إذا أردت أن تدرك أهمية البحث العلمي في تنمية المجتمع، فما عليك إلا أن تتخيل كيف ستكون حياتنا اليوم بدون الثمار التكنولوجية لهذا البحث العلمي: بدون هواتف نقالة أو أرضية، بدون وسائل نقل بين المدن، بدون محركات ضخمة لضخ مياه السدود التي نستعملها في السقي والشرب والنظافة، بدون مصابيح كهربائية، بدون وسائل تواصلية معلوماتية كالحواسيب والإنترنيت، وبدون أجهزة لكشف الأمراض ومعالجتها. لقد أصبحت هذه المنتجات وغيرها جزءاً متجذِّراً في أسلوب حياتنا بشكل بشكل أصبحنا معه لا ننتبه لها ولا نفكر كيف جعلت حياتنا مختلفة بشكل جذري عن حياة أجدادنا. الأمر الذي لا ينبغي أن ننساه هو أن كل هذه المنتجات هي ثمار للبحث العلمي .. لذلك فالسؤال الذي ينبغي أن نطرحه بتواضع وواقعية هو: إلا أي درجة يساهم الباحثون المغاربة في أسلوب الحياة هذا؟ المشكلة على المستوى الدولي، لم يعد البحث العلمي اليوم حبيس الجامعات والمعاهد العليا. فسياق العولمة وظهور الشركات الدولية العملاقة جعل قطاع المقاولات الدولية الضخمة أكبر مساهم في البحث الموجه للتنمية والإبتكار. هذا ما صرح به تقرير للمنظمة الدولية للتعاون والتنمية الإقتصادية في مارس 2010. لكن ما لا ينبغي أن نغفله أن التكوين العلمي الأساسي لمعظم هؤلاء الذين يعملون في مختبرات البحث داخل قطاع المقاولات والخدمات والتصنيع، والشهادات العلمية التي تزكيهم بصفتهم "باحثين" عادة ما تأتي من الجامعة. لذلك تبقى الجامعة هي بؤرة إنتاج العلم وما يثمره هذا العلم من تكنولوجيا موجهة لتنمية المجتمع. بل إن المقاولات الكبرى، في الدول المتقدمة، تعول بشكل ملحوظ على شراكاتها مع مختبرات البحث داخل الجامعات. من ذلك مثلا أن 17.1% من الشركات الألمانية تلجأ إلى الجامعات والمعاهد العليا لتحسين عملياتها بالأنشطة الإبتكارية. مع الأسف يتناقض هذا الواقع في الدول المتقدمة مع حالة المغرب حيث فقط 3.8% من الشركات المغربية تلجأ إلى الجامعات والمعاهد من أجل هذه الغاية. بدل ذلك، فإن 25.6% من الشركات المغربية تعتمد في أنشطتها الإبتكارية على مزوديها بالمعدات التكنولوجية، و19.2 تعتمد على مؤسسات ومختبرات القطاع الخاص الذي تكون أجنبية في أغلب الأحيان.فلماذا لا تزال الجامعة بعيدة عن مطلب المساهمة في نمو المجتمع ورفاهيته؟ الفهم الكمي للمشكلة إذا اعتمدنا على الإعتبارات الكمية، مثل عدد رسائل الدوكتوراه التي تناقش في المغرب، فإن وضعية البحث في المغرب لا تبدو في منتهى السوء. فقد خلص أحد الأبحاث مثلا إلى أن عدد رسائل الدوكتوراه في العلوم الإجتماعية والإنسانية التي نوقشت بين 1960 و1970 لم يتجاوز رسالة واحدة. لكنه ارتفع إلى 377 في الفترة الفاصلة بين 1991 و1996 (عبدالواحد أكمير 1997، مجلة فكر ونقد). أما عدد الأبحاث (دوكتوراه وماجستير) التي نوقشت في جامعات المملكة المغربية بين 2002 و2003، حسب تقرير لمركز بحث ألماني (ستيلونبوش) فهو 1095، بينما لم يتجاوز هذا العدد 779 في 2001 2002. مع العلم أن 545 من أبحاث 