توطئة : تكتسي الانتخابات الجماعية والجهوية القادمة أهمية بالغة في إرساء قواعد الديمقراطية وتدعيم مسلسل التنمية، باعتبارها آلية ووسيلة حضارية في ترسيخ مفهوم التعاقد السياسي لما تتيحه من إمكانات لتجديد الفاعلين السياسيين في إدارة الشأن العام عبر صناديق الاقتراع. وتأتي هذه الانتخابات بعد المستجدات الدستورية والقانونية ذات الصلة بهذه العملية التي عرفتها المملكة في الآونة الأخيرة وكذا في ظل ظرفية سياسية واجتماعية واقتصادية محلية وكونية جد صعبة. ويطرح موضوع الجهوية المتقدمة تحديا كبيرا على النخب السياسية والمدنية المغربية ، حيث يدعوهم جميعا إلى التفكير بشكل مختلف في مغرب ممكن خارج النموذج التقليدي للدولة الوطنية المركزية، وهو أمر من الصعوبة بمكان إذا علمنا بأن معظم النخب قد تربت على ما يزيد من نصف قرن على ثوابت الدولة المركزية وبديهياتها السياسية والإيديولوجية. ومن المفارقات التي يمكن تسجيلها بخصوص موضوع الجهوية الموسعة والمتقدمة، هو قصور ومحدودية الطروحات التي بلورتها حتى الآن النخب المغربية بهذا الصدد، والتي عكستها الأحزاب السياسية التي تقدمت بمقترحاتها إلى اللجنة الاستشارية المكلفة بالموضوع، كما أن التصورات والرؤى اللمتضمنة في البرامج الانتخابية للأحزاب في الحملة الانتخابية الحالية، لا يتلاءم مع واقع التردي العام الذي ترجع أسبابه العميقة في شتى المجالات والميادين العامة إلى التمركز المفرط للدولة، وهذا معناه أن الطبقة السياسية والنخب المدنية ظلت تحاول إيجاد الحلول والمشاكل المطروحة والأزمات المتلاحقة من داخل النسق السياسي نفسه الذي كان مسؤولا عنها. ولعل المشكل لا ينحصر هنا في مدى قدرة النخب المغربية ولاسيما السياسية منها على استيعاب التحديات الجديدة والتفكير فيها، بل يخص أيضا- وهذا أمر على قدر كبير من الأهمية- مدى قدرتها على تأطير الساكنة وتحسيسها بأهمية الانتخابات الجماعية والجهوية القادمة وإعدادها للانخراط فيه، هذا إذا افترضنا توفر إرادة فعلية لدى السلطة لإقرار جهوية موسعة حقيقية، وإن لم يكن الأمر يتعلق فقط بتدبير سياسي ظرفي لملف الصحراء الذي اعتبر منطلقا لهذا المشروع السياسي والمجتمعي بعد مبادرة الملك باقتراح الحكم الذاتي كحل سياسي لهذه القضية المفتعلة من لدن خصوم الوحدة الترابية للمملكة. ومن ثمة،، تطرح العديد من التساؤلات حول مدى جدية ومصداقية الاستحقاقات الانتخابية القادمة، لاسيما وأنها تمثل من الناحية السياسية مناسبة للإجابة عن مدى صلابة التوافقات والقواعد السياسية التي توافقت عليها الملكية والفاعلون السياسيون في المرحلة التي أعقبت الاحتجاجات الاجتماعية عام 2011. كما أن نتائجها سوف تظهر الأحجام الحقيقية لأطراف المشهد السياسي، والتغيير الذي سوف يمس كيان الأحزاب السياسية وزنا وموقعا، بعد جولات من الصراع بين الحكومة والمعارضة استخدم فيها كثير من الأسلحة السياسية والاجتماعية، لأكثر من 3 سنوات. كما تمثل الانتخابات القادمة من الناحية الاجتماعية جوابا مهما يقدم فيه المجتمع تقييمه للأداء الاقتصادي والسياسي لحكومة يقودها الإسلاميون لأول مرة في تدبير الشأن العام الوطني. فإلى أي حد ستشكل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة المزمع إجراءها يوم 4 شتنبر المقبل، مرحلة مهمة ومفصلية في خلخلة المشهد السياسي والحزبي وتطور المسار الديمقراطي والتنموي ببلادنا؟ - وهل من المجازفة التماهي مع الخطاب الرسمي اليوم، في توصيف هذه الاستحقاقات بكونها ستشكل ثورة متجددة؟ أم على العكس من ذلك، فهذه الاستحقاقات لا تعدو أن تكون نسخة من سابقاتها، وأننا سنعيش في نفس الدائرة المغلقة؟ سنحاول الإجابة عن هذين التساؤلين، من خلال تقسيم هذا المقال إلى النقطتين التاليتين: أولا: واقع الأحزاب السياسية في أفق إجراء الانتخابات الجماعية والجهوية ثانيا: الانتخابات الجماعية والجهوية ورهان ترسيخ الديمقراطية وكسب رهان التنمية المستدامة أولا: واقع الأحزاب السياسية في أفق إجراء الانتخابية الجماعية والجهوية كلما اقترب موعد الانتخابات ازداد الجدل حدة بين أحزاب المعارضة والأغلبية الحكومية حول الكيفية والضمانات السياسية والقانونية لإدارة هذه العملية. وفي خضم الجدل الدائر حاليا حول كيفية إدارة وتدبير هذه الانتخابات، تظهر تخوفات أحزاب المعارضة التي تستشعر صعوبة هذه المرحلة، وما سيكون عليه موقعها ونصيبها من التصويت الشعبي وحصتها من تسيير الشأن العام. وإذا كان من أحقية الأحزاب السياسية التي تدخل غمار العملية الانتخابية، أن تتصارع فيما بينها لحصد نتائج مرضية، لكن شريطة الالتزام بضوابط الشرعية القانونية المؤطرة لهذه الانتخابات وفي مقدمتها التقيد الصارم بالأحكام الدستورية، حيث ينص الفصل 7 من الدستور على ما يلي: " تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية. تؤسس