محاولة للفهم أولا: في تفسير عوامل العزوف الانتخابي بعد انطلاق الحملة الانتخابية، ومرور أكثر من أسبوع على مجرياتها، تبين أن هناك برودة ولا مبالاة واستهزاء وسخرية في التعامل مع هذه الاستحقاقات الانتخابية المهمة والمحددة لمصير ومستقبل العملية الديمقراطية ببلادنا. ولهذا فإن أغلب الباحثين والملاحظين والمتتبعين، حاولوا أن يقدموا إجابات عن هذا الوضع المقلق. فمنهم من ذهب في اتجاه تفسير أسباب ذلك، بتحميل الاحزاب مسؤولية التقصير في التواصل مع المواطنين طيلة السنة وليس فقط في المحطات الانتخابية. والبعض الآخر، فسر ذلك بغياب إرادة حقيقية في التغيير، وأن هذه الانتخابات لا تعدو أن تكون شكلية ولن يترتب عنها أي آثار على حياة المواطن، وأن "دار لقمان لازالت على حالها". ومنهم من فسر ذلك بأزمة ثقة بين المواطن والدولة من جهة وبين الأحزاب السياسية من جهة أخرى. بينما هناك من ذهب في تحليله لظاهرة العزوف، لكون العملية الانتخابية برمتها ليست سوى لعبة مصالح بين الدولة من جهة والأحزاب السياسية من جهة أخرى، الشيء الذي ينجم عنه تغيب لصالح المواطن والساكنة من نهاية المطاف. وهناك من رأى بأن الاسباب تعود إلى ما هو تاريخي، وبالضبط تصرفات الدولة في مرحلة الحسن الثاني، حيث كان المخزن، يقوم بالتزوير المفضوح والفاضح لصالح الاحزاب "الصفراء"، ولعل هذا التفسير الذي يستحضر السياق السوسيوتاريخي، كفيل بفهم العلاقة المتوتر التي تشكلت بين المواطن والانتخابات. فقد تحولت من لحظة قيام بالمسؤولية وبالواجب الوطني إلى لحظة تلاعب و"مقامرة" بمصير البلد وبتطور مساره الديمقراطي. ورغم أننا اليوم نلاحظ تحولا في نظرة الدولة للاستحقاقات الانتخابية، ورغم انحسار آليات التزوير المفضوح والفاضح ورغم الإرادة الايجابية المعلنة من طرف الدولة/ المخزن، ورغم وجود قدر معقول من الشفافية الانتخابية والتنافس المتكافئ بين الاحزاب السياسية، -بالحياد لجهاز وزارة الداخلية-، فإن سلوك ومواقف المواطنين من الانتخابات لم يتغير بالشكل المطلوب، ولا زال العزوف واللامبالاة هو سيد الموقف. لهذا نتساءل لماذا لا زالت فئة عريضة غير منخرطة في المسار الديمقراطي ببلادنا؟ هل هي أزمة مواطنة؟ أم مواطنة الأزمة؟ هل سنخلف موعدنا مع التاريخ في إعادة إنتاج نفس الأوضاع والمسلكيات وآليات الارتزاق السياسي؟ وكيف السبيل لاعادة الثقة للمواطن في المسار الديمقراطي وللحياة السياسية برمتها؟ وهل نحتاج لمرحلة زمنية معينة في سبيل تحقيق ذلك؟ وما هي المبادرات النوعية التي يجب التفكير فيها-من كل الفاعلين- للتأسيس لمجتمع ديمقراطي ومواطن ومسؤول؟ في الحقيقة، يصعب الادعاء بأننا سنقدم أجوبة عن كل هذه الاسئلة المؤرقة، لكننا سنسعى لتقديم وجه نظر متواضعة، مساهمة منا في إغناء النقاش في قضايانا الوطنية. ثانيا: أزمة مواطنة أم مواطنة الأزمة أجدني بداية متفقا مع كل المحاولات التي قدمت –والتي لم نستحضر منها إلا بعض العناصر- لتفسير أسباب العزوف الانتخابي والسياسي بصفة عامة. فإذا ما حاولنا أن نقدم جوابا عن أسباب العزوف السياسي، سوف لن نأتي بجديد. فالكثير من المغاربة الذين لا يصوتون ولا يشاركون في الحياة السياسية، نجد أنهم، إما لا يثقون في الأحزاب السياسية، أو لا يثقون في الدولة (وبالمناسبة فهذه المسألة تتكرر في كل المحطات الكبيرة في المغرب، فعلى سبيل المثال، لا حظنا أن نسبة هامة من المواطنين المغاربة لم يشاركوا