهو ما يتيح لهذا القانون إمكانات أفضل للتنزيل ، وفرصا أنجع للتفعيل . [email protected]