أظهرت معطيات التقرير الاقتصادي والاجتماعي الصادر عن اللجنة الاستشارية للجهوية وجود فوارق شاسعة في مؤشرات التنمية بين الجهات، وهو ما يتضح من خلال تباين مستويات النمو الاقتصادي، معدلات البطالة، والتنمية المجالية بشكل عام، بين مختلف جهات المملكة؛ حيث استحوذت جهتي الدارالبيضاء الكبرى، والرباط سلا زمور زعير لوحدها على أكثر من 35 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يعني بشكل مباشر أن مسار التنمية غير متوازن ترابيا، بكل ما يعنيه ذلك من اتساع لحجم الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وإهدار لفرص التنمية الممكنة جهويا. واقع، جعل إقرار الجهوية المتقدمة خيارا أساسيا وضرورة منهجية لتعزيز مسار التنمية المحلية والوطنية، حيث مكن الفصل 135 من دستور المملكة، الجهات، من وضع الشخصية الاعتبارية، وهو ما جعلها بقوة الدستور فاعلا أساسيا في رسم السياسات العمومية، ومساهما رئيسيا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المندمجة محليا وجهويا، بالنظر للتحولات العميقة التي مست مجالات وإمكانيات ووسائل تدخل الدولة من جهة، وتعاظم حجم التحديات التنموية المطروحة من جهة أخرى. الدولة: بين رهانات الشرعية واكراهات الفعالية بقدر ما تتعزز العولمة الاقتصادية، بقدر ما تتضاءل شرعية تدخل الدولة في المجال الاقتصادي نتيجة تقلص مجالات وفرص تأثيرها في تحديد الاختيارات الاقتصادية بشكل إرادي ومستقل، وهو ما ينجم بالأساس عن ظهور فاعلين جدد أكثر تأثيرا وفعالية، مجسدين في المنظمات الدولية، والمنظمات المدنية الغير حكومية، فضلا عن الشركات المتعددة الجنسيات. بالمقابل، تتسع مجالات تدخل الجهات خصوصا، والجماعات الترابية بشكل عام، كنتيجة لإعادة انتشار أدوار وإمكانيات الدولة المركزية، كجواب عن متطلبات المنافسة الدولية الحادة، وإكراهات ومتطلبات نجاعة وفعاليات السياسات العمومية، خصوصا تلك المتصلة بالمجال الاقتصادي. وهو ما ينسجم بشكل وثيق مع إعادة تموقع الدولة كناظم وضابط للتوازنات الماكرواقتصادية، وضامن للتوازن والتضامن والتعاون بين الجهات، بما يحقق التقليص من حجم المركزية البيروقراطية المفرطة وتكلفتها الاقتصادية، ويمنح الفاعلين رؤية للمشاريع التنموية الجهوية المتنافسة، عوض النموذج التنموي التنميطي المطور مركزيان، والغير خاضع لمنطق التوطين الترابي لوسائل وفرص التنمية محليا. لدا، فإن إصلاح الدولة على نحو يعيد تعريف المسؤوليات والأدوار التنموية للمركز، ويعزز إمكانيات واختصاصات الجهات، بل ويجعلها الفاعل الرئيسي، أملته بالأساس متطلبات تسريع وثيرة التنمية، والرفع من منسوب الفعالية الاقتصادية في عالم متغير، جعل من الجهة المستوى الأمثل لتدبير الشأن الاقتصادي. الجهة: محرك للتنمية وحاضن للمبادرات يتضح من خلال القانون التنظيمي المتعلق بالجهات أن المشرع قد كرس الدور الريادي للجهة كفاعل في التنمية الاقتصادية، وفضاء حاضن للمبادرات التنموية على المستوى المجالي، في أفق إعطاء نفس جديد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ترابيا، عبر أربع وظائف أساسية: - توفير الظروف المحفزة للاستثمار والبحث والابتكار، من خلال دعم المقاولات جهويا. - توفير البنيات التحتية وتنظيم مناطق الأنشطة الاقتصادية التجارية والصناعية. - تحسين جاذبية الجهة للاستثمار الوطني والأجنبي. - التشغيل والتكوين المهني. تحسين شروط وظروف التنمية الاقتصادية انطلاقا من الوظائف المذكورة أعلاه، يتأتى من خلال قدرة الجهة كمستوى وسيط بين المركز المتمثل في الدولة، والجماعات المحلية، على إشراك الفاعلين الاقتصاديين المحليين عبر استقراء حاجياتهم وانتظاراتهم، وهو ما سيفضي عن تشخيص واقعي للحاجيات وتلبيتها. فإذا كانت أغلب محددات التنافسية المرتبطة بالتكلفة تعود للدولة بحكم الصلاحيات المخولة لها في مجال تحديد نسب المساهمة الضريبية والحد الأدنى للأجور، فإن باقي مرتكزات التنافسية الأخرى يمكن مقاربتها على المستوى الترابي بشكل يمكن من تقوية قدرات ومؤهلات النسيج الاقتصادي الجهوي، وتمكينه من شروط التنافسية وطنيا ودوليا؛ حيث أن الجهة، قد استطاعت في التجارب المقارنة، من تكريس دورها كمستوى مرجعي للتنمية الصناعية والخدماتية، وكأنسب آلية لتوفير البنيات الأساسية المهيكلة للتنمية الاقتصادية الجهوية، والجاذبة للاستثمار. كما أن الجهة، وبوصفها الجماعة الترابية المسؤولة عن التنمية الاقتصادية جهويا، تبقى ملزمة بالتخطيط الاستباقي وإعداد التراب، بشكل يمكن من استغلال أمثل للمؤهلات الجغرافية والطبيعية والبشرية، وضمان التقائيتها مع أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، انطلاقا من التشخيص المشترك للحاجيات والعجوزات. على أن الجهة، ومن أجل ضمان تحقيق كل ذلك، تبقى ملزمة بتكريس تموقع وظيفي وطني ودولي بعلاقة بالجهات الوطنية والأجنبية الأخرى لسببين رئيسيين؛ أولا: التموقع الوظيفي وطنيا، يمكن جهات المملكة من اكتساب مؤهلات تنافسية قطاعية قادرة على جعلها تطور اختصاصات ومهن خاصة بها، انطلاقا من مميزاتها المرتبطة باليد العاملة والرأسمال البشري، الموقع الجغرافي ونوعية الموارد الطبيعية المتوفرة. وهو ما يدرج التنمية الاقتصادية الجهوية في سياق تكامل وطني بين الجهات. ثانيا: التموقع الوظيفي على المستوى الدولي يستجيب لمتطلبات المنافسة الدولية، بشكل يجعل الجهات تحسن من جاذبيتها الاقتصادية لرؤوس الأموال والعمالة المبدعة والمؤهلة، وهو ما يساهم لا محالة في تعزيز فرص التنمية الاقتصادية، عبر تجاوز النقائص المحلية والاستفادة من الموارد والمؤهلات والأسواق التي تمنحها فرص عولمة الاقتصاد. انطلاقا مما سبق ذكره، وارتكازا على مبدأ التفريع، فإن التأسيس للجهوية المتقدمة بما تفترضه من إعادة النظر في العلاقة بين المركز والجهات سيشكل بدون شك مدخلا أساسيا لتحسين فعالية ونجاعة السياسات الاقتصادية عبر توزيع وظيفي للاختصاصات بين المستويين المركزي والجهوي من جهة، وبين مختلف الوحدات الترابية على مستوى الجهة، وربطها بطبيعة الأولويات التنموية المحلية من استثمار وتشغيل وخلق للثروة. * أستاذ باحث، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء