القبض على بدر هاري في أمستردام بسبب خلاف مع طليقته    من بينها توقيف حكيم دومو ومحمد الشرع.. لجنة الأخلاقيات تصدر قرارات جديدة    الوزارة تكشف عائدات السياحة بالعملة الصعبة في سنة 2024    شركة 'اوبن ايه آي' تكشف النقاب عن أداة جديدة في 'شات جي بي تي'    السكوري: مشروع قانون الإضراب سيخضع لتعديلات إضافية بمجلس المستشارين    تبون يهدد المغرب والمملكة المغربية تبقى أقوى وبأعلى درجات الجاهزية    إسبانيا.. بدء محاكمة روبياليس في قضية "القبلة" المثيرة للجدل    الرئيس السوري أحمد الشرع يؤدي مناسك العمرة خلال زيارته الرسمية للسعودية    الأحمر يوشّح تداولات بورصة الدار البيضاء    الرباط: انطلاق أشغال المنتدى الإفريقي للأمن السيبراني    لوديي: المغرب ملتزم بتعزيز التعاون الإفريقي لمواجهة التحديات السيبرانية    المهاجم المغربي الشاب إلياس داو ينضم إلى نادي أندرلخت البلجيكي    انتشار داء "بوحمرون" على طاولة المجلس الحكومي    ماسك: ترامب وافق على إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية    ثورة علمية : رقاقات قابلة للزرع لعلاج قصور القلب    السكوري: الحكومة قبلت أغلب تعديلات النقابات على قانون الإضراب    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    "أمر دولي" يوقف فرنسيا بمراكش    المندوبية السامية للشغل…الشغل المأجور يهم قرابة 6 نشيطين من بين كل 10    مبادرة توزيع أغطية في باب برد تروم لتخفيف معاناة مشردين مع موجة برد قارس    …وأخيرا ، حَسُنتْ ليبِرالِيَّتكُم السيد الرئيس!    التساقطات الأخيرة ترفع منسوب حقينة السدود إلى 28%    "دوغ مان" في طليعة شباك تذاكر السينما بأمريكا الشمالية    "وول ستريت جورنال": رسوم ترامب الجمركية أغبى حرب تجارية في التاريخ    تسويق أدوية مهربة يطيح بعصابة إجرامية في مراكش    تاونات أكثر المدن إستقبالا للأمطار في 24 ساعة    سناء عكرود تعرض فيلم "الوصايا" عن معاناة الأم المطلقة    المندوبية السامية للتخطيط: إحداث 82 ألف منصب شغل في المغرب سنة 2024    خيرات تدخل السايح إلى المستشفى    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    سكتة قلبية مفاجئة تنهي حياة سفيان البحري    مستحضرات البلسم الصلبة قد تتسبب في أضرار للصحة    أطباء مختصون يعددون أسباب نزيف الأنف عند المسنين    استئناف محاكمة أفراد شبكة الاتجار الدولي بالمخدرات التي يقودها رئيس جماعة سابق    وفاة سفيان البحري صاحب صفحة تحمل اسم الملك محمد السادس    الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يحتفي برئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ويمنحه جائزة الثقافة الرياضية العربية التقديرية لعام 2024    أسامة صحراوي يتألق رفقة ناديه بالدوري الفرنسي    تراجع أسعار الذهب    تفشي بوحمرون : خبراء يحذرون من زيادة الحالات ويدعون إلى تعزيز حملات التلقيح    بعد توتر العلاقات بين البلدين.. تبون يدعوا إلى استئناف الحوار مع فرنسا "متى أراد ماكرون ذلك"    "لحاق الصحراوية 2025".. مغربيتان تتصدران منافسات اليوم الأول    حماية ‬الأمن ‬القومي ‬المغربي ‬القضية ‬المركزية ‬الأولى ‬    بعد "بيغاسوس".. إسرائيل استعملت برنامج "باراغون" للتجسس على صحفيين وناشطين على "واتساب"    أوكسفام: 1% من الأغنياء يسيطرون على 63% من الثروات الجديدة منذ جائحة كوفيد-19    جولة في عقل ترامب... وهل له عقل لنتجول فيه؟    بوحمرون ‬يتسبب ‬في ‬حالة ‬استنفار..‮ ‬    كأس العالم لكرة اليد: المنتخب الدنماركي يحرز اللقب للمرة الرابعة على التوالي    الصين: عدد الرحلات اليومية بلغ أكثر من 300 مليون خلال اليوم الرابع من عطلة عيد الربيع    النجمة بيونسيه تفوز للمرة الأولى بلقب ألبوم العام من جوائز غرامي    ارتفاع تحويلات مغاربة العالم    ابن تطوان "الدكتور رشيد البقالي" ينال إعجاب علماء كبار ويظفر بجائزة عالمية في مجال الفكر والأدب    تحولات "فن الحرب"    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة المقابر خلال عاشوراء بالمغرب