في الاحصار الوطني للسكان والسكنى لسنة 2014، بسبب اللاثقة). أو أن جزء من المغاربة، لم يلمسوا التغيير المنشود في عمل المنتخبين، وهو ما عبر عنه العاهل المغربي في خطاب ثورة الملك والشعب الأخير بأبهى صوره. أو أن هناك أسباب أخرى، مرتبطة بهشاشة فكرة المواطنة عند المغاربة. إذ الحاصل أننا لا نفتأ نسمع في كل لحظة وفي كل حين "أختي المواطنة أخير المواطن". لكن هل فعلا هناك مواطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟ عندما نتفحص الأدبيات الحقوقية التي حاولت أن تقدم دلالة لهذا المفهوم، نجدها تتحدث عن أن "المواطن هو صاحب السلطة الأصلي"، وهو "سيد نفسه ومنه ينسحب مبدأ السيادة على الدولة"، وأن "المواطن يمنح حق السلطة والحق باستخدامها". السؤال المطروح والذي قد يطرحه أي واحد منا: أين نحن من هذه المبادئ والقيم، التي تعطي للمواطن الحق في السلطة وفي استخدامها، وفي مبدأ سيادة المواطن من سيادة الدولة؟ لا نشك مطلقا أننا قطعنا اشواطا كثيرة في سبيل التأسيس لمغرب حداثي وديمقراطي ومواطن، لكننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق هذه المبادئ الكبرى. فآخر من يستشار هو المواطن في مجموعة من القضايا التي تهمه والتي تمس معيشه اليومي. خذ على سبيل المثال المشاريع التنموية التي تعرفها العديد من المدن المغربية، هل تم إشراك المواطنين في التفكير والتخطيط لها ؟ ولهذا نفهم لماذا لا يكثرت المواطن العادي بالحملات الانتخابية وغيرها، لأنه غير مشرك بشكل أو بآخر في عملية اتخاذ القرار. وإذا ما اردنا ان نتقدم في النقاش، فإننا نلاحظ أنه من شروط تحقيق المواطنة الحقيقة، هو التمتع بكامل حقوق المواطنة. فأين نحن من هذه الحقوق؟ قبل ان نطالب المواطن بالواجبات التي عليه؟ عندما نقول المواطن، فيجب على الدولة والمنتخبين والاحزاب والمؤسسات السياسية أن تكون في خدمة هذا المواطن وليس العكس. والحاصل عندنا في التجربة المغربية، أن آخر شيء نفكر فيه هو حقوق المواطن. فمثلا حقه في التطبيب، أو التمدرس، أو التوظيف أو الترقي الاجتماعي والمعرفي والثقافي وما إلى ذلك من الحقوق. لا أحد يمكنه أن يجادل في كوننا في المغرب لازلنا متخلفين في هذه الحقوق، فلا التعليم يقدم خدمات في مستوى معين حتى لا نقول في جودة ما، للمواطن؟ ولا الصحة بدورها تقدم خدمات في مستوياتها الدنيا، ولا المواطن يتمتع بالاندماج المجتمعي كما هو الشأن في باقي الدول التي تحترم مواطنينها؟ إننا مع كل أسى وأسف نلاحظ أن واقع الحال يؤكد أننا نعاني من أزمة مواطنة ومن مواطنة الأزمة، بدليل ما قدمناه آنفا من معطيات. ويكفي أن نشير إلى أننا لا زلنا نرتب في تقارير التنمية البشرية في مستويات جد متدنية (الرتبة 129 في سنة 2014). لكل ذلك أعتقد أننا لا يمكن فهم سلوك المواطن الانتخابي بدون فهم الحيثيات المترسبة والقائمة والموضوعية والتي تغذي هذا العزوف. قد يقول القائل: بالفعل، ما حاولت شرحه وتفسيره، نحن الأحزاب السياسية والدولة، نفهمه جيدا، بدليل أن خطاب العرش الأخير، تحدث عن معضلة التنمية (أكثر من 12 مليون فقير في المغرب)، والذين لا تصل إليهم ثورات النمو. لكننا نختلف معكم أيها الباحثون فنحن نقول هذا إرث تاريخي لا يمكن تجاوزه إلا بشروط وإلا إذا تم فرز مؤسسات سياسية قوية وذات صلاحيات كبيرة؟ إذا سلمنا بهذا الأمر وهو على كل حال، يبدو مقنعا بالنسبة لمجموعة من المواطنين، فكيف يمكن إقناع الأكثرية به. إن العديد من المواطنين، يحتاجون إلى مبادرات وأعمال وخطوات وإجراءات ملموسة في واقعهم اليومي، وليس إلا نوايا أو خطب أو إعلانات؟ وعلى العموم، هذه جدلية أو معادلة جد صعبة: هل الانتخابات طريق لتحقيق المواطنة الحقة؟ أم على العكس أن المواطنة الحقة هي طريق تحقيق المجتمع الدمقراطي؟ اعتقادنا أن هذه جدلية، ليس فيها عنصر يسبق الآخر، بل هناك تداخل وتمازج بين كلا المعادلتين: الاختيار الديمقراطي سبيل للمواطنة الحقة والمواطنة الحقة سبيل لتطوير المسار الديمقراطي. لا يمكن بأي حال من الحوال، أن يغيب عن أذهاننا أن أن الصورة الانتخابية بالمغرب، لا تتأطر كليا بهذا التفسير الذي قدمناه سابقا، (وهو أزمة مواطن ومواطنة الأزمة)، فهناك عناصر أخرى تنتصب في التفسير والتحليل، منها أن هناك فئات (ليس كثيرة وليس أقلية) تصوت في الانتخابات؟ فهل يعيني أنها لا ينسحب عليها نفس المواصفات للمواطن المغربي؟ على العكس من ذلك، فالفئة الناخبة او التي تمارس حقها في التصويت، ينسحب عليها ما ينسحب على الآخرين، لكن بالتأكيد أن لها استراتيجيات معينة من وراء التصويت، ويمكن إجمال ذلك في النمذجة التالية، - لا تعدو أن تكون محاولة للفهم والتفسير-: ثالثا: محاولة في نمذجة أنواع السلوك أو الموقف من الانتخابات 1-الذين يصوتون لصالح أحزابهم (الأعضاء والمتعاطفون...) هناك أحزاب لديها آليات للتعبئة والتي تشتغل بشكل عادي طيلة السنة وليس فقط في الانتخابات، ولديها جمعيات، وخلايا دعوية متفرعة عنها في العمل الاجتماعي والتربوي والجامعي بشكل واضح وعلني وفيه تمرين على قيم المواطنة ومن بينها التصويت تحمل المسؤولية) . وحتى بعض الاحزاب لديها شبكات غير رسمية، وتشتغل في الخفاء وتقدم مصالح لمجموعة من الفئات (حالة الأسواق العشوائية الممتدة في التجمعات السكانية، والتي تقدم خزانا انتخابيا قويا لبعض الاحزاب، حراس السيارات في الموافق غير المؤطرة بقانون، الذين يتاجرون في الخمور المهربة والمخدرات وشبكات الدعارة ومقاهي الشيشة وما إلى ذلك). وذلك بتواطؤ بينها وبين بعض رجال السلطة، الذين يستفيدون من هذا الوضع غير الرسمي. 2-فئات الأعيان في القرى وفي المناطق الصحراوية، والتي تشكل شبكات للمصالح وتوزيع الرساميل الرمزية والمادية ، هناك مفهوم جديد "الاعيان الجدد" اصحاب المشاريع العقارية الكبرى والمتوسطة والذين يطمحون لامتلاك موقع قدم في السلطة، المزاوجة بين المال والسلطة. لقد أصبحنا أمام تشكل جديد لمفهوم العين، يتجاوز المعنى الكلاسيكي الذي كان يحددهم في الاعيان القروية والذين يمتلكون الارض ويسيطرون على مصادر الثروة ويقومون بتوزيع مختلف الرساميل المادية والمعنوية، وهذه الفئة هي التي يراهن عليها حزب "البام" بشكل كبير، مقدما لها مجموعة من الوعود والاغراءات ما يجعلها تربط مصالحها مع مصالح هذا الحزب. 3-الذين يأخذون رشاوى مقابل التصويت (الفئات الهشة والتي توجد في أحزمة المجتمع، والذين يعيشون العوز المادي والمعنوي) (الارتزاق الانتخابي، فرصة لا تعوض) وقد تكون مرجحة في بعض الحالات (عندما كنت مرشحا في الانتخابات الجماعية الأخيرة 2009، وقفت على هذا المعطى بنفسي وقد عاينت كيف كانت تقوم بعض الاحزاب بتقديم هذه الرشاوى حتى يوم الاقتراع، في ظل حياد سلبي للسلطة ولممثليها في ذلك التاريخ. واليوم في انتخابات 2015 لا نشك مطلقا في استمرار نفس المسلكيات التي نجد فاعليها هم بعض الاحزاب السياسية التي تتشدق في الخطابات وفي الاعلام بأنها ستحارب الفساد؟؟؟. 