لماذا يستهلك المغاربة ردحا من الزمن في الاحتفال بالشعائر الدينية، سواء الشرعية منها، أو البدعية دون حضور هذا التمييز عموما في الذهنية الثقافية، إذ تصنف جميعها في إطار الاحتفال المقدس (العواشر)؟ هذا بصرف النظر عن الكم الهائل من الطقوس الثقافية العائلية كالاحتفال بالختان، والزواج، و الجنازات، وأعياد الميلاد ، و شعبانة ( وهي احتفال عن طريق رقصة الحضرة ، الغاية منها إبرام عقد هدنة مع الجن في شهر شعبان، لأن هناك اعتقاد سائد مفاده أن الجن يتم أسرهم طيلة شهر رمضان، حتى ليلة القدر [ ليلة 27 رمضان]، حيث يتم الإفراج عنهم، وهذا المنطق له تبريره، إذ أن الليل في رمضان يعرف رواجا بشريا كثيفا في المنازل و الشوارع والمطابخ والمراحيض، فإن استمر الجن في التجول ليلا سيؤديهم لا محالة)، وزيارة الأولياء ، و تنظيم طقوس المعروف ، وإخراج الصدقات، وقراءة الطالع (ضرب الفال)، و ممارسة العلاج التقليدي، وممارسات سحرية أخرى، هذا بالإضافة إلى أن المغاربة يتقيدون بجدول زمني محدد تتخلله احتفالات بطقوس دينية وثقافية على مدار السنة. باختصار، ما يريده الإنسان المغربي البسيط من حياة الاحتفال (التعوشيرة) في ظل ممارسة الكثير من هذه الطقوس، هو تثبيت تقلبات عجلة الزمن، والإحساس بنعمة العيش في سلام و أمن و أمان. و السؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا الصدد، هو: هل العلم الحداثي والتكنولوجيا المستوردة تقدم للإنسان البسيط في الوقت الراهن الإحساس بالأمان؟ لا وجود لإشارات قوية في هذا المجال، إذ يتمظهر الإنسان العادي في المغرب بأنه في بحث دائم عن الأمن والسلام والطمأنينة، لكن يبدو أنه لم يعثر بعد عن هذه المشاعر في عالم الحداثة، ويضطر دائماً للاحتماء بدرع الإيمان التقليدي الذي يوحي له باستقرار المظاهر المتحركة و السائلة للواقع. و عندما يستشير الإنسان المغربي البسيط معالجا تقليديا، يشعر بالحماية والسكينة؛ ذلك لأنه يتقاسم معه الخطاطات الثقافية نفسها، ثم تلك النظرة المحددة للوجود، فيثق بتشخيصه للداء، و يتقرب منه في إطار علاقة حميمية اجتماعيا، بفضل شخصيته الكاريزمية، ونمط سلوكه القيادي المقنع، و كلامه الدال على الثقة، و المشرب بالبركة. ولا يقدم المعالج التقليدي على التردد، أو كثرة الأسئلة، كما لا يطلب منه المزيد من الفحوصات المخبرية المزعجة و باهظة الثمن. يظل خطابه حازما، يعتمد على استراتيجيات إقناع تنبني على أساس حالات استشفائية سابقة، و تشخيص أمراض عن طريق معجم ثقافي شعبي مفهوم و مألوف لدى المريض. إن عالم المعرفة والعلم في المغرب لا يحدد النظرة الثقافية السائدة، بل هو منطقة رمادية، ومتاهة لا يستطيع الشخص العادي استيعابها، كما أن المغاربة لا يقسمون العالم إلى ما هو طبيعي و ما هو خارق، كما يفعل نظراؤهم الأوروبيون؛ كلا العالمان يتعايشان في التمثل الثقافي المغربي للواقع، إذ نأخذ مثالا عن الجن وامتلاكه للإنسان، حيث يوجد معتقد راسخ في المخيال الشعبي أن الجن والإنس، قد يأكلان ويشربان معا في حال الامتلاك، و علاوة على ذلك، يعتقد الناس أن لا شيء مؤكد في مجالات العلم. لقد أصبحت نسبية النظرة العلمية المحددة للعالم وعدم اكتمالها من المسلمات التي لا داعي أن نجتر الكلام حولها، فالطبيب، على سبيل المثال، غالبا ما يزعج مرضاه بطلب المزيد من الفحوصات والأشعة المقطعية لتشخيص المرض، الأمر الذي لا يستطيع معظم الأعضاء الاجتماعيين العاديين استيعابه، ذلك لأنهم ليسوا بعلماء، ويبحثون فقط عن الهدوء الاجتماعي و سلامة الجسد. و حين يبحث العلماء عن السعادة والطمأنينة في عوالم فكرية و مساحات جمالية، لتوجيههم وإرشادهم الروحي، يكتفي الناس العاديون الذين لم يتم تمكينهم من مهارات فكرية من قبل الهياكل الاجتماعية، ولا تأهيلهم ثقافيا ، باللجوء إلى الإيمان التقليدي