الأحزاب وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون... يجب أن يكون تنظيم الأحزاب السياسية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية...". كما يجب على الهيئات السياسية التقيد التام بالضوابط القانونية المتضمنة في قانون الأحزاب السياسية، حيث تنص الفقرة الثانية من المادة الثانية من هذا القانون " يعمل الحزب السياسي السياسي، طبقا لأحكام الفصل 7 من الدستور،على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام. كما يساهم في التعبير عن إرادة الناخبين ويشارك في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية. علاوة عن ذلك، يتوجب على الأحزاب السياسية التقيد والامتثال التام لمقتضيات القوانين التنظيمية المؤطرة لمختلف جوانب العملية الانتخابية سواء منها تلك التي تم تعديلها أو تتميمها أو تلك التي تم إصدارها مؤخرا ذات الصلة بالاستحقاقات المحلية والجهوية. غير أن المتتبع للمشهد الحزبي خلال هذه الظرفية السياسية الدقيقة التي تشهدها البلاد والتي تتزامن مع إجراء الحملة الانتخابية استعدادا للاستحقاقات المحلية والجهوية التي ستجري يوم 4 شتنبر 2015، يلاحظ بشكل بشكل جلي وبدون عناء أن القاسم المشترك لكل الأحزاب السياسية، هو أنها تدخل غمار هذه العملية ضاربة عرض الحائط كل الضمانات القانونية والإجراءات الإدارية المتخذة لضمان انتخابات نزيهة شفافة وذات مصداقية، على الرغم من كون المغرب يعتبر من أكثر البلدان تنظيما للانتخابات بنوعيها التشريعية والجماعية. هذا المعطى السلبي، يفيد بأن تاريخ المغرب الطويل مع الاستحقاقات لم يرسخ بعد تقليدا ديمقراطيا لتداول السلطة والتنافس بين مكونات المشهد السياسي على أساس البرامج والاحتكام إلى إرادة الشعب واختياره، فالانتخابات في المغرب ومنذ 1963، تاريخ إجراء أول انتخابات تشريعية، ما زالت تبحث عن شرعية الوجود والاعتراف الشعبي والميداني بها، فأغلب المغاربة اليوم وبعد أكثر من خمسة عقود لا يرون الاستحقاقات ذات جدوى وفائدة، مادام أن الهيئات المنتخبة التي تقرزها صناديق الاقتراع تتحكم فيها المحسوبية والزبونية وبيع الأصوات وبالتبعية فإن هذه الهيئات لا تعير عن مطالب وانشغالات المواطنين ، بل إن همها الوحيد هو الاغتناء والإثراء بلا سبب من المال العام ول يهمها خدمة المواطنين والصالح العام ، ومن تم فإن العملية الانتخابية سواء كانت الجماعية أو الجهوية أو البرلمانية لا تعدو أن تكون هدرا وتبذيرا للأموال، ليس إلا. وللأسف الشديد، فإن بلادنا وبدل أن تكون قد حققت مكتسبات في المسلسل الانتخابي قد راكمت الكثير من السلبيات جراء ما عرفته الانتخابات السابقة من ميوعة وخروقات، إذ كانت الإدارة تتحكم في صنع مجالس على المقاس، وكان التباري بين المتنافسين يتحول إلى سوق نخاسة يصبح فيه المواطنين مجرد أصوات انتخابية خاضعة للمزايدة، مما أساء إلى المعنى الحقيقي للديمقراطية وأخل بمشروعية التمثيل الديمقراطي، عن طريق استعمال المال الحرام في شراء ذمم الأميين والفقراء، الشيء الذي أدى في آخر المطاف إلى تردي مهول في الخدمات ونهب وتبديد المال العام وعزوف انتخابي فاق كل التكهنات. بيد أن ما لم يعد يستسيغه الجيل الحالي، هو استمرار جل الهيئات السياسية في تمييع العمل السياسي الجاد والبناء ، وذلك من خلال إعطاء الأسبقية والأولوية للمحسوبية والزبونية عن طريق استعمال المال الحرام وتزكية أصحاب النفوذ المالي والإداري لتصدر اللوائح دون الاستناد على معيار الكفاءة والمصداقية، مما أدى إلى ما نراه اليوم من ترد في الخدمات ونهب وتبديد المال العام، وعزوف انتخابي أصبح جليا للعيان. واليوم، وفي ظل الحملات الانتخابية التي تجريها الأحزاب السياسية استعدادا للاستحقاقات المحلية والجماعية القادمة، يبدو من الملاحظة الميدانية ومن خلال تتبع مختلف وسائل الإعلام (المكتوبة والسمعية والمرئية والالكترونية)، أن الهمّ الوحيد والأوحد لجل الأحزاب السياسية إن لم نقل كلها، كان ولازال ولا يزال إلى حدود كتابة هذه السطور هو الانخراط في سباق محموم صوب حصد نتائج تخول لها الاستيلاء على رئاسة أكبر عدد من الجماعات والجهات،دونما اعتبار للعمل السياسي النبيل والجاد؛ فللأسف الشديد راكمت المحطات الانتخابية السابقة الكثير من السلبيات تتخللها جملة الخروقات سواء من قبل الأحزاب السياسية أو لدن السلطة، إذ كانت الإدارة تتحكم في صنع مجالس على المقاس، وكان التباري بين المتنافسين يتحول إلى سوق نخاسة، يصبح فيه المواطنون مجرد أصوات انتخابية خاضعة للمزايدة، مما أساء إلى المعنى الحقيقي للديمقراطية وأخل بمشروعية التمثيل الديمقراطي وخلق أعطاب عديدة فرملت عملية التنمية وعطلت مسار الرقي الاقتصادي و الاجتماعي للبلاد إلى أجل غير مسمى. الأمر الذي يجعلنا نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للأحزاب السياسية أن تكون في مستوى التحديات التي تفرضها الاستحقاقات المحلية والجهوية القادمة والتي ستجعل المغرب يدخل غمار ثورة جديدة كما جاء في الخطاب الملكي السامي الأخير؟ لاسيما في ظل التشردم والانقسام الذي يطال مجموعة من الأحزاب وغياب الديمقراطية الداخلية وتفشي العديد من الأعطاب التدبيرية التي تطال هياكلها التنظيمية والمالية وبالنظر إلى الإكرهات الموضوعية التي يفرضها النسق السياسي الذي تشتغل بداخله الأحزاب وطبيعة الأنماط الإنتاجية والثقافية السائدة بالمجتمع. إن قراءة الواقع السياسي، تبرز بجلاء عدة عوامل تساهم في إزاحة المصداقية عن العمل الحزبي، تتجلى في البون الشاسع بين التطور الحقوقي ومؤشرات الواقع الاجتماعي المتسمة بانتشار الفقر والأمية وكل مظاهر الإقصاء والتهميش الاجتماعي، كما تبرز هذه القراءة ظاهرة الفساد الإداري والمالي والتوزيع غير العادل للثروة بالإضافة إلى قصورالإصلاحات التي تم تدشينها عن بلوغ الأهداف المرسومة لها سلفا. فأدى ذلك إلى تهميش فئات واسعة من المجتمع نتج عنه فكر متطرف حاقد على الواقع السوسيواقتصادي وعزوف خطير عن المشاركة السياسية واستهتار بالعملية السياسية برمتها وفقدان المصداقية والثقة بمشروعية إزاء المؤسسات السياسية والتمثيلية القائمة. وبالموازاة مع الضعف في التأطير، شكل المجال الحزبي مسرحا للصراعات الشخصية حول الزعامات والانشقاقات، وبتأمل طبيعة الفعل الحزبي في المغرب منذ الاستقلال إلى الآن، يلاحظ هيمنة منطق التشردم والنزوع إلى التفكك والانشقاق بدل الاتجاه نحو الانصهار أو التكتل وهو سلوك يعود برأي يونس برادة في أطروحته حول "وظيفة الحزب في النظام السياسي المغربي"، إلى الثقافة السياسية السائدة على الواقع الانقسامي وتمثل العمل السياسي ضمن تصور شخصي غائي بدل أن يكون سلوكا جماعيا أو ذاتيا حيث إن توجيه النظام لطبيعة التعددية السياسية وسطوة ما وصف بالتوازنات السياسية يعتبر محددا أساسيا في فهم دينامية التشرذم منذ الاستقلال خاصة في ظل غياب منطلقات سياسية استراتيجية وهيمنة المؤقت على كنه العمل السياسي وعدم الحسم في التوجهات المؤسساتية والدستورية. ولعل من أهم السمات التي تشترك فيها جل الأحزاب السياسية بنظر الدكتور برادة، استمرار منطق الزعامة وإنتاج نموذج الشيخ والمريد، كما يؤكد الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري، بشكل يؤدي أحيانا إلى أوضاع تستعصي على الشرح المنطقي أو حتى السياسي المستساغ، خاصة وأن التجربة الحزبية المغربية لم تنتج أي تحول في الزعامة أو القيادة الحزبية خارج الانشقاق الفوقي، أي في ظل غياب الحركة التنظيمية بشكل تتحول معه الممارسة الحزبية إلى ممارسة قيادة أو سلوك نخبة دون أن يكون للقاعدة الحزبية أي دور حقيقي في صياغة القرار الاستراتيجي الذي يهم حياة الحزب وموقعه ومكانته في الخارطة السياسية. ويلاحظ في هذا الشأن أيضا، الاستمرارية التنظيمية الشكلية التي تختل في ظل غياب ديمقراطية داخلية حيث تعتبر تزكية الشخصيات الحزبية في مواقع المسؤولية على العموم نتاج السلطة التقديرية للزعيم أولا ولقيادة المكتب السياسي ثانيا ضمن نسق لا يختلف جوهريا عن النسق العام للنظام، أي وفق منطق ومنطلق العلاقة الشخصية أو الارتباط العاطفي للتيار السائد داخل الحزب أو العائلي خاصة في المناصب الوزارية وذلك في تجاهل شبه تام للاستحقاق ببعديه الحزبي( السياسي والتقني والموضوعي). وهو ما يؤثر بداهة على التوازن الداخلي للأحزاب ويحولها إلى مكونات قابلة للتشرذم والإنقسام. وبالنتيجة، فقد ساهم تفريخ الأحزاب التي نشأ بعضها دون التوفر على قاعدة شعبية كافية وانتشار جغرافي ملائم، إلى تبني برامج غير واضحة ودقيقة تكون في مستوى التحديات المجتمعية والمجالية المطروحة. كما أدى التمييع الذي عرفته الأحزاب السياسية إلى نفور شرائح واسعة من الناخبين من المشاركة السياسية والعزوف عن هذه الممارسة، خاصة الفئات المثقفة التي تنظر إلى كون نتائج الانتخابات محكومة بأصوات ضواحي المدن وساكنة دور الصفيح، وإلى تحويل الأحزاب كأصول ومقاولات تجارية للمتاجرة في التزكيات إبان الحملات الانتخابية وتوزيع المناصب في ظل غياب أي ارتباط دائم بهموم المواطنين وأي وضوح في الشفافية المالية وأي انتظام في عقد المؤتمرات تخوفا من تجديد الهياكل وصعود نخبة جديدة تنافس الزعامات التقليدية التي باتت تعاني الترهل والشيخوخة. أما فيما يتعلق بالاختلافات المالية التي تعاني منها الأحزاب، فقد سبق لتقرير صادر عن المجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2011، بشأن التدبير المالي للأحزاب السياسية، قد وضع هذه الأخيرة في قفص الاتهام، وذلك بعد أن كشف أن أكثر من 30% من مصاريف الأحزاب التي تتلقى دعما