4-الفئة الصامتة (الرمادية) والتي لا تصوت وتراقب وتنظر، ما ستسفر عنه العملية الانتخابية (مع الاغلب والأكثر) والتي تضم العديد من الشباب والفئات المتوسطة والمثقفين والاكاديميين (فقدان الثقة) والتي تنظر للعملية الديمقراطية بمثالية وبيوتوبية زائدة. أو التي كانت قد صوتت في الانتخابات الاخيرة بعد الحراك المغربي، لكنها اليوم تتخذ مسافة نقدية لتنظر في هذا المسار الديمقراطي المغربي ما ذا سيتمخض عنه؟ والحاصل أن هذه الفئة، حاولت أن تمارس حقها في التصويت لكنها اصطدمت بالآليات التحكمية المخزنية العتيقة، التي لا زالت تعتمل في الحياة السياسية المغربية، والتي تفضي إلى نتيجة جد خطيرة، وهو أن المسلسل الانتخابي ليس إلا آلية لتزين الواجهة المغربية على الصعيد الدولي، وأن الانتخابات لا تفزر مؤسسات سياسية تعمل على الاقتسام المشروع للسلطة، وعلى تداولها بشكل سلسل بين الجميع وبما يخدم مصالح الجميع. طبعا هذا التحليل جد مشروع، خصوصا عندنا نقارن وضعنا بأوضاع مجتمعات قطعت أشواطا في الحياة الديمقراطية. إن هذا الموقف بالرغم من وجاهة تصوره، لكنه يساهم بشكل أو بآخر في ترك فرصة للمرتزقين والانتهازيين الانتخابين للتموقع من جديد في دواليب السلطة، ولهذا لو وقفت هذه الفئة مع نفسها ووضعت أمام أعينها مختلف السناريوهات، لأقلعت عن موقفها هذا و لمارست حقها في التصويت، لأن التصويت على كل حال، يبقى وسيلة جد قوية في التعبير عن موقف معين من الانتخابات، أما الانسحاب والتراجع للوراء فلا يستفيد منه سوى المتطفلون على العمل السياسي. رابعا: آفاق التساؤل والنقد والاستشراف ختاما لا ندعي أننا قدمنا تحليلا شافيا لفهم السلوك الانتخابي عند المواطن المغربي، لكن حسبنا أن نثير النقاش في هذه القضايا، بمجموعة من الفرضيات الأولية، ولو على سبيل فتح شهية الباحثين للكشف عن المسكوت عنه في هذه الظواهر. إذ المؤكد أن الظواهر السياسية ومنها تفسير السلوك الانتخابي –خصوصا في مجتمعاتنا العربية والاسلامية- لا زالت تكتنفها العديد من الصعوبات والعراقيل سواء على مستوى الدولة في عدم تشجيعها للباحثين في الجامعات المغربية للدخول في مشاريع بحثية عميقة ومتواصلة للكشف عن هذه القضايا والظواهر، أو من خلال المواقف المضمرة وغير المعلنة من قبل المواطن الذي لا يعبر عن مواقفه بكل جرأة وحرية. مما يعيق عملية التفسير والتحليل. ونحن نعتقد أن الكل بحاجة لفهم هذا العزوف؟ وايجاد الأجوبة المطابقة له. لكن قبل ذلك وبعده، أعتقد أن الجواب الحقيقي الذي وجب أن تقدمه الدولة، والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والاعلام، -هو القطع مع المسلكيات القديمة (التزوير الافساد الانتخابي، التحكم، الاستئثار بالسلطة، تجاهل مطالب المواطنين)، والتي لا تعير اهتماما لمصالح المواطنين ولا لتطلعاتهم الجديد ولا لمستقبلهم-، يمكن أن تكون له آثار وخيمة على المسار الديمقراطي برمته. ولهذا إذا كان من درس يمكن أن تقدمه لنا محطة الانتخابات، هو التقاط نبض الشارع، والعمل على تجسيد قيم المواطنة في سلوكات ومواقف الأحزاب السياسية، وثانيا العمل على التنافس في خدمة المواطن والمواطنة المغربية، بما يستجيب لمغرب التحول والتطور والحداثة، وللمغرب الجديد. متمنياتنا بالنجاح للديمقراطية المغربية، وكل انتخابات والمواطنة والمواطن المغربي بألف خير.