أولا: تقديم في أهمية المشاركة المواطنة وآلياتها تعتبر الديمقراطية التشاركية من بين أهم الآليات التي يتم من خلالها العمل على ضمان مشاركة المواطنات والمواطنين في مسلسل اتخاذ القرارات العمومية، ومن بين أهم المداخل الفعالة لتحقيق المشاركة المدنية المواطنة في مجال السياسات العمومية. كما أن المشاركة المواطنة في مسلسل اتخاذ القرارات العمومية وفي مجال السياسات العمومية، تعتبر المدخل الأساسي لضمان الانخراط الايجابي للمواطنات والمواطنين في تدبير الشأن العام، وفي الوقت نفسه تشكل آلية هامة لتقييم السياسات العمومية على المستويين الوطني والمحلي ، وأيضا للرقابة الشعبية والمجتمعية على متخذي القرارات. وقد عرف مجال الديمقراطية التشاركية تطورا كبيرا خصوصا في الدول المتقدمة التي تطور فيها مسار الديمقراطية التمثيلية، كما أفرزت التجربة العديد من الممارسات الفضلى على المستوى الدولي. وبالنسبة للمغرب، فالمشاركة المواطنة عرفت تأخرا كبيرا في الإقرار القانوني للآليات اللازمة لممارستها، رغم أن الواقع كشف عن اعتماد بعض هذه الآليات في محطات هامة من تاريخ المغرب وخصوصا في عقد التسعينات من القرن الماضي حيث تم رفع بعض المذكرات المطالبة بالإصلاح الدستوري، والتي تم رفعها من أحزاب المعارضة آنذاك وتم توجيهها للملك الراحل الحسن الثاني، كما تم توجيه العديد من المذكرات بمناسبة إعداد تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية ، وأيضا بمناسبة إعداد دستور المغرب لسنة 2011... وقد تم تتويج مسار الديمقراطية التشاركية في المغرب، بالنص في مقتضيات دستور المغرب الجديد على العديد من الآليات الكفيلة بضمان المشاركة المواطنة في مسار اتخاذ القرارات والسياسات العمومية. ومن بين المؤشرات الدالة على ضرورة وأهمية الديمقراطية التشاركية أن مشاركة المواطنات والمواطنين في مسار اتخاذ القرارات والسياسات العمومية من شأنها جعل النشاط المدني و السياسي للمواطن إيجابيا حيث يكون محفزا للانخراط في تدبير الشأن العام الأمر الذي من شأنه تقوية المشاركة السياسية وتدعيم الديمقراطية التمثيلية. كما أن إعمال الديمقراطية التشاركية من شأنه المساهمة في الحد من احتكار السلطة من قبل أقلية منتخبة في المجتمع وهذا ما من شأنه المساهمة في توسيع قاعدة النخب الاجتماعية والمدنية وتيسير مساهمتهم في تدبير الشأن العام. كما أن المفهوم التقليدي للانتخاب أصبح متجاوزا، حيث لا يمكن القول بأن دور المواطن يقتصر فقط على الإدلاء بصوته في الانتخابات لاختيار ممثليه في المؤسسات المنتخبة على المستويين الوطني والمحلي، وإنما من الضروري ضمان استمرارية مشاركة المواطنات والمواطنين في اتخاذ القرارات والسياسات العمومية بشكل دائم ومستمر وهذا ما من شأنه تفعيل مبدأ السيادة الشعبية وتكريس حكم الشعب. وفي الأخير فإن الديمقراطية التشاركية هي نظام يضمن لجميع المواطنات والمواطنين طبقا للقواعد الدستورية والقانونية الجاري بها العمل، المساهمة الفعالة والدائمة في مسار القرارات والسياسات العامة. كما أن الديمقراطية التشاركية تعد مدخلا أساسيا وآلية ناجعة لتحقيق الحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام، وتهدف أيضا لتحقيق الشفافية، وتساهم في تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة. كما أنها وسيلة هامة لضمان المشروعية من خلال الرضى المعبر عنه من قبل المساهمين في صنع القرارات والسياسات