بالنسبة للكثيرين، ذكر اليهودية في الشرق الأوسط يجعلهم يستحضرون صورة ذهنية لكل أنواع الفتنة والدمار، لكن الأمة الإسلامية بالمغرب تعد استثناء، فهذه المملكة لم تعد مكانا حيث ينعم اليهود بالتسامح فقط، بل هي مكان يعتبرهم جزءًا مهمًا من التاريخ والثقافة الخاصة بهذا الجزء من العالم. حتى قبل وصول الإسلام إلى المغرب، اعتبر اليهود الأراضي الساحلية بشمال إفريقيا وطنهم الأم، ومنذ حوالي 400 سنة، أقامت الجالية اليهودية المغربية علاقة قوية وتحالفا كبيرا مع السلالة الحاكمة في البلاد، سلالة العلويين. في القرن 20، تسبب الاضطهاد في جميع أنحاء أوروبا بموجات هجرة جديدة من قبل يهود العالم إلى المغرب، الذين رأوا فيه ملاذًا آمنا، ولم يكن أملهم في المغرب عبثًا، ففي عام 1940، عندما أصدرت الحكومة الفرنسية المراسيم الخاصة بمعاداة السامية، رفض السلطان العلوي، محمد الخامس، تلك القوانين العنصرية وأبدى عدم رضاه عنها. اليوم في المغرب، يتمتع اليهود بالمساواة الكاملة مع المواطنين المسلمين في كل الحقوق والامتيازات، ولا أدل على ذلك من كون أندري أزولاي، المعتنق للديانة اليهودية أبا عن جد، يعدّ واحد من كبار مستشاري عاهل البلاد، الملك محمد السادس، كما أن المغرب بلد يموّل من خزينته المدارس الخاصة باليهود بالإضافة إلى المحاكم الدينية اليهودية. المحاكم اليهودية، التي تدعى بيت الدين، تختص في النظر في القضايا المدنية وتفصل بين المتنازعين داخلها الحاخامات. كما أن بيوت الدين هذه، هي الوحيدة التي تعمل بهذا النظام في العالم بأسره خارج إسرائيل، وتعتبر مؤسسة معترفا بها رسميا في قوانين المملكة، وتوصف بكونها هيئة قانونية بديلة، يوجد مقرها داخل نفس المجمع الذي يظم محاكم المسلمين التي تستنبط أحكامها من الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من جو التسامح السائد مع يهود المغرب، فإن عددهم يتناقص باطراد. فسِلمهم من الاضطهاد والعداء الذي قد يواجههم في دول إسلامية أخرى، وتمتعهم بالحرية إلى حد كبير، لم يثنهم عن مغادرة البلاد، منذ استقلال المغرب، وحتى في السنوات الأخيرة، خاصة بعد سلسلة التفجيرات الانتحارية التي شهدها المغرب يوم 16 من ماي عام 2003 في العاصمة الاقتصادية للملكة، الدارالبيضاء، حيث استهدفت مواقع يتردد عليها اليهود، وقتل بها ثلاثة منهم. اليهود المغاربة هربوا إلى إسرائيل وبعض دول أوروبا والقارتين الأمريكتين لأسباب دينية، خاصة منها الخوف من الاضطهاد ومحاولتهم البحث عن سبل لتحسين وضعهم الاقتصادي، لكن قبل ذلك تجاوز عدد السكان اليهود في المغرب عام 1940، ال 250 ألف مواطن، بقي منهم اليوم حوالي 4000 في مجموع التراب الوطني. الجالية اليهودية غادرت معظم أماكن تواجدها التي اشتهرت سابقا بكونها الأماكن النابضة الخاصة باليهود، كمدن طنجة وفاس وسلا وتطوان، لتصبح اليوم مدينة الدارالبيضاء، المدينة التي يمكن اعتبارها مركز الحياة اليهودية المغربية. تضم الدارالبيضاء اليوم 17 معبدا يهوديا نشطا، وثلاث مدارس يهودية، بالإضافة إلى متحف يهودي واسع، ومركز اجتماعي يهتم بالمرضى وكبار السن. ولكن الأحياء اليهودية، التي يصطلح عليها بالعامية المغربية، الملاح، في كل المدن المغربية الأخرى أصبحت فارغة أو بعبارة أصح مهجورة. بسبب الهجرة الجماعية، أصبح الكثير من المغاربة اليوم يخصّصون من وقتهم وجهدهم الكثير، من أجل الحفاظ على استمرار الثقافة اليهودية في البلاد. ففي المتحف اليهودي في الدارالبيضاء مثلا، الذي يعد الوحيد من نوعه في العالم العربي، تحاول زهور الرحيحيل، أن تمرّر المعلومات التي تحفظها عن تاريخ اليهود بالمغرب، إلى جميع الذين يزورون المكان بهدف التعرف على الثقافة اليهودية القديمة. فانيسا بالوما، باحثة أميركية أطلقت مبادرة من نوع خاص، أسمتها "خويا"، وهي عبارة عن أرشيف للموروث الثقافي الشفهي اليهودي، أي الأغاني ومقاطع الموسيقى ومقابلات، تأمل أن تجمعها لجعلها متاحة لجميع المغاربة كإرث ثقافي، وتقول حول المبادرة إنه "رغم كل العيوب الموجودة هنا، يظل المغرب وما يتوفر عليه أمرا مدهشا، وأنا لا أريد أن يندثر ذلك في المستقبل، وأشعر أن الحفاظ على ما هو موجود من مسؤوليتنا". بالنسبة لبالوما، الحفاظ على ما تبقى من الموروث الثقافي اليهودي بالمغرب هو الصواب، فخلال "الأعوام ال 20 أو 30 أو 40 القادمة، لا نعرف إن كان المجتمع اليهودي سيبقى موجودا هنا، بالفعل آمل ذلك، لكنني لست متأكدة مما سيحصل"، تقول بالوما.