ثمة إحساس جماعي داخل عائلة الديمقراطيين بحالة اختناق عام على المستوى السياسي، إنه الاختناق الذي وصلت إليه العملية الديمقراطية بعد انتخابات 2007، وهو المآل الذي عرفته رمزيا مرحلة كاملة بكل مسمياتها:مرحلة الانفتاح، مرحلة التوافق، مرحلة التناوب التوافقي، مرحلة الانتقال الديمقراطي... لقد بدا واضحا بعد تلك الاستحقاقات أن ثمة مرحلة جديدة قد دخلها المغرب السياسي، وأن فرضية التحول الديمقراطي لم تعد قادرة على قراءة ما وقع، ومؤكد أن الفاعلين السياسيين المنتمين الى العائلة الديمقراطية قد انتبهوا الى الحاجة الماسة لتقديم أجوبة جديدة عن أسئلة هذه المرحلة وإلى التفكير في عناصر جديدة للخط السياسي المطابق لتحولات المرحلة. وهنا لا شك أن الجيل الجديد من الإصلاحات السياسية والدستورية و المؤسساتية التي يطرحها الاتحاد الاشتراكي جزء من هذه الأجوبة، خاصة عندما نضعها داخل إطارها الطبيعي ألا وهو خلاصات المؤتمر الوطني الثامن للاتحاد. إن الاصلاح هنا لا ينطلق من تمثلات معيارية مجردة، بل من خلاصات تجريبية لمرور الحزب في قنوات التدبير الحكومي بكل إكراهاتها. ولا يتعامل مع النص الدستوري بتلك الهالة الدراماتيكية التي ظلت تطبع المسألة الدستورية ببلادنا كبؤرة للتوتر وللصراع حول جوهر السلطة، بل ينطلق من مقاربة وظيفية لإشكاليات التدبير العمومي الناجع والحكامة السياسية الفعالة لنلاحظ أن مفهوم / الانتقال الديمقراطي، ومنذ ندوة لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1997، أصبح مفهوما مركزيا في المعجم السياسي المغربي ومفتاحا له سلطة مفاهيمية لقراءة الأوضاع من طرف الفاعلين، كما أصبح مهيكلا للتقاطبات (الذين يؤمنون بالانتقال / الذين يعتقدون بأننا نعيش ما قبل الانتقال / الذين يقرون بموت الانتقال..) واستمر هذا الوضع إلى غاية 2007 حيث عشنا نهاية معلنة «لخطاب الانتقال الديمقراطي ». كيف نفسر هذا ؟ لقد تحول المفهوم خلال هذه العشرية إلى استعارة برنامجية جيدة. الدولة تستعير المفهوم (وهناك خطب رسمية استعملت عبارة الانتقال الديمقراطي) لتوصيف مرحلة انتقال المُلك ومرحلة «العهد الجديد» والأحزاب استعارت المفهوم لتوصيف مرحلة الإصلاحات السياسية وتجربة حكومة التناوب. نفس الشيء بالنسبة للصحافة، المجتمع المدني، وللمثقفين، حيث تم احتضان هذا المفهوم بكل سهولة ويسر. ما وقع سنة 2007، معناه أن النخب والفاعلين لم يعودوا قادرين على الدفاع عن انتقال لا نهائي، بنقطة بداية وبدون نقطة نهاية. لذلك أصبح البعض يتحدث عن نهاية الانتقال، والبعض الآخر يتحدث عن موت الانتقال. جزء من الفاعلين اعتبروا أن مسلسل التحول دخل في منطقة التراجعات، وجزء آخر أصبح يتحدث عن نهاية المرحلة الانتقالية والدخول في مرحلة «التطبيع السياسي» ومرحلة ما يعرف في علم السياسة بالتدعيم (( consolidation أو التثبيت. بالنسبة للباحثين.. وبالكثير من الاختزال يمكن الإشارة إلى الاتجاه نحو توصيف المرحلة السياسية التي تعيشها بلادنا على أنها مرحلة سلطوية جديدة، أو ما يعرفه البعض بطريق التحديث السلطوي، ثم هناك الاتجاه إلى توصيف أكثر حذرا بالحديث عن مرحلة الما بعد سلطوية. مرحلة يتم فيها تفكيك الجوانب السلطوية للنظام، لكن هذا الخروج من السلطوية لا يعني بالضرورة دخولا إلى الدمقرطة. لكن هذا لا يمنع أن نسجل ملاحظة أن الخطاب العمومي حول الانتقال كان يحصر هذه العملية في المستوى السياسي، دون الانتباه إلى مضمونها المجتمعي العام، خاصة أن هذا الخطاب ظل يحمل خلفية إسقاطية لنماذج تاريخية قريبة