العامة والمعنيين بها. ويرتبط نجاح الديمقراطية التشاركية بمدى إشراك كل المعنيين من جمعيات مدنية وفاعلين مهنيين ونقابيين وقطاع خاص في كل القرارات والسياسات العمومية في جميع المراحل ابتداء بمرحلة التشخيص، ومرورا بمراحل إعداد القرارات والسياسات، وتبنيها واعتمادها، وتنفيذها، ومتابعتها، وتقييمها. والديمقراطية التشاركية بهذا المفهوم، لا تشكل بديلا عن الديمقراطية التمثيلية، وإنما هي مكمل لها، وتتواجد إلى جانبها. وهي تحاول تجاوز الاختلالات التي كشف عنها تطبيق الديمقراطية التمثيلية، هذا على الرغم من أن الديمقراطية التمثيلية التي تقوم على الاقتراع تبقى أفضل ما وصلت إليه البشرية كطريقة لتدبير الشأن العام. ثانيا: موقع الديمقراطية التشاركية في الدستور المغربي بالنظر لما أبانت عنه الديمقراطية التشاركية من ممارسات فضلى في العديد من الدول وفي الكثير من التجارب المقارنة، فقد كان من بين أهم المطالب التي تم رفعها بمناسبة مراجعة الدستور المغربي سنة 2011، هو إقرار الآليات التي من شأنها ضمان وتأمين المشاركة المواطنة في مسار اتخاذ القرارات والسياسات العمومية. وبالفعل، فقد تضمن الدستور المغربي لسنة 2011، العديد من الفصول المؤطرة للمشاركة المواطنة وللديمقراطية التشاركية، ففي الفقرة الأولى من تصدير الدستور المغربي تم النص على أن " إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة". كما أن الفصل الأول والمتعلق بطبيعة نظام الحكم وبمقومات النظام الدستوري المغربي ينص في فقرته الثانية على أن " يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة". وتنص الفقرة الثالثة من الفصل 12 من دستور 2011 على أن " تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون.". وينص الفصل 13 على أن " تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.". كما يتضمن الفصل 14 النص على أن " للمواطنات والمواطنين، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي، الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع". وينص الفصل 15 على أن "للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق". وينص الفصل 139 من الدستور على أن " تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها. يُمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله". وإضافة لهذه الآليات والفرص التي أتاحها دستور 2011 في مجال المشاركة المواطنة، فقد نص المشرع الدستوري في الباب الثاني عشر المتعلق بالحكامة الجيدة، على إحداث العديد من هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية. وفي إطار تنزيل مقتضيات الدستور، فقد تضمنت القوانين التنظيمية المتعلق بالجهات ومجالس الجماعات الترابية الأخرى، الكثير من المقتضيات المؤطرة للمشاركة المواطنة من قبل الجمعيات والمواطنات والمواطنين، وهو ما من شأنه أن يضمن مساهمة ومشاركة المواطنات والمواطنين في صناعة السياسات والقرارات العمومية على كافة المستويات الترابية. ثالثا: واجبات الجمعيات والمواطنات والمواطنين في تعزيز المشاركة المواطنة وبالنظر لما أتاحه الدستور من حقوق لفائدة المواطنات والمواطنين ولفائدة الجمعيات بهدف تأمين مشاركتهم في مجال السياسات والقرارات العمومية، ففي المقابل يقع على عاتق الجمعيات والمواطنات والمواطنين، العديد من المسؤوليات ومنها ما يتعلق بضرورة المشاركة الايجابية في اختيار من يمثلهم في المجالس المنتخبة. ففي أفق الانتخابات الجهوية والجماعية التي سيتم إجراؤها يوم 4 شتنبر المقبل تتحمل الجمعيات المدنية والمنظمات غير الحكومية مسؤولية التعبئة بهدف ضمان مشاركة مكثفة في الانتخابات، والتحسيس بشروط ومبادئ الاختيار السليم الذي ينبغي ّأن يكون مبنيا على القناعات بقوة البرامج الحزبية وبخصال المرشحات والمرشحين وبمدى قدرتهم على النهوض بالاختصاصات المسندة للجهات والجماعات الترابية بهدف تحقيق التنمية المنشودة على المستويين البشري والمجالي. كما أن الجمعيات تتحمل المسؤولية للمساهمة في مناهضة كل أشكال التلاعب بإرادة الناخبين من خلال تعبئة الناخبات والناخبين بعدم الخضوع للإغراءات المادية أو المعنوية التي من شأنها أن تؤثر على حريتهم واستقلالية قرارهم يوم الاقتراع. وهذا ما أكد عليه الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب، والذي جاء فيه " وفي هذا السياق، ندعو فعاليات المجتمع المدني والهيئات النقابية، للانخراط، بقوة، في تعبئة وتشجيع المواطنين على المشاركة في العملية الانتخابية.". كما أن المواطنات والمواطنين مسئولون بشكل مباشر على ضرورة المساهمة في التغيير المنشود. فعدم المشاركة أو اختيار موقف الحياد لايمكن أن يكون إلا في خدمة المفسدين، ولهذا فالتغيير لايتم بالارتكان إلى الأمر الواقع، وإنما يتطلب ضرورة الانخراط الايجابي عن طريق المشاركة السياسية المكثفة وعن طريق حسن الاختيار. كما أن الانتخاب هو وسيلة لمحاسبة المنتخبين، ولهذا ينبغي عدم تفويت الفرصة إما لتزكية من ثبت تفانيه في العمل لخدمة الوطن والمواطنين، أو سحب الثقة ممن ثبت بأنه غير صالح وبأن ما يهمه هو المقعد في حد ذاته والدفاع عن مصالحه واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع... وما يدعو لضرورة المشاركة المكثفة يوم 4 شتنبر، هو أنه لأول مرة في تاريخ المغرب سيتمكن الناخبون والناخبات من اختيار ممثليهم في مجالس الجهات عن طريق الاقتراع العام المباشر، وهو ما يشكل سلطة حقيقية بيد المواطنات والمواطنين ينبغي عدم تفويت الفرصة لممارستها طبقا لما يمليه الضمير وفي إطار الاحترام التام للضوابط القانونية والأخلاقية المؤطرة للعملية الانتخابية. وفي هذا السياق أكد الملك في خطابه بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب، في رسالة صريحة للمواطنات والمواطنين على أن "... التصويت حق وواجب وطني، وأمانة ثقيلة عليكم أداءها، فهو وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم، أو لتكريس الوضع القائم، جيدا كان أو سيئا. وعليكم أن تعرفوا أن انتخاب رئيس الجهة وأعضاء مجلسها بالاقتراع المباشر، يعطيكم سلطة القرار في اختيار من يمثلكم. فعليكم أن تحكموا ضمائركم وأن تحسنوا الاختيار. لأنه لن يكون من حقكم غدا، أن تشتكوا من سوء التدبير، أو من ضعف الخدمات التي تقدم لكم...". ولهذا فلحظة الانتخابات هي مناسبة لتقرير المصير، ولممارسة السلطة من قبل الشعب، وهي مناسبة للمحاسبة والمساءلة، كما أنها فرصة للتعبير الحر عن إرادة الناخبات والناخبين...، ولكل هذه الاعتبارات ينبغي عدم تفويت هذه الفرصة وذلك بهدف الوصول لانتخاب مجالس جهوية وجماعية بمؤهلات بشرية قادرة على رفع التحديات التنموية وعلى إنجاح مشروع الجهوية المتقدمة وتطوير نظام اللامركزية بالمغرب. *أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية كلية الحقوق جامعة سيدي محمد بن عبد الله – فاس