ظهرت نتائج اليسار في الانتخابات الجماعية والجهوية شحيحة ولا تعكس الحضور الذي كان يملكه هذا التيار في المغرب خلال سنوات خلت. فالاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية خرجا بصفر منصب في رئاسة الجهات، ولم يحصلا على عمودية أيّ مدينة كبرى أو متوسطة، باستثناء كلميم التي حازها الاتحادي عبد الوهاب بلفقيه. وبالنظر إلى لغة الأرقام، يظهر الاتحاد الاشتراكي أكبر الخاسرين، فقد حلّ سادسًا في الانتخابات الجهوية ب48 مقعدا، بينما حلّ التقدم والاشتراكية ثامنا ب23 مقعدا. أما في الانتخابات الجماعية، فقد حاز حزب "الوردة" 2656 مقعدا بناقص 570 مقعدا عن انتخابات 2009 ممّا بوأه المركز السادس، بينما استطاع حزب "الكتاب" الحلول سابعا بعدما تقدم في نتائجه مقارنة بانتخابات 2009، إذ حصل على 1766 مقعدا، بزيادة قدرها 664 مقعدا. وبمنطق الأرقام أيضا، لم تحقق فيدرالية اليسار الديمقراطي المنتظر منها، وتوقفت في الانتخابات الجماعية عند المركز التاسع ب333 مقعدا، وهو رقم ضعيف مقارنة بنتائجها عام 2009 عندما حصدت 475 مقعدا (كانت تسمى بتحالف اليسار). أما على الصعيد الجهوي، فكانت نسبتها جد ضعيفة ولم تتجاوز 0.15 في المائة من مجموع المقاعد، وتقدم عليها في الترتيب حزبا العهد الديمقراطي والإصلاح والتنمية. تاريخ من الانشقاقات يؤكد العديد من المتتبعين أن أزمة اليسار في المغرب تعود إلى كثرة الانشقاقات التي طالته منذ دخوله حكومة التناوب، إذ انسحبت منه عدة أسماء بارزة كوّنت أحزابا أخرى، كالمؤتمر الوطني الاتحادي وجمعية الوفاء للديمقراطية، الأمر الذي انعكس على ما هو نقابي بخروج جلّ مكوّنات مركزيته النقابية، أي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وكذلك على ما هو ثقافي (اتحاد كتاب المغرب) وعلى ما هو جمعوي. وحتى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حليفة الاتحاد سابقا في الكتلة الوطنية، لم تسلم بدورها من الانشقاق بعدما خرج منها الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وكذلك خرج في وقت لاحق الحزب الاشتراكي من رحم المؤتمر الوطني الاتحادي، كما انشقت جبهة القوى الديمقراطية عن حزب التقدم والاشتراكية، لتتعزز حكاية الانشقاقات بخروج البديل الديمقراطي عن الاتحاد الاشتراكي قبل أشهر. اختارت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي أن تسير في اتجاه توحيد اليسار بعد الانشقاق الذي شهدته، فاتحدت مع ثلاثة مكوّنات يسارية صغيرة، وخلقت "اليسار الاشتراكي الموحد"، ثم اتحدت بعد ذلك مع جمعية الوفاء للديمقراطية، وخرج إلى الوجود الحزب الاشتراكي الموحد. ثم قرّر هذا الحزب الدخول في تجمع يساري مع أحزاب النهج الديمقراطي والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي، وبعد ذلك اتفقت الأحزاب المذكورة، باستثناء النهج على الدخول في انتخابات 2007 باسم "تحالف اليسار الديمقراطي"، لتتفق عام 2014 على تشكيل الفيدرالية. ضرورة تغيير المسار "من خلال