نشر في الجديدة 24 يوم 15 - 08 - 2015

تنص الأعراف وتقاليد صلة الرحم بالمجتمع المغربي على أن العاشر من شهر محرم موعد مع زيارة القبور، إذ يتخذ الكثير من الرجال والنساء معا من المقابر وجهة لهم، و ينطلقون إليها عبر طرق ومسالك مختلفة لزيارة أقاربهم المتوفين، و هكذا تكتظ معظم الممرات المؤدية إلى المقابر بالمتسولين، والمحتاجين، والضعفاء، وعابري السبيل الذين يجنحون إلى هذه الأمكنة ، قادمين إليها من الدروب، ومدن الصفيح، و القرى المجاورة، فيؤثثون الفضاء، جالسين في أوضاع ذليلة صاغرة مستسلمة على أجناب الطرقات، باسطين أيديهم ابتغاء المآثر و الحسنات، و لما يمر عليهم المحسنون ، يرفدونهم بقطعة خبز، أو حفنة من التين الجاف لكل سائل، أو ينفحونهم بدرهيمات، فعادة ما يفضل زائر المقابر أن يحمل في جيبه النقود المعدنية بدلا من الأوراق، حتى يتمكن من التبرع على اكبر عدد من المتسولين، و يتلقى ادعيتهم لإغناء رصيده الخيري، وتحصين قلاع ذاته الاجتماعية خلال هذا اليوم المقدس، كما تقوم بعض النساء بإعداد الشاي أو الحليب مع القهوة في المنزل، ثم يقدمنه باعتباره عطية إلى المتسولين و قراء/حفظة القرآن الكريم (الطلبة) الجالسين بجوار لحد القريب المتوفى.

وتعرف عملية توزيع الصدقات في يوم عاشوراء "بالتفاريق "، و هذا المصطلح يشير أيضا إلى طقس "المعروف" الذي تقوم به النساء في اليوم الثالث بعد دفن الميت، حيث كلما توفي احد الأقارب، ينقل جثمانه في موكب جنائزي ذكوري رهيب إلى المقبرة لمواراته الثرى بمثواه الأخير، وتمنع النساء بحكم الشريعة من المشاركة في طقوس الدفن هذه، لكن التقليد الشعبي منح النساء فرصة زيارة الميت والترحم عليه في اليوم الثالث، إذ أذن لهن بزيارة قبره والتصدق عليه، ففي هذا اليوم الذي يسمى بيوم "التفاريق"، تذهب النساء في مجموعات إلى المقبرة، ويجدن بالتين الجاف والخبز والحليب والدراهم على السائلين بجوار قبر الميت، و هن يرتدين، كما هو الحال في عاشوراء، الجلباب والأوشحة والتلافيع التي تستر جميع محاسن الجسد الأنثوي.
و من الملاحظ أن يوم عاشوراء، لا يفصل بين الجنسين في تنفيذ طقوس زيارة المقابر، حيث أن كلا الجنسين مدعوين للمشاركة في الإنعام والبر بالضعفاء، ويرتاد المقابر ذكور وإناث، بالرغم من أن المشاركة النسوية تحظى بالقسط الأوفر من اهتمام الباحث. ويقف الزوار عموما بجوار لحود موتاهم وشواهدها ( لوحاتها التعريفية)، محاطين بحفظة القرآن (الطلبة) والمتسولين، والفتيان الذين أضناهم شقاء العيش وضنكه، يتلقمون الدريهمات التي يتكرم عليهم بها الزوار، خصوصا بعد ما يقوم بعض الفتيان بسقي القبور بالماء وتنظيفها، إذ يتلقون أجرا مقابل تقديم خدماتهم هذه. وجرت العادة، انه حينما يبدأ الطلبة في قراءة سور من القرآن، ينغمس الفتيان في غسل اللحود وتنظيف حوافها، وإزالة الأعشاب غير المرغوب فيها، و تنظيف الأوعية التي وضعت عند رؤوس القبور، وملئها بالماء ليرتوي منها الطيور. وعند ختم القراءة القرآنية ، يرفع كل الحاضرين شيوخا، وكهولا، وأطفالا أكفهم متضرعين إلى الله بابتهالات لفائدة الميت والأقرباء الأحياء، داعين لهم بالصبر والسلوان والصحة وطول العمر، و في الختام، يقوم الأقرباء بتوزيع بعض القطع النقدية على طلبة القرآن، والفتيان، والمتسولين، وكل سائل شارك في رفع أكف الضراعة لفائدة الميت وأقربائه. وعندما يأخذ كل من الحاضرين نصيبه من الصدقات، يعرج على تجمع آخر بجوار قبر آخر، و تتم إعادة إنتاج الطقس من جديد.
ويفضل بعض الزوار طلاء قبور الأقرباء المتوفين بألوان فاتحة كالأبيض أو الأخضر تعبر في هذه المناسبة عن ركضهم وراء الطمأنينة والدعة والسكينة والسلام، و يفي بهذا الغرض بعض الشباب المجهز بفرش وأسطال الجير، حيث يقوم بدهن القبور وتغشيتها باللون الأبيض مقابل سعر لا يتعدى عشرين درهما تقريبا. و تعتبر عملية طلاء اللحود أو تنظيفها بمثابة طقوس تطهيرية، الغاية منها تنقية الذات الاجتماعية من أعباء سوء السلوك المتراكمة طيلة السنة، والتخفيف من الضغوط الاجتماعية الناتجة عن وزر المسؤولية في ذلك، حيث يرغب الناس في كل عام (عايشور) بالتصالح مع الذات الأخلاقية والتزاماتها، بما في ذلك من عهود ومواثيق وأيمان لصلة الرحم مع الأموات، محاولين طي صفحة الماضي بمخالفاتها الاجتماعية وإساءتها للقيم الأخلاقية عبر مراجعة طقوسية للذات تتفاءل بالعام الجديد، و تستهله بصفحة بيضاء يتجلى بشرها في ألوان طلاء القبور الزاهية.
و تصرح الكثير من المبحوثات أن زيارة الموتى يوم الجمعة و عاشوراء طقس لازم يجب عليهن احترام تفاصيل ممارسته، و يدعمن اعتقادهن في هذا الطقس من خلال أسطورة واسعة الانتشار، مفادها أن الأموات في مثل هذه المناسبات ينهضون من رقادهم، ويقفون غير مرئيين أمام القبور، يحملون أطباق فارغة، ينتظرون زيارة أقربائهم لتوزيع الصدقات قرب مراقدهم. وإذا لم يأتِ أحد لزيارتهم والتصدق من أجلهم، يولون الأدبار إلى جوف الأرض في غبن و كدر وضيم، و حتى أولئك الذين لا يواظبون على زيارة القبور كل أسبوع يوم الجمعة طيلة السنة، يجب عليهم فعل ذلك على الأقل مرة واحدة في السنة يوم عاشوراء. و يعتقد أن هذا اليوم يوم عظيم تفتح أثناءه أبواب السماء، و تقبل فيه أدعية الخاشعين. و يصبح الناس أكثر سخاء، يركضون بحثا عن أدعية السائلين، سعيا منهم إلى حصد أكبر ذخيرة من الأدعية لتحصنهم ضد تقلبات عجلة القدر ابتداء من عايشور حتى عايشور المقبل.
و يشكل الاحتفال بعاشوراء مناسبة للمسلمين لإخراج الزكاة، تلك الضريبة الشرعية الواجبة، لفائدة الفقراء والمحتاجين في شكل نقود أو سلع أو حيوانات أو غلة، وهذا التعشير عن الممتلكات يصادف العاشر من محرم ويسمى بالعشر، تلك كلمة أخرى، قد تستمد عاشوراء اشتقاقها منها، وهي ضريبة تدفع عن الأرباح السنوية الناتجة عن عملية التجارة، أو الحصاد، أو تربية الماشية، أو الادخار بعد حيازة سنة واحدة. إذن، فمن مقاصد عاشوراء التطهير السنوي للذات الاجتماعية على المستوى الفردي والجماعي من خلال المصالحة مع الرقابة الأخلاقية الذاتية عن طريق التكفير عن الخطايا بالسخاء والجود والكرم، وزيارة المقابر، وبالنسبة للبعض الآخر، عن طريق الصوم والصلاة والبرهنة على التوبة الصادقة، وتندرج طقوس التبرع والزكاة في إطار المظاهر الاقتصادية للتدين التي تستند إلى التكافل والتضامن الاجتماعي.