مثل النموذج الإسباني. إذ يتغافل الجميع دائما أن التجارب التي طالما تستحضر في سياق المقارنات، عاشت مرحلة الانتقال كتكثيف سياسي لديناميات مجتمعية مترسخة وحقيقية، وأنها عاشت لحظة التحول السياسي في السلطة والعلائق والمؤسسات في وقت كانت الدولة والمجتمع، قد حققتا المرور التاريخي لزمن الحداثة والمدنية، بكل شروطهما الثقافية والاقتصادية. لقد تابعنا جميعا الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة (2007 و2009)، وإذا كان خطاب الانتقال قد توارى كمكون رئيسي لقراءة الاستحقاقات الانتخابية، كما كان يقع في المحطات السابقة ( 93، 97، 2002 ). فإن القراءة العامة لتحولات المغرب السياسي أصبحت يمكن أن تطرح من جديد ضمن إشكالية أكثر راديكالية من الناحية المنهجية، ألا وهي إشكالية مرور المجتمع المغربي للسياسية. إن هناك من يعتبر بأننا تحولنا من إشكالية الانتقال الديمقراطي إلى إشكالية أعمق.. هي إشكالية المرور المعقد للسياسة. حيث يتحدث الباحثون عن ضعف جيوب وفضاءات التسييس، مقارنة بقارات اللاتسييس التي ما انفكت تتسع رقعتها وتزحف بقوة، معبرة عن نفسها إما من خلال اللامبالاة التامة تجاه السياسة أو من خلال التعالي عن السياسة أو التشكيك فيها، كما يبدو اللاتسييس من خلال التعامل بمنظور تقني مع القضايا السياسية الكبرى ونزع الطابع السياسي عن مجال السياسات العمومية والميل إلى تقنقرطتها. كما يتحدث البعض عن ندرة السياسة أو غيابها داخل المجتمع، حيث تظل السياسة على هشاشتها موزعة بين الغياب او العودة الجزئية أو الانسحاب أو التراجع عن مجالات وصلتها في السابق. إننا أمام إشكالية تأسيسية، هي بناء مجال سياسي عمومي يشكل قطيعة مع تاريخ من اللاسياسة، وهي بذلك تختلف جذريا مع دلالات ومضامين «أزمة السياسة» في الغرب التي تعني إشكالية المشاركة والشرخ بين المواطن والعالم السياسي، حيث الأزمة في الغرب ترتبط بأزمة الديمقراطية، أما في بلادنا فترتبط بمرحلة ما قبل الدمقرطة. ولا شك أن هذا السياق العام لأزمة السياسة، أثر على وتيرة وطبيعة معالجة قضية الإصلاح: أولا.. في مقابل النزوع «الدستراني» للحركة الوطنية ممثلة في الكتلة خلال التسعينات والتي قدمت ملامح تصور إصلاحات سياسية ودستورية متكاملة شكلت جوهر العملية السياسية الصراعية / التوافقية مع الدولة، نجحت الدولة في السنوات الأخيرة إلى تحويل النقاش من الإطار الماكرو سياسي، إلى إطارات جزئية: القضاء، الجهوية، التنمية البشرية، حقوق الإنسان.... ثانيا.. هناك توجه للحفاظ على الإصلاح كسياسات عمومية وكشعار سياسي وكبرنامج للدولة، لكن مع الحرص على إعطائه أبعادا أكثر تقنية وأقل تسييسا، حيث يختزل فيما يعرف بالحكامة، وهو ما قد يجعل الخيار التحديثي ينتصر على خيار الحداثة ثالثا..المؤكد أن هناك الكثير من التحولات التي تعرفها مسألة المطالبة بالإصلاح. لنلاحظ بأن الفاعل الحزبي لم يعد وحده يحتكر المطالبة بالإصلاح، فإيديولوجيا الإصلاح أصبحت تقريبا ضمن دائرة المشترك العمومي داخل البلاد. والمؤسسة الملكية أصبحت كذلك حاملة لخطاب إصلاحي، وفي كثير من الحالات فمبادرات إصلاحية قوية تأتي من حيث لا ننتظر، مثل حالة قضية المرأة والتي تم من خلالها استثمار الفصل 19 من الدستور والذي تحول هنا من رمز للمحافظة إلى بؤرة للتحديث. ثم لنلاحظ كذلك أن النظام السياسي طور آليات جديدة وداخلية لخلق مطالب الإصلاح، حتى لا يظل أسيرا لمعادلة أو لخطاطة توزيع العمل بين القوى السياسية كمُطالبة بالإصلاح والدولة كمُطالبة (برفع الميم) بالإصلاح. وهنا مثلا نذكر حالتي: الأولى تقرير الإنصاف والمصالحة والثانية تقرير الخمسينية. إن رهان الدولة هنا هو خلق مرجعيات حديثة للإصلاح، تكسير احتكارية اليسار لمطلب الإصلاح، ثم تحقيق ما يمكن تسميته «باختصار دورة المطالب» ، وهذا ما يجعل النظام السياسي متحكما بشكل أكبر في تدبير أجندة الإصلاح. رابعا.