إن الأصل في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني أنها علاقة تكامل واعتماد متبادل وتوزيع للأدوار،وليست علاقة خصومة أو تناقض وبالتالي فعملية صنع السياسات من المهام الأساسية في أي دولة، وهي عملية يمكن توصيفها بالميكانيكية والناتجة عن تفاعل أطراف عديدة حكومية وغير حكومية داخلية وخارجية،وفي المقابل فان منظمات المجتمع المدني تصبح أكثر فعالية في المشاركة في عملية صنع السياسات إذا كانت الدولة تتمتع بسلطات متماسكة قادرة على وضع السياسات وتنفيذها. وتؤثر منظمات المجتمع المدني على عمليات صنع السياسات من خلال عدة وسائل واليات كتقديم الخبرة والمشورة،وبناء تكتلات وتحالفات لممارسة نوع من الضغط أو الدعاية أو المراقبة على صناع السياسات ، وبالتالي فان العلاقة اليوم في إطار صناعة السياسات وجب أن تحتكم وكما أشار الدستور إلى ذلك إلى مقاربة تشاركية بين المؤسسات العمومية أو الأجهزة المنتخبة والمجتمع المدني؛حيث من خلال استقراء نصوص الدستور المغربي لسنة 2011 يتضح أن هدفه يتجاوز منطق الإنصات والحوار إلى المشاركة الفعلية في عملية إعداد واتخاذ القرار العمومي،وإعداد وتتبع السياسات العمومية في إطار التأويل السليم للنص الدستوري وبالضبط الفصل 139 منه الناص وفي فقرته الأولى " تخضع مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى واليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها." ومن خلال استقراء بسيط لهذه الفقرة الدستورية يتضح أن الأمر يتجاوز التشاور والطابع الاستشاري الذي ليس مطلبا في حد ذاته وإنما هو وسيلة والية لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في برامج التنمية وتتبعها،فالهدف إذن هو تسيير هذه المساهمة وضمانها وهو ما نجد المادة 117 من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات قد حادت عنها في فهم وتأويل وتنزيل معيب للنص الدستوري؛حيث قوضت المهمة الأساسية وهي مهمة تيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في برامج التنمية إلى مهمة ثانوية وهي التشاور الذي يفتقد لأي طابع تعاقدي أو إلزامي ،وبالتالي من خلال هذه المادة يكون قد أعدم حق المواطنات والمواطنين والجمعيات في صناعة القرار التنموي واختيار أنموذج التنمية المناسب لهم باعتبارهم المعنيين به.ومن خلال بسط المادة 117 القائلة ب " تحدث لدى مجلس الجهة ثلاث(3) هيئات استشارية: - هيئة استشارية بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني تختص بدراسة القضايا الجهوية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع؛ - هيئة استشارية تختص بدراسة القضايا المتعلقة باهتمامات الشباب؛ - هيئة استشارية بشراكة مع الفاعلين الاقتصاديين بالجهة تهتم بدراسة القضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي. يحدد النظام الداخلي للمجلس تسمية هته الهيئات وكيفيات تأليفها وتسييرها" . يمكن أن نلاحظ الأمر بجلاء أكثر ؛فاللجان الثلاث هي لجان استشارية، الأولى والثانية اهتماماتها وأدوارها جد بسيطة ويتم اللجوء إليهما من اجل الإنصات والتشاور حول القضايا الجهوية المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع وكذا اهتمامات الشباب،بينما فلسفة النص الدستوري ارتكزت على تيسير مساهمة هؤلاء في إعداد برامج التنمية وتتبعها ،وهنا يكون فهم وزارة الداخلية قد حول المشاركة الفاعلة والمسؤولة المرتبطة بالإعداد والتقييم إلى عملية الإنصات وإبداء الرأي بعيدة كل البعد عن التشارك.