من الدولة غير مبررة و لا توجد لها وثائق صحيحة وأن 32% من مصاريفها من الدعم المالي المخصص لها من ميزانية الدولة البالغة 28,5 مليون درهم نفقات غير مبررة نظرا لعدم وجود وثائق صحيحة وقانونية تبرر صرفها. ومن اللافت أيضا، أن هذا التقرير قد كشف أن 18 حزبا فقط من أصل خمسة وثلاثين حزبا آخر معترف به هم من أدلوا بحساباتهم السنوية للمجلس الأعلى، في حين لم يتجاوز عدد الأحزاب التي أدلت للمجلس بحسابات مشهود بصحتها من طرف خبير محاسب خمسة عشر (15) حزبا فقط، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول شفافية تدبير مالية الأحزاب السياسية. وبالعودة إلى مسألة التمويل العمومي، فإن دعم الدولة للأحزاب السياسية في كثير من الديمقراطيات يعد ضرورة أساسية في ضمان التنافس الشريف بين الهيئات السياسية ولحمايتها من الاستحواذ المحتمل لأصحاب المصالح وذوي النفوذ الاقتصادي سواء داخليا أو خارجا وأيضا لمراقبة مجالات الإنفاق والجهات أو الأفراد الذين يحق لهم أن يتبرعوا للأحزاب السياسية،علما أن قانون الأحزاب السياسية قد نص في المادة 39 منه على أن الأحزاب السياسية يجب أن تؤسس وأن تسير بأموال وطنية دون سواها. كما فرض هذا القانون على الأحزاب التي تستفيد من الدعم السنوي إثبات المبالغ التي حصلت عليها والكشف عن استعمالها للغايات التي منحت من أجلها حيث يعد كل استخدام كلي أو جزئي للدعم الممنوح من طرف الدولة لأغراض غير تلك التي منح من أجلها اختلاسا لمال عام يعاقب عليه بهذه الصفة طبقا للقانون. وإذا كان التقرير قد وضع الأصبع على مكامن الخلل بدعوة الأحزاب إلى الإدلاء بالحسابات السنوية المشهود بصحتها من طرف خبير محاسب وببيان مفصل مدعم بمستندات الإثبات حول صرف واستعمال أموال الدعم السنوي وتبرير النفقات بواسطة مستندات مثبتة صحيحة وقانونية، والعمل على وضع جرد يتضمن أصول الأحزاب على الأقل مرة واحدة في كل دورة محاسبية وكذا وضع نظام معلوماتي مشترك بين جميع الأحزاب من أجل الاستخدام الأمثل للمخطط المحاسبي، فإن السؤال الذي يتعين طرحه هنا في ظل المستجدات الدستورية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة هو: ما هي الإجراءات التي ستتبع بعد صدور تقرير حول الاختلالات التي تشوب مالية الأحزاب والتي تحمل إشارات مخاطر على مؤسسات الدولة نفسها؟ ودون التفصيل في هذا الجانب، فإن ما كشف عنه التقرير بشأن تعامل الأحزاب مع التمويل المالي المقدم من قبل الدولة يدفع إلى طرح أسئلة جوهرية حول استمرار الدولة في التمويل الديمقراطي لبعض المؤسسات الحزبية التي تدير ماليتها وممتلكاتها بطريقة غير شفافة. وبالتالي يتحتم على الدولة أن تتبع مصير أموال الدعم وأن تتعامل به مع المؤسسات التي تعرف اختلالات بغض النظر عن مقدار الدعم الممنوح لكل حزب سياسي مادام تقرير المجلس الأعلى للحسابات قد أظهر وكشف بشكل جلي جملة من أن بعض الأحزاب السياسية قد صرفت ملايين الدراهم دون أن تقدم بشأنها أي وثيقة توضح مجالات هذا الإنفاق. إن ما ورد في هذا التقرير من أرقام ومعطيات تهم حسابات الأحزاب هو بمثابة إنذار ودق ناقوس الخطر من أجل إحداث قطيعة مع الإختلالات المسجلة والاتجاه نحو العقلنة والقطع مع الفساد بمختلف تمظهراته. و لا شك أن التساهل مع إنفاق ملايين الدراهم من المال العام دون الحصول على أي دليل يوضح مجالات صرف هذه الأموال وتلكؤ الدولة في أعمال القانون في مثل هذه الحالات، يفتح الباب على بعض الحالات من قبيل غض الطرف عن سوء تدبير المال العام المحصل عليه مقابل مسايرة هذه الأحزاب السياسية لمواقف وقرارات قد تكون على حساب استقلالية توجهاتها والتزاماتها تجاه المواطنين. والواقع، أن ما كشف عنه تقرير المجلس بخصوص مالية الأحزاب يعكس صورة ما يجري داخل مؤسسات الدولة، على اعتبار أن الأحزاب هي من يوفر الموارد البشرية والأطر المشتغلة في مراكز القرار داخل المؤسسات الحكومية ومنها من يضطلع بمهام في مجال تدبير الشأن العام الوطني بما في ذلك مجال تدبير الماء، الأمر الذي يطرح سؤال ترتيب الجزاءات على إحجام بعض الأحزاب عن الإدلاء بكشف حساباتها للمجلس الأعلى للحسابات، خاصة أن قانون الأحزاب ينص على تعليق الدعم إلى حين الإدلاء بوثائق محاسباتية مشهود بصحتها للمبالغ التي استفادوا منها وأوجه صرفها، حيث تعتبر المادة 47 من قانون الأحزاب السياسية كل استخدام كلي أو جزئي للدعم الممنوح من طرف الدولة لأغراض غير تلك التي منح من أجلها اختلاسا لمال عام يعاقب عليه بهذه الصفة طبقا للقانون. وبالتالي، فإن السؤال الذي يبرز بشكل قوي هنا، هو هل اتخذت أو ستتخذ الجهات المختصة في منح الدعم أي إجراء لاسترجاع هذه الأموال العمومية التي تم صرفها بدون حسيب ولا رقيب؟ أم أن غض الطرف عن مثل هذه التجاوزات يعد جزءا من اللعبة السياسية في إطار التوافقات السياسية؟ خاصة وأن الدولة كانت قد اعتادت في مرحلة سابقة على غض الطرف عن مالية الأحزاب السياسية لأسباب مرتبطة بصراعات التوازن السياسي. لقد أثبت التجارب السياسية أن الكيفية التي يوظف بها التمويل العمومي في الدول غير الديمقراطية يكشف عن الاعتماد شبه الكلي على دعم الدولة واقتصار هذا الدعم على الأحزاب السياسية التي تقبل بقواعد اللعبة كما هي مرسومة، فضلا عن ضعف تتبع ومراقبة الكيفية التي يتم بها تدبير ذلك التمويل العمومي الذي يمكن أن يكون على حساب استقلاليتها. وغالبا ما تشعر الأحزاب السياسية بأنها مدينة للدولة لقاء الأموال التي تتلقتها منها أو لأن الدولة سكتت عن سوء تدبيرها لتلك الأموال ولم تلجأ إلى تفعيل الجزاءات القانونية المطلوبة. ففي مثل هذه الحالات، تتساهل الأحزاب حيال بعض الممارسات السياسية غير المشروعة وتلجأ إلى تليين مواقفها السياسية تجاه القضايا المطروحة بما في ذلك قضايا تدبير البيئة والماء وغيرها من الملفات الاجتماعية والاقتصادية الحيوية في الوقت الذي تكون فيه الممارسة الديمقراطية في حاجة ماسة إلى التعبير عن مواقف صارمة وإلى قول الحقيقة. عموما، تطرح الإختلالات المالية التي كشف عنها المجلس الأعلى للحسابات في تقريره السنوي برسم 2011 الكثير من الأسئلة حول الرقابة التي تفرضها الدولة على تمويل الأحزاب السياسية ومدى وجود تطبيق صارم للقانون في حق الأحزاب غير المنضبطة لما ينص عليه قانون الأحزاب السياسية. ومع ذلك يمكن اعتبار تخصيص المجلس الأعلى للحسابات جانبا لمالية الأحزاب السياسية تطور نوعي في مسار عمل المجلس على اعتبار أنه سلط الضوء على معاقل تقليدية تتواجد فيها مناطق رمادية كثيرة بشأن ماليتها بالنظر إلى تداخل الأشخاص والمؤسسات، خاصة وأن التقرير يقدم مؤشرا على درجة المشاكل والمقاومات المتواجدة في مستوى المأسسة في أجهزة الدولة وطريقة اشتغال الأحزاب السياسية وكيفية تدبيرها لمواردها المالية. إن ما تضمنه التقرير من معطيات وأرقام يعكس أزمة حقيقية على مستوى التدبير المالي والإداري الذي تعاني منه الأحزاب السياسية بكل تلاوينها. وهي أزمة تثبت بشكل لا يدع مجالا للشك أن المواطن لم يعد يثق بالأحزاب السياسية بالنظر للإختلالات الهيكلية والتنظيمية والمالية التي تشوبها لا سيما خلال فترة الانتخابات حيث يصبح التمويل العمومي تهديدا ليس فقط لاستقلالية الأحزاب السياسية واستقلالية قراراتها، وإنما أيضا تحجيم دورها في القيام بالمهام المنوطة بها ليس فقط على المستوى السياسي والتمثيلي، بل كذلك على مستوى الجبهات النضالية والدفاع عن القضايا الوطنية والمساهمة بشكل أساسي في إيجاد الحلول المناسبة لمختلف القضايا المصيرية للبلاد. لذا، فإن الدولة مطالبة بتبني الصرامة في مواجهة الاختلالات المالية التي قد تشوب عمل الأحزاب السياسية في الحملات الانتخابية الجارية، من خلال تفعيل مشدد لمبدأ المسؤولية والمحاسبة كمبدأ دستوري وجب تطبيقه على جميع السياسيين، وذلك من أجل تصحيح الإختلالات السياسية التي تؤثر على المسار الاقتصادي والتدبير للمرافق العمومية وتجنب الإفلاس المالي لشتى المرافق الوطنية الحيوية. كما أن سكوت الدولة على سوء التدبير قد يكون على حساب استقلالية الأحزاب السياسية. ومن هنا يصبح التساؤل مشروعا: ما الفائدة من وجود حزب سياسي يستفيد من دعم الدولة دون أن يقدم وثائق تؤكد صرفه للأموال التي يحصل عليها؟ فهل في ظل هذا الوضع نستطيع أن نتحدث عن الشفافية المالية وعن ترسيخ الديمقراطية الإدارية والمالية؟ وهل الدعم العمومي هو ضمان للتنافس السياسي الشريف أم أداة لتدجين الأحزاب وعدم استقلاليتها؟ لذلك، فمن الضروري القيام بقراءة موضوعية ومتأنية للمشهد السياسي والحزبي الوطني الذي عرت مساوئه الحملات الانتخابية الجارية حاليا من قبل الأحزاب السياسية ووضع الأصبع على مكامن الخلل في الجسد الحزبي عوض اعتماد تحليل يبرئ الدولة ويتهم الأحزاب، لأنه لا يمكن تصور وجود دولة ديمقراطية بأحزاب فاسدة ولا حداثة ولا تنمية في حقل سياسي محاط بالممنوعات وتباح فيه كل أساليب التمييع السياسي والتدني الأخلاقي. من هنا، نبادر إلى طرح التساؤل التالي: إلى أي حد تشكل فيه الاستحقاقات الانتخابية القادمة محطة أساسية ومفصلية لترسيخ الديمقراطية التشاركية وكسب رهان التنمية المستدامة ؟ ثانيا: الاستحقاقات الانتخابية القادمة: ورهان ترسيخ الديمقراطية التشاركية وكسب رهان التنمية المستدامة تمثل انتخابات المجالس الجماعية والجهوية القادمة مؤشرا مفصليا في قراءة نتائج التغيرات التي أقدمت عليها المؤسسة الملكية عقب الاحتجاجات الاجتماعية التي طالت البلاد عام 2011، من حيث إقرار الدستور الجديد والانتخابات البرلمانية التي أفرزت الخارطة السياسية الحالية. والمغرب الذي قوته تحولات وهزات الثورات العربية سياسيا واقتصاديا، ومنحته استقرارا مجتمعيا وأمنا بشهادة المجموعة الدولية،ستقدم فيه هذه الانتخابات التي تنعقد في ظل سياق سياسي واجتماعي مستقر، تغيب فيه الضغوطات والإكراهات على المؤسسة الملكية وباقي الفاعلين السياسيين، أجوبة على أسئلة سياسية وأخرى اجتماعية وتنموية. من الإجابات المهمة أن نتائج الانتخابات القادمة سوف تقدم خارطة تتيح فرصة لاستكشاف أوزان الأحزاب السياسية في الانتخابات البرلمانية التي سوف تليها عام 2016، وما سيكون عليه المشهد السياسي في المغرب حينها. وهذا ما يستدعي الوقوف عند العناصر التي تسهم في فهم ديناميات المشهد السياسي المغربي قبيل الانتخابات القادمة بأطرافه الفاعلة: الملكية، والحكومة، والمعارضة في شكلها الحالي. في هذا الإطار، يمكن القول بشكل عام أن ما يتحكم في هذه المرحلة السياسية الدقيقة التي تمر منها البلاد، إلى حد وصفها من قبل جلالة الملك محمد السادس بأنها بصدد ثورة جديدة في الخطاب الملكي السامي ليوم 20 غشت 2015، بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب،عنصران نتجا عن تداعيات الاحتجاجات الاجتماعية عام 2011، وهما: الدستور المعدل ومسار تنزيله، ثم نتائج الانتخابات البرلمانية التي أفرزت الخارطة السياسية الحالية التي أوشكت على التغيير. ومن دون شك فقد منحت نتائج هذين العنصرين درجة مهمة من التوازن والاستقرار للمشهد السياسي والاجتماعي المغربي لما يزيد عن ثلاث سنوات. وتشير القراءة السياسية لتنزيل مضامين الدستور الجديد وقضية الصلاحيات المحددة للملك ورئيس الحكومة، التي تستحوذ على جزء مهم من النقاش السياسي الداخلي، إلى أن العلاقة بين الملكية ورئيس الحكومة تعرف حالة من الاستقرار، ويعكس ذلك غياب التضارب في ما يخص مساحات وحدود الصلاحيات التي يتحرك من خلالها كلا الطرفين، والتي تحتفظ فيها الملكية بموقع محوري. ويبدو أن أحد الأبعاد الأساسية في تقييم هذه العلاقة المتداخلة دستوريا وسياسيا هو وجود مساحة مشتركة بين صلاحيات رئيس الحكومة والملك، وهي المساحة التي غالبا ما تعكس وجود نوع من التفاهم وتمكن من التغلب على التباين في وجهات النظر. وهي المساحة التي ترد كثيرا في خطابات وإشارات رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران. كما تشير القراءة السياسية للمشهد السياسي والحزبي الوطني، أن الوضع السياسي الحالي هو محصلة نتاج مسار تراكمي؛ حيث تطلبت عملية المحافظة على استمرار الحكومة وفي نفس الوقت عدم التصادم مع خيارات الملكية، إقدام حزب العدالة والتنمية على عدد من التنازلات والقبول بالتخلي عن حقيبة الخارجية في إحدى مراحل الضغط الكبيرة على تجربته السياسية، وقبول دخول وزراء تكنوقراط إلى الحكومة، خصوصا في وزارة الداخلية. وقد أثبتت هذه التنازلات نجاعتها. هذه التنازلات، لم تكن مؤلمة إذا ما قورنت في السياق الإقليمي المعقد الذي ساد في المنطقة العربية في السنتين الأخيرتين، وعرف انتكاسة لعدد من التجارب السياسية. وكذلك مقارنة بحجم ومسار التنازلات التي أقدم عليها إسلاميون في مناطق أخرى مثل تونس حين تخلوا عن حكومتهم السياسية برمتها، رغم أنها نتجت عن صناديق الاقتراع، لصالح حومة تسيير الأعمال. مصدر هذا التفاهم، بحسب نتائج تقرير صادر عن مركز الجزيرة للدراسات في شهر أبريل 2015، للباحث كمال الصغير بعنوان "تفاعلات المشهد السياسي المغربي قبل الانتخابات المحلية القادمة" 2015. بين المؤسسات رؤية إسلاميي العدالة والتنمية التي تتمثل في تجنب النزاع مع الملك. ويرجع إصرارهم الكبير والمتواصل على إغلاق ملف التطبيع مع الملكية والوصول به إلى شكله النهائي إلى التمييز بين الفعل الاستراتيجي والممارسة التكتيكية؛ فالعلاقة مع الملك تتجاوز كونها مرحلة عابرة بالنسبة للحكومة الملتحية، وزمن الملوك سياسيا يقاس بالفترات الطويلة، وهو مختلف تماما عن زمن السياسيين الذين يخططون لفترات سياسية أقصر بكثير، قد تقف في كثير من الأحيان عند إعادة انتخابهم. بالمقابل، يبدو أن الملكية تقابل هذا التوجه بخطوات مماثلة من التقارب ومزيد من الاستيعاب لهذا المكون الإسلامي الذي لا يخفي ارتياحه كذلك لهذا الوضع. ويدل على هذا التوجه غياب شواهد أو وقائع للخلاف في الرؤية السياسية أو الاجتماعية لإدارة الدولة حتى هذه اللحظة، في أول تجربة علاقة بين الجانبين منذ ظهور هذا الفيصل الإسلامي وتطوره تاريخيا وسياسيا، وعدم بروز علامات العرقلة للأداء الحكومي سياسيا واقتصاديا. وهذا يعني أيضا، وجود مصلحة للمؤسسة الملكية في استمرار هذا النمط من العلاقة بين الملك ورئيس الحكومة المنتخب، خصوصا مع ظهور بوادر ومقدمات لتحسن أداء الاقتصاد المغربي بالرغم من الظرفية الاقتصادية والمالية المتردية سواء في سياقها الإقليمي أو الدولي، مع قدرة الأغلبية الحكومية على التعامل بجرأة سياسية مع