في تناول الباحثين للظاهرة الإنتخابية المغربية ،ظلت تُطرح ثلاث أسئلةٍ قلقةٍ وشائكةٍ ،تهم إشكالات التنافسية ،الرهانات ،والتسييس . إشكالياتٌ غيرُ قابلةٍ للإلتفاف لتحليل مُحددات حقل إنتخابيٍ يبدو عصياً أمام المقاربات والإطارات التفسيرية المُتداولة . إرتباطاً بإشكالية التسييس ،فالصعوبة هنا، هي قراءة النتائج، اعتمادا على كون الانتخابات- بالتعريف الكوني- لحظة للحرية وللفرز وللقرار، لحظة لتكثيف السياسية والصراع السياسي بين القيم والبرامج والمشاريع المجتمعية المتنافسة. نعم إن السلوك الانتخابي، ليس سلوكا عقلانيا بالضرورة، لكن هشاشة التقاليد الحزبية وتخلف البنيات المجتمعية وتدني الوعي المدني وانحصار فضاءات المواطنة، وضغط الدوائر العائلية والقبلية والزبونية على القرار الفردي المستقل،كل هذه المعطيات المغربية تعمق ضعف منسوب المؤثرات السياسية داخل الحقل الانتخابي . من جهةٍ أخرى ،فإن تواري خطاب الانتقال الديمقراطي كمكون أساسي لشبكة قراءة الاستحقاقات الانتخابية، خلال السنوات الأخيرة ببلادنا-خاصة قبل 2011- قد سمح لبعض الباحثين بإعادة موقعة "الظاهرة الانتخابية" ضمن إشكالية أكثر راديكالية من الناحية المنهجية، ألا وهي إشكالية مرور المجتمع المغربي السياسية. هذه الإشكالية التي ترتبط بضعف جيوب وفضاءات التسييس، مقارنة بقارات اللاتسييس التي ما انفكت تتسع رقعتها وتزحف يمينا ويسارا، مع اتخاذها -وفقاً لتعبير الأستاذ ساعف -لمظاهر متعددة حيث تبرز تارة في اللامبالاة التامة تجاه السياسة الشرعية منها وغير الشرعية، وتارة في التعالي عن السياسة وتارة أخرى في التشكيك فيها وفي قواعدها وأخلاقها ورجالاتها. وفي حالات أخرى يبدو اللاتسييس من خلال التعامل بمنظور تقني مع القضايا السياسية الكبرى ونزع الطابع السياسي عن مجال السياسات العمومية والميل إلى تقنقرطتها. وهذا ما جعل البعض يسجل ندرة السياسة أو غيابها داخل المجتمع المغربي، حيث النخب إما ما قبل سياسية أو غير متسيسة، وحيث ولوج السياسة ليس قديما، لذلك لا يجب أن نعتقد أننا فعلا في خضم السياسة، فالانتقال إلى السياسة يحتاج -كما وقفت أدبياتٌ عديدة في هذا الشأن -إلى وقت ليس بالقصير، فالفعل السياسي يظل بطيئا موجها ومراقبا والسياسة تظل على ندرتها وهشاشتها موزعة بين العودة الجزئية والانسحاب، بين اكتساح فضاءات صغيرة جديدة وبين التراجعات عن مجالات وصلتها السياسة في تاريخ سابق.[أعمال ذ.ساعف] بعيداً عن هواجس الباحثين ،شكل رهان عودة السياسة للحقل الإنتخابي ،أحد منطلقات إصلاح السياسة الإنتخابية ،في محطاتها الكبرى ،على عهد حكومة اليوسفي ،من خلال التفكير في الإنتقال الى النمط اللائحي كمدخل ممكنٍ لضخِ منسوبٍ أكبر من السياسة في مفاصل التنافس الإنتخابي . وقد يكون من التكرار هنا أن نُسهب في الوقوف على الجدل الذي رافق أول إنتخابات محلية في المغرب المستقل ،وحول رهانات تفضيل الدولة للنمط الفردي، بناء على مشورة