هذا بينما ارتكز عمل اللجنة الثالثة على تقديم الاستشارة في القضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي ،لكنها هيئة تنفتح فقط على الفاعلين الاقتصاديين في استثناء مباشر للمواطنات والمواطنين. وبالتالي فمن الخلاصات التي يمكن الخلوص إليها حول المادة 117 من المشروع هو أنها مادة معيبة في التأويل والتنزيل السليم للنص الدستوري ،ترتهن في فهمها إلى مقاربة اقصائية تجسد نمط وعقلية اشتغال وزارة الداخلية،كما يمكن أن نخلص إلى أن هذا التأويل إنما يحاول قلب علاقة التكامل بين الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التمثيلية إلى علاقة مقاطعة وتباعد وانفصال مما سيؤدي معه الحال إلى إفراغ النص الدستوري من فلسفته وأهدافه في بناء التكامل بين الديمقراطيتين التشاركية والتمثيلية لصالح المواطن والوطن على التوالي،بينما الخلاصة الأخرى التي يمكن تسجيلها هي أن المادة أغفلت بالمرة الحديث عن المجالس الجهوية للشباب والعمل الجمعوي ودورها في تنظيم مشاركة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد وتتبع مشاريع التنمية على المستوى الجهوي مما يعكس قصر نظر هذا المشروع،ويبقى الرهان على هذا المستوى معقودا على النظام الداخلي للمجلس الجهوي في إصلاح خطأ عمومية النص ونواقصه. وبالعودة إلى الفقرة الثانية من الفصل 139 من الدستور والتي تؤسس لآلية من آليات تنزيل الديمقراطية التشاركية وتوطينها وتفعيلها،نجدها تنص على " يمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله"،وبالحديث عن آلية العرائض فإننا نجدها من الآليات التي ساهمت في الديمقراطيات الحديثة في توسيع وتوطين مشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم وأمورهم واختيار نماذج التنمية التي يرونها خادمة لطموحاتهم وبالتالي تكون من الآليات الأساسية في قاموس الديمقراطية التشاركية ،هذا هو الأصل ،لكن بالنسبة لمشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات فانه قيد هذا الحق الدستوري بكثرة الشروط وتعقدها انطلاقا من المادة 120 القائلة بوجوب استيفاء مقدمي العرائض من المواطنات والمواطنين للشروط التالية: - أن يكون من ساكنة الجهة المعنية أو يمارسوا بها نشاطا اقتصاديا أو تجاريا أو مهنيا؛ومن خلال هذا الشرط يتضح أن هذا المشروع يعيد تعريف المواطنة وأسسها وشروطها وفق قاموس خاص يقتصر فيه على الانتماء الضيق من جهة ومن جهة أخرى يربطها بممارسة الأنشطة الاقتصادية أو التجارية أو المهنية برقعة تراب الجهة،وبالتالي يكون شرطا اقصائيا في وجه مغاربة الخارج ممن ساهموا بقوة في بناء جهاتهم وقراهم وحواضرهم، وهو إقصاء لا يمكن القبول به في مغرب ما بعد دستور 2011، لا يمكن أن نقبل ونحن المطالبون بتوسيع مشاركة المغاربة المقيمين بالخارج في الحياة العامة بإقصائهم من حقهم الدستوري،وبالتالي فمن خلال هذا الشرط يتضح عيب التأويل الدستوري وتقييد النص، أو إن صح التعبير الانقلاب عليه. - أما على مستوى الشرط الثاني فان ذات المادة أي المادة 120 تشترط على مقدمي العرائض أن يكونوا مسجلين باللوائح الانتخابية،وكأن آلية العرائض إنما هي فرصة للانتخاب والتصويت،وهي على العكس من ذلك؛ حيث تنتمي وظيفيا إلى عائلة الديمقراطية التشاركية أكثر منها انتماءا إلى الديمقراطية التمثيلية، ومن خلال الشرط السابق نكون قد أقصينا عددا من المواطنين والمواطنات من حقهم الدستوري والذي لا يرتبط بأي حال من الأحوال بحق الانتخاب الذي لم نجد أي إشارة دستورية له على مستوى منح الحق في العرائض للمواطنين والمواطنات. - بينما رام الشرط الثالث من نفس المادة توفر المصلحة المباشرة