"صدمة التقاعد" تلقي بظلالها على نساء تقاعدن وهن في قمة أوجهن وعطاءاتهن، ونضجهن المعرفي والعلمي، في جميع الميادين التعليمية منها والعسكرية، الطبية والاجتماعية والقانونية... لكن المفارقة العجيبة، تجدهن بمجرد وصولهن لسن التقاعد المخول لهن طبقا لقانون التقاعد المعمول به، تصطدمن بواقع القصور الذي يشوب هذا النظام، حيث لايستجيب لمعايير أدنى حق المتقاعدات في العيش الكريم، لأن راتب التقاعد لا يفي بمتطلباتهن، فلا الراتب يكفي للمأكل ولا المشرب مع غلاء الأسعار، ولا لسداد فواتير الماء والكهرباء والإيجار... فعن أي نظام تقاعد يتحدثون؟ لست بصدد الحديث اليوم عن الاختلالات التي تشوب نظام التقاعد، وعن سخط المحالين عليه، على قرار الرفع من سن التقاعد إلى 62 سنة، لكن حديثي اليوم سيتركز عن شريحة عريضة من النساء المحالات على التقاعد أو المقبلات عليه، وهن يرددن بأعلى أصواتهن: وماذا بعد التقاعد؟ مرحلة التقاعد بالنسبة لبعض النساء، ماهي إلا جمع شتات لما تبقى لهن من العمر، فبمجرد حصولهن على أول راتب، تصبح وجهتهن المنشودة هي زيارة الطبيب لمعالجة مرض لا يوجد إلا في مخيلاتهن، ظنا منهن أن التقاعد هو النهاية المحسومة للحياة ولا مفر منه؟ أم أن هذا الشعور لا يعدو أن يكون إحساسا منهن بالظروف القاسية الناجمة عن هزالة المعاش وبطالة الأبناء وانعدام التغطية الصحية... متقاعدات يعانين في صمت؟ لا يخفى على أحدكم أن المتقاعدات ينتهي أجلهن كمواطنات من الدرجة الأولى قدمن تضحيات جسام للإدارة العمومية، بمجرد انتهاء خدماتهن وأجَل عملهن الإداري، تصبحن مواطنات من الدرجة الثانية: فهل يعقل ببلد يرفع شعار دولة الحق والقانون أن تهمش نساء بلده؟ لا تخلو أسرة مغربية من وجود متقاعدة ضمن أفرادها، تعامل معاملة "الذبانة فلبطانة"، متقاعدات يعشن التهميش والإقصاء: فلا تغطية صحية ولا رواتب محترمة، ولا أولوية في الإدارات التي قدمن فيها من جهدهن العقلي والجسدي الكثير، ولا حتى فضاءات اجتماعية وأندية ثقافية تعيد لهن الاعتبار وحقهن في الكرامة... من المعيب أن تعيش هذه الشريحة العريضة من المتقاعدات على هامش" كولو القوت وتسناو الموت"خاصة بالنسبة لنساء كرسن حياتهن لخدمة مصالح الوطن، لمن كن يشغلن مراكز مرموقة في هياكل الدولة، وضعيتهن المزرية تؤكد مما لا يدع مجالا للشك، أن هذه الفئة تعتبر الحلقة الأضعف في الاهتمام الحكومي، رغم ما قدمته لهذا الوطن من خدمات نبيلة، أهكذا يكون التكريم؟ فماهي تجليات هذا التكريم؟ لعل أبسط تكريم تطالب به المتقاعدات هو ضمان حد أدنى من الكرامة، لمواجهة أعباء الحياة دون مرارة ولا إهانة، لإخراجهن من بؤرة الفقر الذي يطال حياتهن البئيسة بعد التقاعد، يشكين ضعف الحال وفقر المآل، وفي ظل غياب تغطية صحية تسهر على الاهتمام بصحتهن، وانعدام مستشفيات تضمن لهن صحة سليمة، ناهيك عن الافتقار إلى مراكز للتأهيل النفسي والاجتماعي تزيح عنهن هم العزلة القاتلة والوحدة... فماذا عن الاقتطاعات التي لطالما قدمنها للدولة من رواتبهن، على أمل مستقبل مضمون وحياة كريمة بعد إحالتهن على التقاعد؟ جل التوقعات (تقارير ودراسات) تؤكد على أن صندوق الضمان الاجتماعي معرض للإفلاس وسيكون عاجزا عن تقديم مستحقات المنخرطين لا سيما المحالين على التقاعد، نظرا للاختلالات التي تشوب نظام المعاشات خاصة توازناته المالية... من سيضمن إذن حقوق المتقاعدات التي ستحفظ ماء وجوههن داخل أسرهن؟ حتى نكون منصفين، فالمتقاعدات أصناف وطبقات، منهن من تحصل على رواتب جد مهمة ،نتيجة مكانتهن العلمية المرموقة التي كن يشغلنها، ومنهن من لا يكفيها الراتب في سد حاجيات بيتها طيلة الشهر"، الفئة الأولى غالبيتها قررت الحصول على التقاعد المبكر بغية تنفيذ مشاريع كانت مؤجلة في السابق ذات طابع استثماري –تجاري،في حين تجد الفئة الثانية لاحول لها ولا قوة إلا التفكير "كفاش تكمل الشهر وتخلص الما والضو والكرا"... اتساع الهوة بين صفوف المتقاعدات، تحتاج من هيئات المجتمع المدني الوقوف عندها، كي تهتم بفئة المتقاعدات المسحوقة اجتماعيا وذلك بخلق صناديق للدعم الاجتماعي والنفسي، كخلق فضاءات للنقاش وتبادل الهموم المشتركة فيما بينهن وبين الأجيال المعاصرة، عوض التلهي في الأزقة والشوارع في تقرقيب الناب الخاوي، في الوقت الذي نناشد فيه النقابات بشتى أصنافها أن تركز اهتمامها على هذه الفئة لانتزاع حقوقها المغتصبة من صندوق الضمان الاجتماعي ( تستفيد المتقاعدات من التغطية الصحية الإجبارية، في ظل معاناتهن المستمرة من أمراض مزمنة أقعدتهم الفراش مثل السكري وارتفاع الظغط والروماتيزم)... ويبقى شبح هزالة المعاش يطارد كل المتقاعدات، ويقض مضجعهن، مالم يلق هذا الملف اهتماما حكوميا، يعيد النظر في نظام المعاشات وفق ما يضمن للمتقاعدات حياة كريمة ماديا واجتماعيا... [email protected]