وعادة ما ينعقد يوم عاشوراء سوق أسبوعي على حدود المقبرة، لبيع أنواع مختلفة من المنتجات من معدات المطبخ، والبخور، والفواكه الطازجة والجافة، والدجاج البلدي، إلى الملابس المستعملة المستوردة (البال)، كما يتم تنظيم عروض كوميدية من قبل منشطي الحلقة في الشارع على شكل تجمعات عامة في شكل دوائر. وتزدحم حلقات العرافين بالأعضاء الاجتماعيين البسطاء الذين يرغبون على الدوام في السيطرة الخرافية على المصير، وعادة ما يتوفر العراف أو العرافة على شخصية كاريزماتية ، تمكنه من كسب ثقة زبنائه، فيؤكد لهم أنه قادر على التنبؤ بالمستقبل، ويعمل على تفكيك رموز حياتهم المليئة بالموانع وأعطاب القدر، ما يسميه العامة بالبخت المائل أو الحظ العاسر (ماعندي زهر). و تصب معظم أنشطة السوق في جذب النساء في المقام الأول، رغم أن الفضاء هو أيضا مناسبة للرجال لإثبات فحولتهم، و إرضاء زوجاتهم عن طريق التسوق المدرار في مناسبة عاشوراء، حيث أن الزوج الفحل، على سبيل المثال، هو من يشتري فائضا من الفواكه الجافة مثل اللوز والجوز والتين الجاف والتمر-- وقس على ذلك شراؤه لكبش أضحية عيد الأضحى المقرن، الممتلئ الجسم، وذي البنية القوية، وإلا فسيصنف خروف العيد الذي اقتناه الزوج في خانة القطط (موش) من قبل الزوجة -- ويشكل سخاء الزوج في المناسبات والأعياد مصدر إعجاب وتقدير لدى نساء الدار، حيث تتباهى بمشترياته وكثرة رماده الأمهات والزوجة أو الزوجات في حال التعدد، والبنات، و الأخوات ، و الأصهار الإناث.
وفي إطار حديثنا عن سوق المقبرة، نوضح أن عرافي الحلقة، عادة ما يقومون بجذب المتفرجين الذكور من جماهير الحضور، و على عكس الرجال، يشارك عدد قليل جدا من النساء في مثل هذه التجمعات، لأنهن يخجلن من كشف مشاكلهن في الأماكن العامة، و يبدو أن حلقة العراف التي عادة ما تديرها امرأة، تشكل فرصة للبعض لتفريغ مشاكلهم الاجتماعية والترويح عن ذواتهم، بل هي إجازة قصيرة الأمد لشراء وهم الأمل من عرافة تؤاسي زبناءها وتصبرهم بوعود يستبشرون بها فأل خيرات وهبات غيبية آتية في الطريق. ويدل تكاثر باعة البخور و الأعشاب الطبية في السوق على أن النساء، هن الشريحة الفاعلة والمعنية بالتسوق في عاشوراء، إذ يشترين كميات كبيرة من هذه المكونات، و يعتقدن في تأثيرها السحري، نظرا لتزامنها مع هذا اليوم المقدس، و نظرا لانتشار معتقد شعبي مفاده أن البخور و الأعشاب الطبية التي يتم اقتناؤها في يوم عاشوراء، تحافظ على فعاليتها طيلة السنة، ومن تم يتم تخزينها لاستخدامها في مناسبات سحرية معينة أيام الأعياد والأفراح. ويشكل هذا السوق مناسبة لبيع النادر من النباتات والبخور، ويخلف انطباعا مضمونه أن الإناث تحتمي وتتمنع وتحصن آلياتها الدفاعية ضد تسلط البطريرك بأسلحة القوى السحرية والسيطرة الخرافية على المصير، خصوصا داخل مجالهن الأسري الخاص، إذ لا يزال المعتقد السحري حيا قويا يتحكم في المخيلة الشعبية الأنثوية و الذكورية معا.
د.محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.