باحثين أجانب كموريس ديفرجي وريمي لوفو، من أجل الحد من هيمنة أحزاب الحركة الوطنية خاصة داخل المدن والحواضر الكبرى. بالمقابل من المُفيد ،التأكيد على أن تغيير نمط الإقتراع من الفردي الى اللائحي ،لم ينتج بالضرورة وبشكلٍ آليٍ أثره المُفترض على السلوك الإنتخابي ، بحثاً عن تصويت برنامجيٍ وسياسيٍ ،ذلك أن الممارسة الإنتخابية على مستوى الاقتراع التشريعي ،قد حولت النمط اللائحي الى فردي مقنع ،خاصة مع دوائر صغيرة لاتتعدى لوائحها أربعة أو ثلاث مرشحين ،أما على المستوى المحلي بالمدن التي يتم الإنتخاب بها عبر اللوائح ،فإن الممارسة الإنتخابية داخلها قد ظلت تحتفظ بمنطق "الدائرة الفردية القديمة"و بثقافة "الإشعاع الشخصي" للمرشح ،كما يبدو ذلك من خلال هندسة وترتيب اللوائح المحلية . وبالطبع فإن إشكالية التسييس لم ترتبط فقط بالإقتراعات المحلية ،بل بمجمل أطوار العمليات الإنتخابية ،فقد تابعنا كيف أن كثيراً من الإنتخابات التشريعية السابقة -نُفكر أساساً في إقتراع 2007-،قد تميزت بإنتصار "اللاسياسية"،حيث لم تُشكل لحظةً للتناظر والتنافس السياسي بين المشاريع المُختلفة ،بعد أن تم تفويت الصراع السياسي "الماكرو وطني" الى نزالات إنتخابية "ميكرو محلية"،تكاد تفتقد المعنى السياسي ،وذلك في ظل تَشَوُشٍ كبير للتقاطبات المُهيكلة عادة للمشهد السياسي والإنتخابي :يسار /يمين ،أغلبية /معارضة ... هذا العجز في إمكانية "المَقْروئية "السياسية للعملية الإنتخابية ،طالما يتم تعزيزها بالتحولات السوسيولوجية لبروفيلات المرشحين ،والتي تتميز بالجنوح الطبيعي للأحزاب -مُختلفة المرجعيات -نحو البحث عن مُرشحين بنفس المواصفات والملامح،تم بالانتقال من حالة المُرشحين /المُناضلين ،إلى المُرشحين /مُقاولي الإنتخابات ،مروراً بلحظة مُرشحي /الإنفتاح من خارج البنية التنظيمية ولكل من داخل المشروع القيمي والفكري،تم المُرشحين الذين ينضبطون لمواصفات الأعيان بمُحدادتهم التقليدية . وفضلاً عن هذا المُعطى البشري ،كثيراً ما أسهم نوعٌ من الإفتتان المفاجئ بمسألة "البرنامج الانتخابي"،تحت وطأة زحف بعض المقاربات" التقنقراطية "على المجال العمومي ،في تحول برامج الأحزاب لمُجرد حُزمةٍ من الإجراءات والأرقام ،المُفتقرة للحد الأدنى من الإنسجام المذهبي،والمطروحة في قطيعة واضحة مع المشروع المجتمعي المُعلن أو المُفترض لهذه الأحزاب،وهو ما يُضيف سكيناً آخر في جسد "السياسة "،المُستباح على أعتاب الممارسة الإنتخابية . هل مع التذكير المُوجز بهذه الخلفية ،يُمْكِنُ اليوم المغامرة بالدفاع على فرضية عودةٌ "مُترددة" للسياسة،بمناسبة الإنتخابات المحلية والجهوية الحالية ؟ نطرح هذا السؤال ونُقدم هذه الفرضية ،على ضوءِ تصاعد نسبيٍ لمُؤشراتٍ عن حضور أكبر للمعنى السياسي لهذه الإنتخابات ،سواءٌ من خلال الرّهانات التي حَمٓلها الفاعلون -في خطاباتهم - لنتائجها ،أو من خلال مضمونها وموضوعاتها الأساسية ،أو إنطلاقاً من التقاطبات الواضحة - نسبياً - والتي تُهيكل تموقعات الأحزاب المُتنافسة داخلها . لننتبه بدايةً ، الى ما قبل ذلك ،وبالضبط إلى الإنتخابات المهنية ،فبالرغم من طبيعتها ،وكذا خصوصية الموارد البشرية المنخرطة في ديناميتها ،فقد عرفت هذه الانتخابات تسييساً متزايداً ،فإذا كان لابد من الإقرار ببعض الإسثتتاءات أو بحالات الإختيار الإجماعي/التوافقي للأجهزة والمكاتب المسيرة للغرف ،فإنه عُموماً يُمْكِنُ قراءة الكثير من نتائجها -لأول مرة -على ضوء تقاطب الأغلبية والمعارضة . أما بالعودة الى قراءة مُجريات ويوميات الحملة الإنتخابية الحالية للجماعات الترابية ،فلا شك أن المُتتبعين قد لاحظوا كيف تسمح سَطوة الصراع الثنائي الحاد بين العدالة والتنمية ،وبين الأصالة والمعاصرة ،بإعطاء الكثير من الطابع السياسي والبعد الوطني للعملية الإنتخابية التي ستتوج بالإقتراع المحلي والجهوي ليوم الجمعة 4شتنبر2015. الحُضور القوي لرئيس الحكومة بقُبعته الحزبية في الحملة ،فضلاً عن العدد المُهم من الوزراء الذين تقدموا لنيل ثقة الناخبين كمُرشحين للمجالس المحلية أو لمجالس الجهات ،من شأنه كذلك أن يَبْصم على تكريس منسوب تسييس أكبر . ولذلك فإن معادلة إقتراع 2015،تعني بالأساس مُحاولة تعبئة "المحلي "لخدمة المشروع "الوطني "،وهي المُعادلة التي طالما تم عكسها في كثير من المحطات الإنتخابية الأخيرة ،عندما كانت المشروع السياسي الوطني يكاد يختفي وراء تفاصيل وكثافة المعارك المحلية . لقد إختار العدالة والتنمية ،و معه -بتفاوت- باقي أحزاب الأغلبية ،إسثتمار الحصيلة الحكومية كركنٍ أساسيٍ في خطاب إنتخابي يبحث عن أفقٍ وطني ،و يريد أن يتحرر قليلاً من فكرة "القُرب"التي طالما تحولت كفكرة مهيكلة للانتخابات المحلية ،إلى العنوان الذي يكثف "إيديولوحيا اللاسياسية "،ويَعملُ على تحويل التنافس حول المشروع والرؤية السياسية الى صراعٍ حول "الخِدْمة" . في المُقابل -وفي نفس الاتجاه عملياً- تكاد تتوحد مُفردات الخطاب السياسي لأحزاب المُعارضة ،في بناء عرضٍ إنتخابيٍ ينطلق من مُهاجمة رئيس الحكومة ،وإنتقاد حصيلة التدبير الحكومي . وهو ما قد يعني نجاح العدالة والتنمية في جر أحزاب المعارضة ،إلى الإقرار بموضوع حكومة بنكيران، كموضوع مركزي لحملة إنتخابات محلية. وهُنا لايجب أن ننسى القدرة التعبوية لهذا الموضوع ،داخل قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الحضرية -معقل التصويت. السياسي -بالنظر لإنتظارات فئاتها من السياسات الإجتماعية والإقتصادية للحكومة ،خاصة المتعلقة منها بإعادة تحديد مضمون الدولة الإجتماعية ،عبر أساساً تفكيك أليات الدعم ومراجعة منظومة التقاعد. كل هذا يُحَمِلُ هذه الإنتخابات شحنةً رهانات إضافية ،إنها الإختبار الذي يُقبل عليه حزب العدالة والتنمية ،لقياس شعبيته بعد أربع سنواتٍ من التدبير ،وعلى بُعد سنة من نهاية ولايته ،كما تُقبل عليه في ذات اللحظة المُعارضة لقياس نفاذ خطابها السياسي. من جهة أخرى ،على مستوى الشكل ،تابعنا في هذا السياق -مثلا- عودة مهمة لتقليد التجمعات الخطابية الكبرى،بعد أن كانت الإستراتيجيات الانتخابية لمختلف الأحزاب قد أصبحت تركز - خاصة بمناسبة الاقتراع المحلي- على الإجتماعات الصغيرة والمغلقة، وعلى تعبئة الشبكات المؤثرة. البحث عن أسباب هذه الفرضية المتفائلة -من حيث تموقعها في الطرف المقابل لأطروحة موت السياسة -قد يقودنا إلى التفكير في الأثر المهيكل لدستور 2011،والذي إنطلق من مُحاولة إعادة تسييس التدبير العمومي ،سواءٌ من حيث ترقية وظيفة الأحزاب ، أو من حيث ربطه لسلطة الإقتراع بالمسؤولية في تدبير الشأن العام ، وهو أثر يبدو أن من شأنه تعزيز الرهان على صناديق الإقتراع، ليس في الإنتخابات التشريعية، بل كذلك في الاقتراع ذي الطبيعة المحلية. كما قد يدفعنا إلى تصور الإستمرارية الجزئيةٍ لروح مرحلة مابعد 2011، باعتبارها أساسا مرحلة طلب متزايد على السياسة،كإحدى عوامل هذا التسييس الملحوظ للمسلسل الإنتخابي . بالقدر نفسه الذي قد يجعلنا نستحضر -بكل التنسيب الضروري - إمكانية الحديث عن "أثر بنكيران "[ L'effet BENKIRAN]،ضمن العوامل المُفسرة لهذه الفرضية، وذلك إنطلاقا من إعتباره كحالة تواصلية خاصة، أسهمت في طبع سياقنا السياسي ،بأسلوبٍ إسثتنائيٍ،يعتمد حُضوراً لافتاً و خطاباً نافذاً . على أنه في الأخير ،لابد من التأكيد على أن تقديم مؤشرات على فرضية ما يشبه عودةً "مُتَرَدِدَةً " للسياسة الى الحقل الإنتخابي؛ أمر يجب أن يحاط بكثير من الحذر المنهجي ؛فالمؤكد أن منسوب التسييس في علاقة بالمشاركة لايرتبط دائما بالكم وبالعدد المرتفع والمتزايد للناخبين ، بقدر ما يعني نوعية المشاركة وطبيعتها، كما أن درجات التسييس داخل المجتمع لاترتبط آليا باتساع فضاءات التواصل العمومي، فكثيرا ما يختفي وراء كثافة الاتصال السياسي والانتخابي منطق "الفرجة" كنقيض لفكرة المشاركة. تماما كما قد يختبأ المنطق الشعبوي المناهض لفكرة السياسة في العمق ،وراء ما قد يبدو خطابات سياسية بعمق جماهيري. ذلك أن تَغلغُل السياسة داخل المُجتمع لا يعني فقط تعزيز فضاءات المُواطنة و ربط السياسات بالإرادة الشعبية ،وإعادة تحجيم الخيارات التقنقراطية ،بل يعني تحرير السياسة نفسها من الإنزلاقات الشعبوية و الفرجوية،والتي من شأنها أن تخلقَ وهماً خادعاً بحياةٍ "سياسيةٍ" عادية . إن حدود هذه العودة "المترددة"، ترتبط من جهة أخرى بالحجم الذي سيأخده تدخل المال في العملية الانتخابية ،وبحياد السلطات العمومية أمام التنافس الحزبي، ثم بدرجة الإقبال على التصويت السياسي في هذا الاقتراع. لتبقى هذه العودة مؤطرة-في نهاية التحليل - بشرطها التاريخي العام ؛حيث يعيش المجتمع المغربي إنتقاله المعقد لحالة السياسة ،كعنوان لانتقالنا الطويل و الصعب نحو الحداثة السياسية، المبنية على سيادة "العقل" و قيمة "الفرد" و روح المواطنة . *برلماني وأستاذ العلوم السياسية