لإرشادهم روحيا، ويمنحهم الاعتقادُ في الطقوس الأمان و اليقين في الحياة. لا أحد يستطيع أن يجادل بأن العلم قَدْ حقق تقدما ملحوظا سواء على المستوى النظري أو التطبيقي، لكنه لم يتمكن من مسخ الكائنات البشرية إلى روبوتات، حيث لا زلنا نتعثر في الزخارف الحديثة التي تزيّنّا بها، ذلك لأننا لا نتوفر على جاهزية بيولوجية وسيكولوجية للتعامل مع التغيير المفاجئ الذي أحدثته طفرات العلم الحديث بين عشية وضحاها، وهكذا تتواجد دائما مساحة للتدخل الغيبي في ترتيب الكون بسبب الفجوة الناتجة عن التقدم العلمي وعدم مواكبته من طرف التطور البيولوجي. يقوم عالم التقاليد والطقوس الدينية بتحقيق استقرار تقلبات الحياة و عجلة الزمن، كما يقنن التحولات الطبيعية في قوالب طقوسية، ورموز ثقافية تفسر التغيير، وتجعله سهل الاستبطان. وتتقيد الجماهير الرابضة في أسفل الهرم الاجتماعي تقيدا صارما بالجدول السنوي للتقاليد والطقوس لتعزيز هذا الشعور، ودعم إحساسها بالسلام والأمن الاجتماعيين. إن التقويم الشعبي للزمن، كما يلاحظ، يتم استهلاكه طيلة السنة في الشكليات الاحتفالية الطقوسية (التعوشيرة)، إذ تحتسب الشهور الاثنى عشر عن طريق الأعياد والطقوس التي تستهلكها السنة، وهكذا يبدأ العد السنوي الشعبي على الشكل التالي: (العيد الكبير) عيد الأضحى/ (عايشور) عاشوراء/ (شاع عايشور ( أي بعد عاشوراء) / لميلود (عيد ذكرى المولد النبوي)/ شاع الميلود ( أي بعد المولد) / جاد (جمادى الأولى) / جماد (جمادى الآخرة) / رجب / شعبان / رمضان (هذه الأشهر من جمادى الأولى حتى شهر رمضان توجد في التقويم العربي)/ ( لفطورات بجوج (وجبات الإفطار الاثنين ، وهذا يعني شهرين بعد عيد الفطر). إن الحركة الزمنية من حفل لآخر تجعل الحياة دورة مستقرة، خالية من التقلبات العنيفة، ومفاجئات عجلة المصير وأزماتها. وعلى الرغم من المكانة الدينية الرفيعة التي يحتلها شهر الغفران، رمضان، يضع العضو الاجتماعي الاحتفال بعيد الأضحى على رأس القائمة السنوية الاحتفالية، تيمنا بالأيام الثأدة السمينة التي تبتدئ السنة الطقوسية على خلاف الأيام النحيفة في رمضان، و الأهم من هذا كله هو التمييز بين العيدين في التسمية: عيد الفطر بالنسبة للمغاربة هو احتفال صغير، لدا سمي "بالعيد الصغير"، أما عيد الأضحى فيطلق عليه "العيد الكبير"، لأنه عيد الذبح والولائم والمآدب، والمضايف، إذ يتمتع الناس بالطعام، وينظرون إلى الدم، و يتناولون اللحوم بإفراط -- و لا داعي أن نذكر هنا بأهمية اللحوم عند المغاربة، إذ أنها الوجبة اللذيذة، الأكثر جاذبية ثقافيا، يتم تحضيرها للضيوف و الزوار عند استضافتهم لأحد الولائم. و يصف بول رابينو أهمية اللحوم عند قبائل بن يارغرا، فيقول: "إن اللحوم، أو لحم البقر بشكل خاص، هي أكلة نادرة بالنسبة لهؤلاء القرويين، إذ أن معظم سكان القرية لا يأكلون اللحوم سوى مرة واحدة في الأسبوع، و هناك من يأكله مرة واحدة فقط في الشهر، و عندما يتم ذبح بقرة عند حلول الاحتفال المقدس "الموسم" بالقرية، ينجرف الأهالي من كل حدب وصوب من المناطق المجاورة المحيطة بساحة النحر لمشاهدة عملية الذبح وتوزيع اللحم الذي يمكن أن يستغرق عشية بأكملها، و لا يستطيع قروي أن يتخلف عن هذا الموعد، كما أن هناك دائما مناقشة ساخنة بين القرويين عند عملية التوزيع أمام أكوام اللحوم المثيرة للشهوة في وسط منطقة "الموسم" (1977 ، ص 139). و في كثير من المناطق القروية بالمغرب، لا تزال اللحوم تعتبر الطبق الرئيسي الذي يجب أن يتذوق منه الجميع، إذ لا يمكن أن تقام وليمة بدون لحم، ولا يجوز أن لا يدعى زائر إلى طبق لحم اشتم رائحة طهيه، و في حال اقتراف المضيف هذا الجرم، يمسي عدوا شريرا في أعين العامة، نظرا لأنه يختزن نوايا سيئة، قد تلحق الضرر بالمعارف والجيران والأقارب، لأن هذا السلوك قد يعرضهم