تماما كما حصل خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2009، كرست انتخابات الجماعات الترابية لسنة 2015 من جديد تصدر حزب الأصالة والمعاصرة لسلم ترتيب الأحزاب السياسية من حيث عدد المقاعد، كما أعطت لحزب الاستقلال نفس مركز الوصافة خلال الاستحقاقين المذكورين. لكن، مع ذلك، فإن الخبر الهام الذي تصدر عناوين الأخبار في مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وأثار انتباه مختلف الملاحظين والمتتبعين للشأن السياسي في بلادنا، كان يهم النتائج التي حققها حزب العدالة والتنمية. فهذا الحزب انتقل من حيث عدد المقاعد من الرتبة السادسة إلى الرتبة الثالثة، ورفع عدد مقاعده ثلاث مرات (من 1513 إلى 5021 مقعدا)، كما تصدر النتائج الخاصة بانتخابات الجهات (174 مقعدا)، وحل الأول في خمس من بينها (درعة تافيلالت، الدارالبيضاءسطات، فاسمكناس، الرباطسلاالقنيطرة، سوس ماسة). والأهم من ذلك الفوز الكاسح وغير المسبوق الذي حققه في مدن كبيرة وإستراتيجية كان أعضاؤه وأنصاره قبل غيرهم لا يصدقون أن يتمكن حزبهم من ضمان تسييرها لوحده ودونما حاجة إلى تحالفات (الدارالبيضاء، طنجة، فاس، أكادير...). دون أن ننسى الخسارة المدوية التي كبدها لحزب الاستقلال، وعلى وجه التحديد لأمينه العام، في معقله بالعاصمة العلمية، متمكنا بذلك من الانتقام لنفسه من حميد شباط الذي كان قبل عامين قاب قوسين أو أدنى من العصف بأول تجربة حكومية يشارك فيها ويقودها حزب ذو مرجعية إسلامية. قبل إجراء هذا الاقتراع، كان أغلب المهتمين والمتتبعين يقدرون أن "الحزب الإسلامي" سيحسن من نتائجه مقارنة بما حصل خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2009. فهو اليوم في موقع حكومي يوفر له إمكانيات مادية ولوجيستيكية تسمح له بإجراء حملة انتخابية قوية وفاعلة، كما يوفر له إمكانية توسيع دائرة المرشحين باسمه عبر استقطاب فاعلين انتخابيين كانوا حتى وقت قريب يخافون من الاقتراب منه، ويقدرون أن الانتماء إليه أو الترشح باسمه قد يجلب عليهم غضب بعض الجهات في الدولة. ثم إن المناخ السياسي الوطني والدولي الذي يجري فيه هذا الاستحقاق، وبعض التدابير القانونية وغير القانونية التي جرى اتخاذها في مرحلة التحضير (الإشراف السياسي لرئيس الحكومة/ الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عضوية وزير العدل القيادي بنفس الحزب في اللجنة المركزية للإشراف على العملية الانتخابية، الإلغاء المفاجئ والمثير للبطائق الانتخابية، اتخاذ إجراءات تأديبية في حق بعض رجال السلطة...) كلها عوامل لم تعد تسمح لمنافسه الرئيسي، أي حزب الأصالة والمعاصرة، من الاستفادة من نفس الظروف التي مكنته خلال الانتخابات الجماعية السابقة من التحكم في مجريات الاقتراع وفي نتائجه، وتوجيه ضربة قوية لعبد الإله بن كيران وإخوانه. لكن مع ذلك لم يكن متوقعا أن يكون يتقدم "الحزب الإسلامي" بنفس هذه الكيفية المثيرة للانتباه، خصوصا عندما يتم الأخذ بعين الاعتبار المعطيات التالية: أولا تراجع ما يمكن تسميته ب"صحوة التنظيمات الإسلامية" في عدد من البلدان الأخرى التي كانت تشكل نموذجا ملهما لحزب العدالة والتنمية المغربي، وتحديدا الحزب الذي يحمل نفس الاسم في تركيا، والإخوان المسلمين في مصر، علاوة على حركة النهضة في تونس. وإن كان تراجع التنظيمات المذكورة لم يكن في جميع الحالات يعكس نفور الناخبين منها، بل كان في بعضها يجسد عدم تحمل القوى الأخرى المنافسة وضيق صدرها من وصولهم إلى السلطة، كما هو الأمر في الحالة المصرية. ثانيا الحصيلة المتواضعة للسنوات الأربع التي مرت حتى الآن من إشرافه على تدبير الشأن الحكومي، وخاصة عجزه على ترجمة أقوى الوعود التي تضمنها برنامجه الانتخابي (نسبة النمو، محاربة الفساد، قضية التشغيل...)، وإقدامه على اتخاذ إجراءات غير شعبية تمس فئات اجتماعية (الطبقة الوسطى) يفترض أنها هي التي أدلت بأصواتها لفائدته خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومكنته بالتالي من أن يفرض نفسه، ولأول مرة، باعتباره القوة الانتخابية الأولى في المغرب. ثالثا رفض الإسلاميين الآخرين تأييده والاصطفاف بجانبه. فالعدل والإحسان، التي كثيرا ما "اتهمت" بتصويت أعضائها وأنصارها لفائدة مرشحيه، وجهت دعوة صريحة لمقاطعة هذا الاستحقاق الانتخابي، بل ودخلت قبيل موعد التصويت في سجال سياسي مع أمينه العام. أما السلفيون، الذين اعتادوا دعوة مريديهم للتصويت لمصلحته بل وشكلوا قوته الضاربة في مدن محددة (طنجة، مراكش)، فقد انخرط بعضهم في أحزاب أخرى (النهضة والفضيلة، والحركة الاجتماعية الديمقراطية)، في حين آثر بعضهم الآخر (الشيخ عبد الرحمان المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش) أخذ مسافة حياله، مفضلين حث من يدينون بالولاء لهم على التصويت لفائدة "المرشح الأصلح". رابعا المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الأجواء التي أحاطت بانتخابات 2011، التي كانت قد فرضت العدالة والتنمية كضرورة سياسية، وألزمت الأصالة والمعاصرة بممارسة نوع من "التحجيم الذاتي". وبداية شعور هذا الأخير بأنه قد تجاوز العاصفة، وأن بإمكانه الآن أن يعلن عن نفسه من جديد، وأن يرد الاعتبار له في مواجهة حزب لا يتردد في اتهامه بازدواجية الخطاب، وبالسعي إلى أخونة الدولة والمجتمع. خامسا مشاركة أحزاب يسارية كانت قد قاطعت الانتخابات التشريعية الأخيرة. فهي وإن كانت لا تتوفر على "شطارة" انتخابية كبيرة، وغير متمرسة بشكل كبير على نزالات من هذا النوع، كما لا تتوفر على أجهزة تنظيمية قوية تسمح لها بترجمة قوة وانسجام خطابها السياسي إلى معطى انتخابي، مع ذلك كان هناك اعتقاد أن ما تتمتع به من مصداقية ونزاهة وثبات على الموقف يؤهلها لأن تستقطب جزءا من الناخبين الذين صوتوا خلال استحقاق 2011 لفائدة العدالة والتنمية لأن الحزب اليساري الذي يتقاسمون وإياه نفس القيم والاختيارات، ويثقون في قيادته، آثر عدم المشاركة في ذلك الاستحقاق. فيكف يمكن قراءة هذه النتائج التي تمكن من خلالها العدالة والتنمية أن يكذب كل هذه التكهنات، وأن يفرض نفسه باعتباره القوة السياسية الرئيسية في البلاد؟ إذا كان الجواب على هذا السؤال يحتاج في حقيقة الأمر إلى دراسة أكثر دقة، خاصة تلك التي تهم طبيعة المصوتين على العدالة والتنمية، وحقيقة دوافعهم، مع ذلك يمكن من الآن الدفع ببعض الفرضيات في هذا المجال: أولا إن الجو الذي صاحب الانتخابات التشريعية لسنة 2011 يبدو أنه لم يتغير كثيرا، بل ما يزال حاضرا بطريقة أو أخرى. نعم، إن جذوة الاحتجاج قد اختفت بكيفية تكاد تكون مطلقة، ولم يعد يحضر إلا في بعض المناسبات ذات الطابع الرمزي والمحدود، ولكنه لا يزال حاضرا بكيفية صامتة. وإن جزءا غير يسير من الناخبين يعتقدون بأن "الحزب الإسلامي" يجسد هذا الشكل من الاحتجاج. صحيح أن الحزب المذكور، أو على الأصح قيادته، كان ضد الحراك الشعبي الذي احتضنته حركة 20 فبراير، وأن حرصه على