20022003 كانت في العلوم الحقة، وفقط 403 في العلوم الإنسانية، مما يدل على أن مشكلة عدم مساهمة البحث العلمي في التنمية ليس مرده اتجاه البحث في العلوم الإنسانية الى مباحث علمية قد لا تكون لها تطبيقات تكنولوجية وتنموية ... جوهر المشكلة مع الأسف لا تمكننا إحصائيات ستيلونبوش من معرفة النسبة التي تمثل عدد رسائل الدوكتوراه بالمقارنة مع الماجستير مثلا. إلا أن المؤشر العام يؤكد أن الأبحاث المناقشة في تزايد كمي .. فلماذا لا يواكب هذا "التقدم" في العلم تقدما في مساهمة هذا العلم في التنمية. أولا، لا ينبغي أن تخدعنا الأرقام كثيرا ... فنحن لا نتوفر على نسبة على معطيات دقيقة حول عدد الحاصلين على الدوكتوراه في الجامعات المغربية كل سنة بالمقارنة مع عدد الخريجين. فهذه النسبة تتجاوز 4.4% في السويد و2.5% في ألمانيا. ثانيا، العامل الحاسم في تمكين البحث العلمي من المساهمة في التنمية ليس هو فقط نسبة رسائل الدوكتوراه التي تناقَش كل سنة بالمقارنة مع عدد الخريجين، بل عدد الرسائل التي ينجزها المهندسون engineers. فالبحث الهندسي engineering research هو القناة التي تربط البحث العلمي بالإبتكار التكنولوجي والخدماتي. فالمهندسون هم الذين يخترعون التقنية والخدمات المبتكرة أو يجددون خصائصها التصميمية design properties، وهم وهم الذين يُوَظَّفون في مختبرات التجديد والتطوير داخل المقاولات الكبرى وورشات التصنيع. اختصارا، لا يمكن للبحث العلمي أن يساهم بشكل معتبر في التنمية إلا بوساطة البحث الهندسي. من التقارير التي برهنت على أهمية البحث الهندسي في التنمية تقرير أنجزه مختبر بحث في جامعة كامبريدج، تحت إشراف البروفسور پاتريك ماكسويل سنة 2012. أثبت هذا التقرير إحصائيا أن بحثا واحدا من كل 10 أبحاث يتم إنجازها في جامعة لايدن حول الفيزياء والهندسة engineering وعلوم الصحة وعلوم الحياة يكون في مفترق الطرق بين هذه التخصصات. بل إن التقرير كشف أيضا عن الأهمية القصوى التي تضطلع بها التخصصات الهندسية في تطوير البحث في العلوم الأخرى، من الفيزياء الكوسمولوجية التي تحتاج للمناظير الضخمة العالية الحساسية للضوء، إلى الجراحة الطبية التي تعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا العالية. أهمية العلوم الهندسية تتضح أيضا إذا ما قارنا نسبة رسائل الدوكتوراه التي تناقش كل سنة في الدول المتقدمة بالمقارنة مع مقابل هذه النسبة في الجامعات المغربية. نسبة رسائل الدكتوراه في التخصصات الهندسية في الجامعات الألمانية يتجاوز 10% من مجموع رسائل الدكتوراه التي تناقش كل سنة (تقرير منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، 2010)، أم نسبة جميع الأبحاث (الدوكتوراه والماجستير كليهما) في التخصصات الهندسية في الجامعات المغربية فلا تتجاوز 1% من مجموع الأبحاث المنجزة. خلاصة جوهر المشكلة إذن هو أن الجامعة المغربية لم تستثمر بما فيه الكفاية في العلوم التي تُستثمر فيها الثقافة الإبتكارية، أي العلوم الهندسية.