أصبح الطلب على الاصلاح يتحول شيئا فشيئا الى مسألة مجتمع وليس فقط الى قضية طبقة سياسية، وهنا فالحزب عليه أن يعي بأن دوره لم يعد الدفاع عن مطالب المجتمع نيابة عن هذا المجتمع، بل أصبح هو مواكبة ومصاحبة المجتمع في التعبير عن انتظاراته وأسئلته. وهذا مهم جدا إن العنوان الاكثر تعبيرا عن هذا الاختناق الديمقراطي، هو ما أسمته أدبيات الاتحاد بأزمة السياسة، هذه الازمة التي تظهر من خلال عودة كل أشكال التدبير اللاسياسي لقضايا البلاد، والنفس الجديد الذي أخذته الاختيارات التقنقراطية، وتزايد رقعة اللامسؤولية المنظمة، وهامشية الحقل السياسي المبني على التمثيلية والتداول والمراقبة، واللاتسييس المتزايد للظاهرة الانتخابية، والهوة المتزايدة الاتساع بين نتائج الانتخابات والمترتبات السياسية المتولدة عنها، وتقلص ممكنات التنخيب عبر النافذة الحزبية، والمس باستقلالية القرار الحزبي، وتحويل الكائنات الحزبية الى مسوغ كاريكاتوري لإدماج التقنقراط في دائرة القرار العمومي، وتطوير خطاب يمجد فعالية ونجاعة التقنيين المحميين من الرقابة ويبخس مردودية وأداء المنتخبين والمتحزبين. لأجل ذلك، فمطلب الاصلاح السياسي والدستوري اليوم، هو جواب عن هذه الاشكاليات المعبرة عن أزمة السياسة، ، وهو وضع للأزمة في مكانها الطبيعي ضدا على الخطاب الذي أنتج وعُلب وصدر بعد انتخابات 2007، حول أزمة الاحزاب. إن الازمة هي أزمة ثقة في المؤسسات وليس فقط أزمة ثقة في الاحزاب. إن الأزمة هي أزمة فعل سياسي وليس فقط أزمة فاعلين. ثم يجب أن نقول اليوم بصراحة: لماذا تصلح الاحزاب في ظل نظام سياسي يبخس السياسة؟ وكيف يمكن ان تعيش وتتطور الاحزاب في ظل محيط معاد للحزبية وللالتزام وللمراقبة الشعبية؟ إن مطلب الاصلاح اليوم هو إعادة وضع الازمة في مكانها الاصلي. السؤال الذي يطرح في سياق هذا التحليل هو مع من يمكن بناء و الدفع بمطالب الاصلاحات؛ والسؤال هنا يحيل بشكل مباشر على إشكالية التحالفات. وهنا كذلك لنتحدث بصراحة: الكتلة إطار ينتمي الى التاريخ. لكن هذا التشخيص وحده ليس له أي فائدة وظيفية. فالإشكالية تظل قائمة والحاجة ماسة الي تحالف سياسي واسع يعيد تشكيل المشهد الحزبي وفق سؤال التطور الديمقراطي المحجوز ويعطي معنى لتعدد مائع. وهنا فان استدعاء روح الكتله يبدو كذ لك أمرا غير قابل للتجاوز وفي المجمل، فالسؤال مع متغير الزمن لا يصبح فقط ماهي دلالات المشروع الديمقراطي الحداثي؟ ولكن هو ما قيمة ما تحقق على مستوى تحديث ودمقرطة المغرب؟ وهل يمكن إنجاز التحديث بدون ديمقراطية؟ وهل كل المؤسسات مستعدة لأداء كلفة التحديث والدمقرطة؟ ويبقى السؤال الضمني هو ألم يحقق المغرب طفرات نوعية في الحكامة والتوجه السياسي والمجال العمومي ؟ الجواب عن هذا السؤال الضمني، في نظري يمكن ان يلخص في مفارقة تحول الشعار الذي حملته القوى الديمقراطية من الدفاع عن الانتقال الديمقراطي الى الدفاع عن السياسة. إن سقف الديمقراطيين انتقل من المطالبة بتعزيز الانتقال أو بإنهاء حالة الانتقال أو بالدخول الى زمن الانتقال الى مجرد الدفاع عن السياسة وعن العمل السياسي. وهذا دليل إضافي للتراجع المسجل في العملية الديمقراطية.