لخطر الامتلاك الجني. ويوصف الشخص الذي يمتلكه الجن نتيجة حرمانه من طابق اللحوم المطبوخة بأنه هائش (مهاوش)، كما تنص العادة في الثقافة الشعبية، أنه إذا وجد الضيف المضيف يهيئ وجبة بدون لحم، ينبغي على هذا الأخير تنبيهه بذكر اسم الله حتى لا يصاب باستحواذ جني، وعادة ما يقال له: "باسم الله عليك را حنا مطايبين بلا لحم (باسم الله عليك، نحن نطبخ الأكل بدون لحم)"، حتى لا يصبح الضيف عرضة للهوش (يتهاوش). و قصد تجميد الطبيعة المتحركة السائلة للزمن، وضمان نقل البركة من طقوس الأعياد إلى المولود الحديث، تستخدم أسماء الطقوس في تسمية الأطفال حديثي الولادة وتؤرخ لحياتهم، و يسمى الطفل الذي يزداد خلال طقس مقدس نسبة إلى اسم هذا الأخير تيمنا به، لجلب الحظ الحسن للمولود، و حتى يكون اسم هذا المولود فأل خير عليه، يشكل درعا واقيا يحميه من مخاطر الحياة ومفاجئاتها. ويستمد العديد من الأشخاص أسماءهم من الأعياد التي تزامنت مع فترة ولادتهم، وهكذا ينسب اسم كبير أو عبد الكبير لشخص ولد خلال "العيد الكبير". و تنسب أسماء مثل ميلود، ميلودة، أو الميلودية (أنثى) لأشخاص ولدوا خلال فترة "عيد الميلود"، ويطلق اسم "العيدي" على شخص ولد خلال يوم العيد. و في بعض الأحيان، يتم إسقاط السلوكيات النمطية المعتمدة من قبل الأعضاء الاجتماعيين خلال الأعياد، كتوصيف سلوكي لشريحة اجتماعية في الظروف الاجتماعية الاعتيادية، إذ تصادف مثلا مصطلحا وصفيا "عايشوريات" (مشاغبات)، كتوصيف سلوكي للنساء في الحياة العادية، يستنبط معانيه من السلوك الصاخب للإناث خلال احتفالات عاشوراء، وهي مناسبة تتحدى فيها النساء السلطة الذكورية وتثبت جنسويتهن من خلال الألعاب الاحتفالية، و هذه السمة الأنثوية (عيالات عايشوريات)، تظهر السلوك "الفوضوي" للنساء باعتباره حكم قيمة منبثق من منظور ذكوري . و يحف المخيال الشعبي أيضا ببركة الأولياء التي قد تمكن النساء اللائي تأخر حملهن، أو اللواتي يعانين من حالات الإجهاض المتعاقبة، من الخصوبة و الإنجاب. وعادة ما تتم تسمية الأطفال الذين يولدون بعد الدعاء و التوسل للأولياء بأسماء هؤلاء، قصد حمايتهم من عشوائية عجلة القدر، وضمان بقائهم على قيد الحياة، إذ هناك العديد من الأطفال نسبت إليهم أسماء الأولياء الذين يعتقد أنهم كانوا سببا في إنجابهم، ويقال (ولدتو على مولاي بوشعيب)، فتجد أطفالا يحملون أسماء مولاي بوشعيب، سيدي عبد التباري، مولاي إبراهيم، مولاي عبد الله ... والقائمة طويلة. ويعتقد أن بركة الولي ستسافر عبر اسمه ليحملها المولود، وهكذا تستطيع حمايته من تقلبات القدر، ليتمكن من العيش فترة طويلة، و البقاء على قيد الحياة، و الإفلات من تقلبات متاهة القدر، والتمتع بالأمن والسلام الذي يكافح الإنسان العادي من أجله. وباختصار، فإن التمسك بالتقاليد والطقوس في حياة المجتمع المغربي على مستوى الفرد أو الجماعة يمكن الأعضاء الاجتماعيين من التأقلم مع الأعراف الاجتماعية، و يعمل على تدجين سلوك الأفراد، ومنحهم الثقة في مواجهة أزمات الحياة، و تزويد الجماعة بالنواة المركزية للقيم التي يحيا بها المجتمع. ولا بد للإشارة هنا أنه إذا توفرت هياكل اجتماعية تمكن العضو الاجتماعي وتؤهله عن طريق تزويده بقدرات ثقافية، فإنه لن يعتمد فقط على التدين الشعبي، للانخراط في بيئته الاجتماعية، بل قد يلجأ بالإضافة إلى هذا الينبوع إلى عوالم الموسيقى والفن والأدب والتربية والعلوم لينهل منها قيمه ومبادئه ، لكن، حتى الآن ، لا يزال المواطن المغربي العادي، يعتمد على التدين الشعبي بوصفه أهم مصدر متاح له يمتح منه للتكيف مع الحاضنة الثقافية، نظرا لتصلب المخيال المارابوتي تاريخيا، واستحكامه المؤسساتي، بالإضافة إلى انغرازه في إطار ثقافة شعبية متينة صامدة . *أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة.