إذا كنت طالبا مجازا فهذا يعني أنك قضيت في حياتك الدراسية أكثر من 15 ألف ساعة أمام أساتذتك، وأنك نجحت في حوالي خمسين امتحانا يتحدى ذكاءك، وأنك قرأت أكثر من 50 ألف صفحة، وأنك تعرف أكثر مما كان يعرفه الجاحظ عن التغذية، وأفضل مما كان يعرفه الفرابي عن الكرة الأرضية، وأكثر مما كان يعرفه أرسطو عن الفضاء الخارجي .. فلماذا لا يجد الشباب المتخرج عملا يليق بتكوينه. تخبرنا الإحصائيات أن عدد الخريجين من الجامعات والمعاهد العليا كل سنة في المغرب هو 117000 في حين أن عدد المهن التنفيذية (الملائمة لتكوين هؤلاء الخريجين) هو 41000، أي ثلث عدد الخريجين تقريبا. مما يعني أن هناك ثلث وظيفة تنتظر كل خريج. وإذا أضفنا إلى هذا أن الجزء الأعظم من التكوينات غير ملائم أصلا للمهن التنفيذية، يمكن أن نستتنتج أن حظ كل متخرج سيكون أقل من عُشُر وظيفة (1/10)! لا زالت مسألة النهوض بمنظومة التعليم العالي، بالنسبة لبؤر عديدة في دائرة صناعة القرار، مجرد مشكلة أمنية ينبغي التعامل معها بحذر، وفي أحسن الأحوال، مسألة اختلالات تقنية ينبغي تدبيرها بالتشخيص والمعالجة المهنية. هذا ما يجعل معظم الإصلاحات مجرد مزيد من الإبتزاز للحصول على المزيد من السيولة النقدية ... النهوض بمنظومة التعليم العالي ينبغي أن ينبني على رؤية تقدم حلا عمليا لإنتاج بروفيل مبتكر للمعرفة ومولد للثروة ومنتج للتكنولوجيا في أقصر وقت ممكن. لكن الخطوة الأولى لتحقيق هذه الغاية تبقى هي فهم المشكل بشكل جيد ... أخطر مشكلة يمكن أن نواجهها هي أن لا نفهم مشكلتنا! من المشاكل الجدية التي يعاني منها تعليمنا أنه ليس موجها لتكوين پروفيلات منتجة للمعرفة العلمية. نُعَلِّمُ ولا ننتج علما. من المؤشرات على ذلك التفاوت الكبير بين ما تنفقه الدولة على التعليم وما تنفقة على البحث العلمي. سنة 2013 أنفقت اليابان 6.26 من ناتجها الداخلي العام على التعليم و 3.39 (أي أكثر من نصف ما أنفقته على التعليم) على البحث العلمي. وأنفقت نيوزيلاندا في نفس السنة 6.82 على التعليم و3.43 على البحث العلمي. أما في المغرب فننفق على التعليم نسبة من الناتج الداخلي العام تصل إلى 7% بينما لا تتجاوز نفقاتنا على البحث العلمي 0.73%. كيفما أولنا هذا الشح في النفقات على البحث العلمي فسيبقى دائما مؤشرا على ابتعاد جامعاتنا عن المعرفة العلمية، مما ينعكس على تكوين الطلبة الباحثين. من المشاكل التي تعاني منها منظومة التعليم العالي أيضا عدم ارتباط البحث العلمي في الجامعات بالإبتكار في قطاعات التكنولوجيا والتجارة والإدارة والخدمات، مما يضعف من حظوظ ولوج المتخرجين للمهن التنفيذية العالية. يصنف تقرير اليونيسكو للإبتكار (لسنة 2013) المغرب من الدول "المنخرطة في الإبتكار" (أي الدول التي تمارس شركاتها أنشطة ابتكارية، كالبحث، متطلعة بذلك إلى تحسين منتجاتها أو خدماتها أو عملياتها في المستقبل)، مما يجعلها بعيدة عن واقع ما يسميه التقرير ب"البلدان الناشطة ابتكاريا، أي تلك البلدان التي تمتلك شركاتها قدرة على تحسين منتجاتها أو خدماتها أو عملياتها. إلا أن هذا التقرير يذكر معطيات دالة بخصوص تعاون الشركات مع الجامعات ومؤسسات البحث في تجديد عملياتها. فبينما تلجأ 17.1% من الشركات الألمانية إلى الجامعات والمعاهد العليا لتحسين عملياتها بالأنشطة الإبتكارية، فقط 3.8% من الشركات المغربية تلجأ إلى الجامعات والمعاهد من أجل هذه الغاية. بدل ذلك، فإن 25.6% من الشركات المغربية تعتمد في أنشطتها الإبتكارية على مزوديها بالمعدات التكنولوجية، و19.2 تعتمد على مؤسسات ومختبرات القطاع الخاص. إذا اقتنعنا بأن الأنشطة الإبتكارية ضرورية للنمو وأن هذا النمو ضروري لخلق فرص الشغل المناسبة لخريجي الجامعات والمعاهد العليا، فهذا يعني أن الجامعات ومعاهد التكوين لا تزال بعيدة عن المساهمة في خلق فرص للشغل لطلبتها. هناك سؤال مهم سيعطينا الجواب عنه فكرة واضحة عن مساهمة الجامعات والمعاهد في توجيه پروفيلاتها إلى السياق السوسيواقتصادي: أين يعمل الباحثون الجامعيون؟ تقرير اليونيسكو (ديسمبر 2012) حول مساهمة الباحثين في التطوير يزودنا بإجابة غير مريحة: أكثر من 90% من الباحثين يعملون في قطاع التعليم العالي، وأقل من 2% يعملون في مقاولات تجارية. هذا يعني عمليا أن الجامعة المغربية تُكوِّن باحثين فقط لكي تعيدهم إليها من أجل المزيد من البحث. بينما نجد أن نسبة الباحثين الذين يعملون في مقاولات تجارية في استراليا والسويد والدنمارك تتزاوج نسبة 60%، أما نسبة الذين يعملون في مؤسسات التعليم العالي فلا تتجاوز 32%. الحل؟ .. ضخ الثقافة الإبتكارية في المنظومة التربوية والقطاعات المنتجة بتدريب المدرسين والمهندسين والفاعلين الجموعويين، إلخ .. على هذه الثقافة. هذا هو المفتاح الصغير الذي يفتح الأبواب الكبيرة.