إشكالات اقتصادية كبيرة ظلت حكومات سابقة تتجنب الخوض فيها. مع الإشارة إلى وجود قضايا مؤرقة ومعقدة بدون حلول ناجعة، وعلى رأسها تفشي ظاهرة البطالة في صفوف الطبقة المتعلمة والكادحة على حد سواء. ومن الناحية الاجتماعية، تمثل الانتخابات القادمة جوابا مهما يقدم فيه المجتمع كذلك تقييمه للأداء الاقتصادي والسياسي لحكومة يقودها حزب أسلامي لأول مرة في تاريخ البلاد. غير أنه وبالنظر إلى ما تقدمه الأحزاب السياسية في برامجها الانتخابية ومن خلال ما تقوم به من تمييع للعملية السياسية، يبدو أن النخبة السياسية الحالية غير قادرة على إيجاد الحلول البديلية والعاجلة لمختلف الملفات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المطروحة فبالأحرى إنجاح ورش الجهوية المتقدمة باعتبارها إطار جغرافي ومجالي ونموذج سياسي لتحقيق التنمية الجهوية المستدامة. وبنظر الباحث أحمد عصيد، في مقال له منشور بجريدة العالم الأمازيغي، العدد 122- يوليوز 2010، بعنوان " الأسس الثقافية للجهوية الموسعة"، فإنه لإنجاح سياسة جهوية متقدمة تكون السبيل لترسيخ الديمقراطية التشاركية وتحقيق التنمية المستدامة وكسب رهاناتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لابد من استحضار العديد من المنطلقات، تبدأ بإشراك أكبر قدر ممكن من المواطنين في هذا الورش الكبير والهام بالنسبة لمستقبل المغرب، فمعضلتنا اليوم في هذه المرحلة من تاريخنا- حسب عصيد- تكاد تتلخص من الناحية السياسية في العديد من المعضلات في مقدمتها تردي وتقهقر العمل السياسي النبيل والجاد بفعل وجود نخبة سياسية شاردة يقابلها عزوف سياسي وفقدان الثقة في المؤسسات بفعل تمييع الخطاب السياسي وتدنيه إلى الحضيض الأسفل. هذا الواقع، يجعلنا نستحضر خلاصات مجموعة من الأبحاث والدراسات التي خلصت، إلى أن هناك مجموعة من العناصر المتحكمة في ظاهرة العزوف السياسي للمواطن المغربي والتي تثير الدهشة والاستغراب، حيث خلص الباحث رشيد جرموني في مقال له بجريدة هيسبريس بتاريخ 24 غشت 2015، بعد تحليله لهذه الظاهرة الخطيرة، أنه رغم وجود شبه طلاق بين العديد من شرائح المجتمع المغربي والعمل السياسي والحزبي بشكل أكثر دقة، فإن ذلك لا يمنع من وجود فئات أخرى ترتبط بهذا الحزب أو بالآخر حسب نوعية الإستراتيجية التي يقيمها الفرد عندما يقرر الانخراط في العمل السياسي. في هذه السياق، يمكن الحديث عن ثلاثة أنماط أو نماذج من التحليل: - وجود أعضاء منخرطين في أحزاب سياسية بشكل طوعي وعن إرادة واعية وبأهداف أيديولوجية، تتبين في الانسجام مع الرؤية الحزبية التغييرية، بل أكثر من ذلك، وجود حالة من التماهي بين الحزب وهؤلاء الأفراد، لدرجة يصعب معها التفكير خارج هذه الرؤية التغييرية أو الاختيار السياسي. وهذا النوع من الأحزاب يكون له من القدرة على التنظيم والتأطير بحيث يستطيع أن يؤثر في العديد من الشرائح بخطابه وبممارساته وبسمعته وبرصيده النضالي. ولا يجب أن نخلص من خلال هذا التوصيف إلى نوع من المثالية لهذا النوع من الأحزاب، بل إنه بدوره يوظف مجموعة من الآليات، خصوصا في خطابه إلى الناخبين، والذي يركز على طهرية واستقامة دينيتن، تارة باسم المعقول، وتارة باسم المصلحين الحقيقيين. ولا نبالغ إذا قلنا، بأن استعمال هذا الخطاب، يعتبر توظيفا غير مشروع للمقدس المشترك بين المغاربة. - وجود حالة من الارتباط المصلحي بين الأعضاء والحزب، والتي تتمظهر في عدة حقول، ليست كلها مادية محضة، بل إنها تنحو نحو المصالح الرمزية والتقديرية وتحقيق الذات (بعدما تفشل في تحقيقها في مجالات البحث العلمي والمالي وغيرها). لكن قوة هذا النموذج الحزبي تظهر في مدى استمالة الناخبين بمجموعة من الإغراءات المادية وحتى الرمزية التي تتمظهر في وجود شبكات من الأتباع الذين يدورون في فلك الحزب ويقتاتون من جراء الريع الحزبي . وهذا النوع عندما يستعمل إما المال أو بعض الإغراءات الأخرى، (كالتوظيف وضمان مصدر للعيش، قضاء أغراض إدارية...)، قد يحقق نتائج ايجابية في الاستحقاقات الانتخابية بفعل ارتكازه على استراتيجية نفعية صرفة. - وجود نوعية من الأحزاب التي تزاوج بين كلا النمطين السابقين، والتي تتخذ لها رؤية تغييرية (كالأولى) ولهذا نجد مناضلين سياسيين يتشبثون بمبادئ الحزب ويدافعون عنها بشكل مستميت. لكن بالمقابل، نجد في ذات الحزب أعضاء التحقوا به، لكونهم يبحثون عن تحقيق مصالحهم المادية والرمزية، بعدما بعدت عليهم الشقة، ومنهم من عانى من كل أشكال التضييق والخناق ولم يحقق شيئا من العمل السياسي سوى الفقر و "التبهديل" ومرارة السجن. لكن كيف يمكن لهؤلاء التأثير في سلوك المواطن للتصويت عليهم؟. والحال، أن الهدف والغرض الأسمى من الانتخابات يبدو على العكس من ذلك في الدول التي لها باع طويل في الديمقراطية، هو تحقيق العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن جهته يرى محمد عصيد في مقاله السالف الذكر، أن من بين الأسباب التي يعاني منها المشهد السياسي والحزبي والذي يلقي بظلاله على الشأن العام الوطني في مختلف أبعاده وتجلياته القطاعية والترابية، هو مضي النخب الإدارية والطبقة السياسية قدما في معالجة تفاصيل إشكاليات التحديث والدمقرطة تاركين المجتمع وراء ظهورها تؤطره قوى التقليد في إطار نزعة نكوصية مناقضة لقيم الديمقراطية. وهذا ما يجعل أولى الأولويات العمل في عمق المجتمع من أجل تغيير العقليات، وجعل النسبة العظمى من المواطنين على بينة من الرهانات الحالية، ومنخرطة في الدينامية الجديدة المطلوبة لإنجاح الاستحقاقات الانتخابية القادمة لترسيخ الديمقراطية التشاركية والسير قدما في مسلسل التنمية. ومن تم لابد، برأي الباحث الأمازيغي أحمد عصيد، أن تكون ثمة قناعة مبدئية بإمكان الانتقال مع الجهوية المتقدمة إلى نموذج الدولة مغاير لنموذج الدولة الوطنية المتمركز، ذلك أن عدم وجود استعداد مبدئي لهذا الانتقال، واستمرار التشبث بثوابت النموذج السابق سيؤدي حتما إلى الالتفاف على سياسة الجهوية وتحجيمها ثم خنقها دون أن تعطي الثمار المرجوة. ولا يمكن للجهوية المتقدمة أن تتحقق الأهداف المرجوة منها بدون استحضار واعتماد العنصر الثقافي في هذا الورش الوطني كعنصر جوهري بجانب العناصر التي تحظى بالأولوية وهو ما يظهر تبرم الناس من التهميش الاقتصادي الخطير لعدد كبير من الجهات التي ظلت مدة غير يسيرة خارج المشروع الوطني للتنمية، كما يظهر أيضا مقدار تهميش الثقافي وهشاشيته في مشاريع الدولة. لكن الملاحظ، أن مقتضيات القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية لم تولي أي اهتمام للجانب الثقافي حيث تم تغليب الجوانب الاقتصادية المالية والإدارية والتقطيع الجغرافي كمحددات أساسية لتحقيق التنمية المحلية والجهوية. في كل الأحوال، فإن التساؤل يبقى مطروحا حول مدى قدرة الأحزاب على تقديم مرشحين أكفاء وذوو مصداقية وجدية ومدى جاهزيتها على التضحية بالأعيان وأصحاب رؤؤس الأموال وسماسرة الانتخابات والتي ظلت تستنجد بها في كل محطة انتخابية بهدف الظفر بالمقاعد؟ دونما إيلاء أي اعتبار للكفاءات التي يزخر بها الوطن (من أطر عليا ومهندسين وأطباء ومحامين وطلبة باحثين ونساء وشباب فاعلين...الخ)، وذلك بهدف إفراز نخبة محلية وجهوية قادرة على تدبير الملفات والقيام بالمسؤوليات والمهام الجسيمة التي أصبحت النخب المحلية والجهوية تضطلع بها بمقتضى القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية. وفي انتظار إجراء الانتخابات الجماعية والجهوية القادمة، نتمنى صادقين أن تكون هذه الانتخابات استثنائية بكل المقاييس، وخطوة حاسمة في اتجاه الدفع بالانتقال الديمقراطي وتوسيع دائرة المشاركة السياسية التي تبقى السبيل الوحيد لاسترداد ثقة المواطنين في السياسة والأحزاب والمؤسسات. ومن تم يتعين على كافة المواطنات والمواطنين ألا يتقاعسوا عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم 4 شتنبر القادم للقيام أولا وقب كل شيء بحقهم الدستوري وواجبهم الوطني،وثانيا لقطع الطريق على سماسرة ومرتزقة الانتخابات ولصوص المال العام التي ظلت تعبث بمختلف العمليات الانتخابية التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال، مما أفضى إلى بروز نوادي ومقاولات سياسية بعيدة كل الوصف عن الأحزاب السياسية التي تعد مسؤولة وإلى حد كبير، إلى جانب السلطة التي ظلت تسهر على هذه العملية، على تمييع العمل السياسي وما نجم عن ذلك من تردي ملحوظ لأحوال لبلاد والعباد وعلى مختلف المستويات المجتمعية و المجالية؟ خلاصة: إن المشاركة في الانتخابات القادمة، تعد من أبرز الأدلة على نضج الوعي الانتخابي لدى المواطن، وتعبير صادق عن وطنيته ومدى إيمانه بالديمقراطية خاصة إذا كان التصويت حرا ونزيها، بعيدا عن المغريات والأضاليل، ويحفظ للإنسان كرامته وعزة نفسه. أما الرهان على مقاطعة الانتخابات فهو رهان خاسر بكل المقاييس؛ فهو لن يؤدي في آخر المطاف إلا إلى سوء التدبير والتسيير للشأن العام الوطني والجهوي في مختلف أبعاده وتجلياته. وبالتالي، يتوجب على كل المغاربة المبادرة بحماس إلى تعبيد السبل نحو النماء والرخاء، وبناء مغرب ديمقراطي حداثي ومجتمع جديد تعمه الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وخيرالختام، نختم به هذا المقال ما ورد على لسان جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي يوم 20 غشت 2015، بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب، حيث قال: "إن التصويت حق وواجب وطني، وأمانة ثقيلة عليكم أداؤها، فهو وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم أو لتكريس الوضع القائم، جيدا كان أو سيئا".