قبل أيام تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية والمغربية خبر اختطاف المراهقة الأمريكية "ريبيكا آرثور" ذات السبعة عشر ربيعا، والتي حلّت بالمغرب للقاء حبيبها "الفايسبوكي" المدعو "السيمو" القاطن بالدارالبيضاء، وتناسلت الإشاعات حول هذا الاختفاء الذي ربطه بعض المتتبعين بأسباب عنصرية أو "داعشية"، قبل أن يتبين للجميع أن المراهقة الأمريكية، التي قطعت آلاف الأميال من مطار جون كينيدي بنيويورك إلى مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء للقاء حبيبها الإفتراضي، وفي جيبها 25 دولار فقط، وفي قلبها حب جارف يتشوق إلى ملاقاة الحبيب الأسمر على أرض المغرب، كانت "مختفية" بمدينة الصويرة السياحية بمحض إرادتها، في رحلة استجمامية وحميمية مع الفارس "السيمو" وأسرته الصغيرة. وإذا كان لا يهمنا هذا اللقاء الرومانسي الاستثنائي في حد ذاته، والذي يخص "ريبيكا" الأمريكية و"السيمو" المغربي وأسرتيهما فقط، فإن ما أثارته بعض الصحف الأمريكية ومعها البريطانية من زوبعة في فنجان، وما تناقلته الصحافة المغربية، المكتوبة والإلكترونية بالخصوص، في عزّ شهر رمضان الذي يتلاقى فيه الإحساس بالجوع والعطش بشهية وجبات الأخبار الدسمة، والدنيا التي أقامتها ولم تقعدها أسرة العاشقة الشقراء، ومعها الشرطة الأمريكية، وشرطة الحدود، وديبلوماسيي القنصلية الأمريكيةبالدارالبيضاء، بشكل قد يزيد عن مستوى وحجم تغطية حادثة مقتل الرجل الأسود بمدينة "نورث شارلستون"، ما يوحي باستحضار نظرية المؤامرة التي كانت سلعة عربية قومية بامتياز، وصارت في زمن ضربات القاعدة والطالبان والدولة الإسلامية، مشجبا لائقا للدول الغربية في حربها الدائمة على الإرهاب، حتى إن اختفاء مراهقة أمريكية واحدة من أصل 330 مليون مواطن أمريكي وسط الخيوط العنكبوتية للإنترنيت، واستنشاقها المباشر والفعلى لأنفاس حبيبها المفترض، الذي كان مجرد مادة إليكترونية متحركة في إطار تقنية "السكايب" المتاحة لكل سكان الكرة الأرضية، جعل إعلان حالة الطوارئ تصل إلى درجتها القصوى، انتهت، بعد العثور الآمن على القطعة اللحمية الطرية من جسد أمريكا، بإصدار السلطات الفيدرالية لقرار ترحيل واسترجاع مواطنتها القاصر، انسجاما مع القانون الأمريكي الذي لا يسمح بسفر القاصرين لوحدهم خارج البلاد. ومن هذه الزاوية الضيقة فقط يطلع السؤال العريض الذي يستفزّ غفلتنا : كيف استطاعت هذه المراهقة الأمريكية "ريبيكا" ذات السبعة عشر سنة لوحدها، وفي جيبها 25 دولارا فقط (والدولار الأمريكي كان يساوي في يوم سفرها ما يقارب 9.70 درهم من العملة المحلية)، وتذكرة سفر إلى مدينة الدارالبيضاء بأعلى قمة بشمال غرب قارة افريقيا السمراء، أن تجتاز حواجز وتقنيات وعقبات شرطة الحدود في كلا البلدين بيسر وبساطة، وأن تلتقي بحبيبها المفترض الذي طار بها من أجواء الدارالبيضاء الشبيهة بصخب نيويورك إلى مدينة الصويرة الهادئة في رحلة ألف ليلة وليلة الخاصة بالقرن الواحد والعشرين ؟ وكيف أمكن لها، وهي المواطنة الأمريكية الشقراء ذات الأنف الأحمر، لحظة السيلان أو النحيب أو البرد القارص، أن تنتقل بسهولة بين مطارين لا يختلفان في شيء عن كل مطارات العالم التي لا تسمح باستقبال أو توديع المسافرين قبل المرور من عين الإبرة، والخضوع للتدقيق في جوزات السفر وسحنات الوجوه والحقائب المجرورة، مع ما قد تحتويه طيات هذه المحمولات من "باكتيريا" الإرهاب التي لا ترى بالعين المجردة ؟ وكيف لقصص وروايات متضاربة أن تجد طريقها للعقل، بعد أن انتهى إلى جمهور المتتبعين أن سفر المراهقة كان بعلم والديها كما يقول بطل هذه الرواية، أو أن أمها رافقتها إلى مدخل الطائرة المتوجهة إلى ولاية كاليفورنيا الأمريكية وليس إلى مطار محمد الخامس العربي، وأن احتمال الاعتداء عليها بمبرر عنصري، أو تجنيدها في عملية استقطاب جماعة "داعش" أصبح أمرا واردا وغالبا، قبل أن ينكفئ الجميع على وجوههم، ويكتشفوا أن لحظة عشق وشوق آسرة مرت كالطيف بقلب طفلة مراهقة، كانت كافية لتحدث هذه الضجة الإعلامية والسياسية الكاذبة، وتعيد مسألة التنقل الدولي بحرية من طرف واحد - وهو المواطن الأمريكي أو الأوروبي حتى ولو كان قاصرا - إلى واجهة أحداث العلاقات غير المتكافئة بين الجنس الأبيض ذي الشعر الأشقر أو الأزعر والجنس الأسمر ذي الشعر الأشعث الأغبر أو الأكرت ؟ بل ولو قلبنا الصورة، وافترضنا أن العاشق أو المعشوق "السيمو" هو من طاف بخياله حلم ملاقاة حبيبته في قلب مدينتها نيويورك، وجمع أغراضه البسيطة ونقوده التي ساهم بها كل أفراد أسرته المتضامنين معه، واتجه إلى مطار محمد الخامس ليمتطي طائرة الخطوط المغربية أو الأمريكية المتوجهة إلى مطار جون كينيدي، هل سيسمح له بولوج البوابة الأولى المفضية إلى بهو المطار، وحتى لا نقول أرضية المطار ؟ بالطبع والقطع لا، لأن حرية التنقل الدولي مكفولة لطرف واحد، ولأن صك الاتهام معبأ بعناية، ومفتوح لمزيد من المؤاخذات والشكوك والاتهامات والمتابعات الأوتوماتيكية منذ صرخة إعلان ولادة الطرف الثاني وأمثاله. وهنا تستوقفني ذكريات زيارة رسمية، وليس شخصية، على متن الطائرة المتوجهة إلى العاصمة الأمريكيةواشنطن دسي، قبيل ضربة 11 شتنبر، وقبل المبالغة في تشديد المراقبة على المطارات الأمريكية، وكيف أحسست فيها بحرج سحنتي السمراء، ومرارة المراقبة الدقيقة التي خضعت لها، وبين أوراقي الشخصية وجواز سفري، دعوة رسمية من وكالة الإعلام الأمريكية والمعهد العربي الأمريكي، واعتماد مرور من السفارة الأمريكية بالمغرب، وأني كنت بالفعل مواطنا عربيا متهما مدانا قبل حتى أن يتم النظر في قضيتي وإدانتي، وأن النظرة الجاحظة والقاسية لشرطة الحدود، لم تكن بفعل الصرامة والحزم في أداء الواجب الوطني، ولكن ربما لإحساس كل شعب أمريكا آنذاك، والعالم على صفيح ساخن بسبب عربدة الرئيس بوش الأب وبيل كلينتون وبوش الإبن، بأن ضربة موجعة قد تلحق بأمريكا من مصانع صمت هذا الجنس الأسمر غير مأمون الجانب. وفي الضفة الأخرى، بالمطار العربي المضياف، حيث بالتمر والحليب وابتسامة المضيفات الحسناوات يتم تطريز الاستقبال والاحتضان، تكفي نظرة ثابتة في العينين الزرقاوين أو الخضراوين، والوجنتين المحمرّتين بأثر الكحول وشطائر الخنزير وسجائر التبغ الأصفر، ليقوم شرطي الحدود، بشكل آلي، وبغير نظرة جاحظة أو متفحصة، بوضع تأشيرة الدخول أو المرور على جواز السفر الأحمر الذي يشبه وجنتي صاحبه أو