الاستمرار في قيادة الحكومة فرض عليه تقديم تنازلات سياسية غير مبررة، واتخاذ تدابير غير شعبية، فضلا عن إبداء نوع من الاستسلام إزاء تفعيل شعار محاربة الفساد، إلا أنه لا يزال في نظر بعض الفئات الاجتماعية التي صوتت لفائدته يمتلك العرض السياسي الأقوى، ويجسد بالنسبة إليهم، أكثر من باقي منافسيه، الأمل في التغيير. ثانيا إن التقاطب السياسي الحاد الذي أضحى يعرفه كل استحقاق انتخابي منذ الانتخابات الجماعية لسنة 2009 يبدو أنه يلعب بشكل كبير لفائدة حزب العدالة والتنمية. لقد حصل ذلك خلال آخر انتخابات تشريعية حينما خاض هذا الحزب، وتحديدا أمينه العام، هجوما قويا ضد تحالف الثمانية، وخاصة قيادة حزب الأصالة والمعاصرة. وها هو الأمر نفسه يتكرر خلال انتخابات الجماعات الترابية الأخيرة عندما حول رئيس الحكومة، وعلى غير العادة في استحقاق انتخابي من هذا النوع، التجمعات الانتخابية التي أشرف على تأطيرها إلى منبر خطابي لتسفيه قادة أحزاب المعارضة، والنيل منهم، والتشكيك في ذمة بعضهم. ثالثا إن المعارضة البرلمانية تبدو جد ضعيفة، وغير قادرة على إنتاج عرض سياسي منافس، ويمكن أن يشكل بديلا لما يقدمه حزب العدالة والتنمية. فالاتحاد الاشتراكي لا يزال يعيش على إيقاع مخلفات مؤتمره الأخير، ويعرف أزمة تنظيمية وسياسية عميقة لم تعد خافية على أحد، والأكثر من ذلك أنه أصبح في نظر الكثيرين مفتقدا لأهم ما ظل يميزه عن الآخرين، أي استقلالية قراراته واختياراته. وحزب الاستقلال وإن كان قد استطاع التغطية على مشاكله الداخلية والحد نوعا ما من امتداداتها وتداعياتها في صفوف ناخبيه، فيبدو أن وجود حميد شباط على رأسه هو في حد ذاته يمثل مشكلة رئيسية بالنسبة إليه. أما حزب الأصالة والمعاصرة، فرغم عودة مؤسسه إلى موقعه السياسي الطبيعي، والتغييرات التي حصلت على مستوى قيادته، فيبدو أنه لا يزال يعيش "عقدة التأسيس"، وأن صفة "حزب الدولة" لا تزال تلازمه وتطارده. رابعا إن وجود حزب جد منظم، يرأسه أمين عام مثير للانتباه، ويرتكز على مرجعية وعقيدة تمنحه مضمونا سياسيا، ويصرف خطابا قيميا وأخلاقيا قريبا من شرائح مهمة داخل المجتمع، كما يتوفر على موارد بشرية جد منضبطة، ويبدي في نفس الوقت قدرة كبيرة على التكيف والانحناء للعاصفة ونهج الواقعة السياسية، سيما عندما يتعلق الأمر بالملكية ومحيطها، لا يزال بإمكانه أن ينتصر على المال ويدحضه. فإلى حدود السنوات الأخيرة كان الاعتقاد السائد هو أن الرهان على الأعيان وعلى الخدمة قد قضى على السياسة وعلى الفكرة وأصابهما في مقتل، لكن ها نحن أمام معطى أساسي يبين كيف أن التصويت السياسي لا يزال يحتفظ لنفسه بمكانة هامة في سلوك الناخبين. صحيح أن التصويت على "الحزب الإسلامي" يعكس نجاح الحزب في نسج علاقات خدماتية واسعة مع شريحة مهمة من الناخبين، لكن مع ذلك يصعب التصديق أن علاقة هذا الحزب بمن صوتوا لفائدته مبنية فقط على هذا العنصر، خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن جزء من هؤلاء المصوتين ينتمي إلى فئة ظلت حتى وقت قريب هي التي تدلي بأصواتها لحزب ذي مرجعية يسارية (الطبقة الوسطى)، وأن معظم الأصوات والمقاعد التي حصل عليها الحزب تكاد تنحصر في مركز السياسة (المجال الحضري)، فضلا عن تصدره لنتائج الانتخابات الجهوية، التي يبدو أن كبر حجم دوائرها الانتخابية يعطي بعدا سياسيا أكبر للعملية الانتخابية مقارنة بالانتخابات الخاصة بالجماعات. * أستاذ علم السياسة كلية الحقوق السويسي