والمشتركة في تقديم العريضة،وهنا يطرح سؤال معيار المصلحة المباشرة في زمن الجيل الثالث من الحقوق والمصالح والمطالب،وكيف يمكن أن نتحدث عن المصلحة المباشرة في ظل دستور سمح للمواطنين بحق إعداد وتنفيذ وتتبع وتقييم السياسات العمومية. - أما الشرط الرابع والأخير فهو المرتبط بعدد الموقعين على العريضة والمحدد في 600 ناخب بالجهة، ومن خلال هذا التوكيد اللفظي يتضح أن المشروع يقر بربط الحق في العرائض بحق الانتخاب ،حيث كان من الأحرى أن يستعمل المشرع لفظة الموقع عوض لفظة الناخب،وهو ما يؤكد إقصاء مواطني الجهة غير الناخبين (تلاميذ المستوى الثانوي،المواطنين غير المسجلين باللوائح الانتخابية ...)وهو ما يمكن اعتباره إصرارا على تقييد حق دستوري هدفه توسيع مشاركة المواطنات والمواطنين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية و .. .
وبالتالي فمن خلال هذه الشروط يكون مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات هذا قد نجح فقط في تقييد الحقوق الدستورية للمواطنات والمواطنين واخطأ فيما دون ذلك كله،وهو ما يعكس عدم فهم فلسفة الديمقراطية التشاركية وطرحها من قبل الدستور في هذا التوقيت المتسم بسيادة نقاش أزمة السياسة أو أزمة الديمقراطية التمثيلية،والتي لابد معها من الانفتاح على الديمقراطية التشاركية من اجل ضمان تكامل العلاقة بين الديمقراطيتين ،وتوسيع مجال مشاركة المواطنات والمواطنين واحتضان من نفر من المشاركة عبر قنوات الديمقراطية التمثيلية،وهي الفلسفة التي ظلت غائبة في التأويل الذي ارتكز عليه نص المشروع وهو ما يعكس بالتالي ضعف اطلاع صاحب المشروع على حجم ونوعية التجارب المقارنة في المجال،وما يدعم قولنا على هذا المستوى هو التمييز سواء على مستوى شكل مشروع القانون التنظيمي بين العرائض المقدمة من قبل المواطنين والعرائض المقدمة من طرف الجمعيات ،وهو ما يفهم معه أننا أمام نوعين من العرائض بينما الأمر ليس على هذا الشكل؛نحن أمام نوع واحد من العرائض يمكن أن تنخرط فيه الجمعيات أو المواطنين أو هما معا،كما يمكن من خلاله للجمعيات أن تلعب دور المنظم والميسر لمشاركة المواطنين في ممارسة هذا الحق.إن هذا التقييد إنما يظهر كذلك من خلال الفقرة الرابعة من المادة 122 من نفس المشروع والمخصصة لتبيان كيفيات إيداع العرائض،والقائلة بأنه في حالة عدم قبول العريضة من قبل مكتب المجلس يتعين على الرئيس تبليغ الوكيل ( المواطن أو المواطنة المعين من قبل المواطنين و المواطنات وكيلا عنهم) أو الممثل القانوني للجمعية حسب الحالة بقرار الرفض داخل اجل 3 أشهر ابتداء من تاريخ التوصل بالعريضة ،وهو الأجل الذي يعتبر طويلا جدا ومن خلاله يمكن تضييع حق أصحاب العريضة في تجاوز أسباب رفضها وإعادة تقديمها لتدرج في جدول أعمال المجلس في اقرب اجتماع. إن ما يمكن أن نخلص إليه في الأخير هو كون مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات معيب في تأويله وفهمه للنص الدستوري ،مقيد للحقوق الدستورية للمواطنات والمواطنين،وجائر في حق فئات عدة من المواطنين،إلا انه ومن جانب آخر يعتبر نتاجا طبيعيا لغياب المقاربة التشاركية على مستوى إعداده مع الفاعلين الجمعويين والمواطنات والمواطنين والمهتمين،وبالتالي فالمقاربة التي اشتغلت بها وزارة الداخلية كانت مقاربة فردانية بجانب مجموعة من الأحزاب السياسية ،وبالتالي فالاعطاب التي أنتجت في هذا القسم على مستوى فهم وتأويل وتنزيل النص الدستوري إنما تعكس عطب الأحزاب السياسية وعطب المقاربات الفردانية في عهد دستور التشارك والديمقراطية التشاركية.