الأرقام النهائية، يتضح أن التراجع بصم أكثر اليسار المعارض، أي الفيدرالية، ويسار الوسط، أي الاتحاد الاشتراكي. أما اليسار الليّن، أي التقدم والاشتراكية، فحقق تقدما نسبيا"، يقول الباحث في القانون الدستوري، أمين السعيد، مضيفًا أن "النتائج لا تشكّل صدمة، فهي مجرّد انعكاس لحجم الأزمة التي تعصف بالاتحاد الاشتراكي، خاصة بعد صعود إدريس لشكر، أما حزب (الكتاب)، فما حققه لا يوازي مشاركته في الحكومة والتعبئة التي قام بها". وتابع السعيد في تصريحات ل"هسبريس"، أن "أحزاب اليسار تأثرت كثيرا بالتشتت الانتخابي وبنسب المشاركة الضعيفة، الأمر الذي ساهم في صعود حزب العدالة والتنمية الذي يتوفر على كتل انتخابية وقواعد واسعة. كما أدت أحزاب اليسار ككّل ضريبة ندرة الشخصيات المؤثرة داخلها التي تستطيع أن تحافظ أو تكسب قلاعا انتخابية مهمة، بينما نرى عند العدالة والتنمية شخصيات وازنة لها القدرة على التأثير في الرأي العام". مستقبل حذر يعترف القيادي داخل الحزب الاشتراكي الموحد، محمد بولامي، بمعاناة أغلب أطياف اليسار المغربي من أزمة طاحنة بدأت منذ دخول الاتحاد الاشتراكي حكومة التناوب، وتمظهرت في الخلافات الكبيرة التي وقعت داخل الكتلة الوطنية، ثم الانشقاقات المذكورة داخله، زاد من تأثيرها، فتح حزب "الوردة" أبوابه أمام الأعيان والكائنات الانتخابية للحفاظ على موقعه، والإجراءات المعاكسة تماما لروح اليسار التي قام بها وزراؤه في حكومة التناوب. وعن تراجع أحزاب الفيدرالية مقارنة بنتائج 2009، أرجع بولامي ذلك إلى ثلاثة أسباب: الأول أن جميع مترّشحي أحزاب الفدرالية قدموا ترشيحاتهم باسمها عكس 2009 عندما تقدم بعضهم باسم أحزابهم. الثاني وقوع أخطاء تقنية منعت تغطية أكبر عدد من الجهات، مع وقوع خروقات انتخابية ضد الفيدرالية. الثالث: طرد هيئتها التنفيذية لعدد من مستشاريها بسبب قيامهم بتحالفات "مشبوهة وغير مشروعة" ما بعد انتخابات 2009. ويرى بولامي أن الفيدرالية خُلقت لتحقيق مزيد من الحلم الذي بدأه بنسعيد أيت إيدر وقياديين آخرين، أي توحيد اليسار المغربي، إذ حاولت أن تجعل من حركة 20 فبراير فرصة جديدة لهذا التوحيد، غير أن حزبي "الوردة و"الكتاب" كان لهما توّجه مغاير بعدما رفضا المشاركة في الحراك. بيد أن هذا الرفض، يستدرك بولامي، لا يمنع من تراقب محتمل، لاسيما بعد إعلان إمكانية التحالف بين الحزبين إضافة إلى حزب الاستقلال، بالنظر للتاريخ المشترك لهذه الإطارات السياسية. ويتحدث بولامي بكثير من الثقة عن كون المستقبل لا يزال قائما أمام المشروع اليساري، دليله في ذلك، انضمام أحمد بلافريج إلى الفيدرالية قادما من الاتحاد الاشتراكي، وترّشح أعضاء حزب البديل الديمقراطي بألوان الفيدرالية، واستبعاد التحالف مع أحزاب لا تتقاسم معها الفيدرالية الإيديولوجية أو التاريخ النضالي، والدعم الذي حصلت عليه الفيدرالية من شباب 20 فبراير كجمعية أنفاس، ليخلص إلى أن اليسار في طور إعادة البناء، وطبيعي أن يأخذ ذلك بعض الوقت.