يرى خبراء علم الانتقال في التوافق آلية أساسية لإنجاح مسلسل الخروج من السلطوية و في نفس الوقت يحذرون من مأسسته و جعله غاية للإصلاح السياسي في حد ذاته. إذ يرون أن وظيفة التوافق يجب أن تكون محصورة في مدة زمنية، ألا و هي مرحلة بناء المؤسسات الديمقراطية .و الواقع إن التوافق يوفر بيئة مناسبة تجعل كل فصيل سياسي قادرا على تقديم تنازلات مذهبية أوسياسية أو مصلحية لتيسير عملية الإنتقال و ضمان سقف أدنى من المكاسب، كما يُمََكِن التوافق الفصائل ذاتها من تخفيف حدة الاحتقان السياسي و قدرة الأطراف على الإضرار ببعضها البعض. و لابد من الإشارة بأن التوافق لا يعني نبذ الاختلاف مطلقا حول المضامين و التفاصيل، و إنما جعله ثانويا من خلال التركيز على فرص التعاون و بناء الثقة. و خلاصة القول، إن التوافق يقوي نفوذ الجميع و يعزز الموارد السياسية لكل الفاعلين. وهو بذلك يندرج في إطار ما يسمى في »نظرية اللعبة « بالنمط التعاوني الذي يضمن لجميع أطراف اللعبة حدا أدنى من المكاسب. كما يضمن انخراطها في العملية السياسية بدون غالب أو مغلوب. ولعل الحاجة إلى التوافق تكون أمس في فترات الانتقال أو الاحتقان السياسي لأنه يعزز فرص التوصل إلى صيغ و تسويات ترضي جميع الأطراف، خاصة إذا علمنا أن بعض الإشكالات الكبرى مثل وضع الدستور أو بناء المؤسسات تستلزم إشراك الجميع و احترام الحساسيات المذهبية و السياسية لكل فريق. إلا أن علماء الانتقال الديمقراطي يحذرون في نفس الوقت من مأسسة التوافق، أي جعله قانونا ثابتا ناظما للعلمية السياسية برمتها. و يستند مطللب تقليص دور التوافق و حصر وظيفته في مرحلة الخروج من السلطوية و يستند مطلبه إلى حجة دامغة : ذلك أن التوافق المستديم ينحو إلى تعطيل آليات التنافس الديمقراطي و كسب ثقة الناخبين من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، أي إرادة المواطنين بدل إرادة الفاعلين السياسيين وتوافقاتهم. ولعل حالة بعض البلدان العربية مثل لبنان تدلنا على مدى قدرة التوافقات الطائفية على تعطيل المسار الديمقراطي. حالة المغرب تتطابق و تجافي في نفس الوقت هذا المسار النموذجي، ذلك ان التوافق الذي حصل في أواخر التسعينيات من القرن الماضي بين الدولة و أحزاب الحركة الوطنية َيسَّر إلى حد بعيد سبل الخروج من الاحتقان السياسي إلى مرحلة التناوب التوافقي. لكن التوافق بين القوى الرئيسة في البلاد ظل يتحكم في مسار الانتقال، إلى حد أنه أخضع سير المؤسسات الوطنية إلى أجندة القوى السياسية حسب نفوذها و قدرتها على المناورة. و لهذا فان الانتخابات التشريعية لسنتي 2002 و 2007 أكدت أن المغرب لم يخرج بعد من مرحلة استطلاع (أو تلمس) الطريق إلى الديمقراطية و أن التكلفة الزمنية للانتقال تكاد تكون باهظة إذا ما قيست ببعض التجارب الأجنبية في أوربا الشرقية و أمريكا اللاتينية. بل أكثر من ذلك، هناك من ذهب بُعَيْدَ الانتخابات الجماعية لسنة 2009 إلى القول بمرحلة «ما بعد التوافق». ذلك أن ظهور بعض الفاعلين السياسيين الجدد جعل المشهد السياسي في المغرب أقل وضوحا من ذي قبل، كما أن اكتساح نفس الفاعلين للساحة الانتخابية بقوة أحدث شرخا واضحا على مستوى التوافق بين الدولة و بعض أحزاب الكتلة الديمقراطية، مما حذا ببعض مكونات هذه الأخيرة إلى التلويح ببعض الورقات الضاغطة من قبيل المطالبة بإعادة مسألة التعديل الدستوري إلى أجندة الإصلاح و مباشرة التنسيق التكتيكيي مع المكون الإسلامي و التلويح بالانسحاب من الحكومة. يتبع. . .