صاحبته، وحتى بدون مراقبة محتوى حقائب سفرهما جيدة الصنع، تزكية ومباركة ومصادقة على حرية التنقل الدولي من طرف واحد ؛ وهذا ما يعيد للأذهان مسألة عدم المعاملة غير المفهومة بالمثل، خاصة وأن الأزمات المالية المتتالية بالدول "المتقدمة"، وبداية مؤشرات انهيار منطقة الأورو، وتصاعد اقتصاديات بلدان كانت نامية أو متخلّفة، واختلاط أوراق حدود الشمال والجنوب، وتحوّل هجرة "الإلدورادو" والبحث عن الفردوس المفقود إلى بلدان العبور أو البلدان التي كانت مختصة فقط في التصدير، والتحاق بعض مواطني ومواطنات الشمال بصفوف الحركات الجهادية المتطرفة بالجنوب، واشتراك كل بلدان العالم، المتقدمة والنامية والمتخلّفة، في نقطة استهداف الإرهاب...، جعل أمر حرية التنقل الدولي من طرف واحد مسألة تحتاج إلى وقفة مع الذات، ومساءلة سياسية و سيادية في أفق استرجاع الكرامة المفقودة، والهوية الضائعة، وحماية الحدود والوجود من كل الزوار الأجانب الذين يرمون في وجوهنا بعض الدولارات زيادة، للعبث بقيمنا التاريخية والحضارية والأخلاقية، بمبرر إكراهات الاقتصاد الهش، والسيولة النقدية المحدودة، والكوارث الأخرى التي قد لا تستأذن أحدا في الدخول والاجتياح إذا لم نفتح الباب على مصراعيه في وجه هذا الصنف من السياح "الكرماء". وبهذه الزاوية من الرؤية المريرة، تبدو قضية "ريبيكا" و"السيمو" مسألة صغيرة جدا، أو حتى تافهة، لا تحتاج إلى كل هذه الضجة الإعلامية والسياسية المفتعلة، فإن هي أحبّته، وقطعت من أجله آلاف الأميال المفتوحة لملاقاته، وإن هو أحبّها وتعلّق بهواها، رغم قدر إغلاق أجواء الطيران إليها في وجهه، فاتركوهما لشأنهما يعيشان بسلام، لأن العولمة التي ارتضاها سكان الأرض أتت على كل شيء، حتى على الحب والعشق، وتعالوا نشكر هذا الثنائي الغرامي الافتراضي الذي لفت انتباهنا لمسألة حرية التنقل الدولي من طرف واحد، ونعيد رسم خريطتنا وحدودنا، وكذا شروط دخول أراضينا على قاعدة السيادة والتعامل بالمثل الذي يحفظ لنا الكرامة والاستقلالية والمصلحة القومية العامة ؛ فإذا كانت لهم الصناعة فلنا الفلاحة، وإذا كانت لهم الثروات الطبيعية فلنا القوة البشرية، وإذا كانت لهم الحضارة المادية فلنا التاريخ والقيم الروحية والتماسك الاجتماعي، وكلها صفات تضطر الطرفين إلى الجلوس على طاولة المفاوضات السلمية، وصناعة تاريخ جديد مشترك، قوامه التعاون والتكامل وليس التفاضل والتمايز، لأن عصر الإمبريالية والوصاية الاستعمارية قد انتهى، وعصر الحروب الصليبية لم يعد ينفع مع الحركات الجهادية المتطرفة التي أصبح عندها الموت أو الشهادة مجرد لعبة مسلّية، وعصر الثروة والرفاهية القطرية لم يعد ممكنا مع شروط العولمة، وثقب الأوزون، والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية العابرة للقارات، وهي مظاهر بنيوية وكونية وضعت حدا فاصلا بين تاريخ بشري على خط الصعود، وتاريخ بشري، بعد هجمات 11 شتنبر، على خط الهبوط ونهاية العالم، والتي عبرها نحن جميعنا في أمس الحاجة للتضامن والتآزر في صناعة طريق جديد وبديل لما تبقّى من هامش البقاء، ولو كان على شاكلة موت رحيم يقبل علينا ببطء مقصود، بموازاة مع دورة انتهاء مهمتنا النبيلة في الحياة.