أبي قد مات وسبب موته حياته... قد يبدو في هذه العبارة نوعا من الاضطراب والتهافت أو شئ من التعارض والتدافع، لكنها ثنائية الحياة والموت. فالحياة كائنة لكن كيف نحياها والموت لابد أن يكون لكن لا أحد يعرف متى سيكون، الموت ظاهرة معانقة للحياة ولحظة الولادة هي اللحظة التي تبدأ فيها الحياة بالانتهاء. الموت...ذلك الشئ الذي نتنفسه لكننا لا نستطيع ملامسته، الموت هو تلك الحقيقة السافرة التي لا تطاولٌ عليها فكل الأشياء قابلة للتفاوض إلا الموت .. ما فائدة أن نحيا طالما أن الموت يحكم قبضته علينا بالنهاية ؟ ما قيمة الإنجازات الكبيرة والممتلكات الخاصة في حضرة الموت ؟ لكن لحظة .. أوَليس ثمة أحياء أموات وثمة أموات أحياء؟ إن شرط الوجود هو الأخذ والعطاء وإلا كنا أحد هؤلاء الأحياء الموتى . نشعر باللاجدوى وخواء المعنى. يحدث أن تحس وكأنك قارورة عطر مثقوبة تتقاطر...تتطاير...وتعلو على هامش تاريخ واهٍ لن يدوَّن، تاريخٌ مدنس جملة بالخطايا وسوء النوايا، لن تجد من يفتح لك باب التوبة للنفس الشقية ولا من يعيد مزامير الثقة وسمفونيات الحقيقة السرمدية، ستظل تعزف على أوتار آلامك وعلى قيثارة الأيام التي أضحت بطعم الوجع، فتجلس تتأمل تيهك ولا تتحمل، فكل التيه يتيه فيك وآلهة الموت تناديك تتطلع إلى رقعة أحلامك فتجدها تتقلص يوما بعد يوما ومساحات همومك يتسع شرخها...لكن تأتيك الحياة تربّت على كتفك وتستمر فيك. نعم، نحن خلقنا للحياة لكننا حولنا حياتنا إلى موت بالتقسيط بلون الانتحار والغرق، وكثيرا ما تتضارب الهلوسات في ذاكرتنا وتدعونا إلى ترك الحياة واليأس والقنوط والإحباط.ولا نعد نفكر إلا في "الخلاص"عن طريق لبس الأكفان وتقبيل الموت... إنه الخلاص إبزيم اللغز ولكل منّا خلاصه. وإن قلتَ لي الحياة مليئة بالحجارة، سأصدقك القول وأجيب :فعلا، ولهذا لا تتعثر في الحجارة بل ابني بها دُرجا تصعد به نحو أفق الإبداع والنجاح، هي( الحياة ) رسالة ربانية عظيمة يتحول من خلالها الإنسان من صفر لا قيمة له إلى رقم معقد ذو قيمة.مصداقا لقوله تعالى : "من عمل عملا صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فَلَنُحييّنه حياة طيبة". ومن زاوية معارضة نجد من يستدل بآيات قرآنية فيقول إن الدين نهى عن الاهتمام بالحياة، مردّدا عبارات الموت والوعيد والثبور، وهذا ما نسميه إن شئنا "الحكم المبتور"، كمثل من يقول إن الله نهى عن الصلاة نظرا لقوله عز وجل (ويل للمصلين)، أو(لا تقربوا الصلاة) ويكتفي بهذا القدر ولا يكمل الآيات كي لا يكتمل عنده الفهم الصحيح. إن الموت الذي اقصده هنا ليس ذاك القرار الأنطولوجي أو القدر الغيبي الفُجائي الذي ينتصر على الذات في غفلة منها، وإنما أقصد موت الإحساس والوعي بقيمة الحياة، فيصبح الفرد يحيا حياة بلا حياة ولا مبالاة. والسؤال الذي ينبغي استحضاره هو : أين نتموقع نحن كأفراد، بين ثقافة الشكل أم المضمون ؟ هل نعيش الحياة بكل مضامينها أم نكتفي بإعطاء صور مزيفة عنا كأحياء ونحن ميتون ؟ هل نغذي أنفسنا برائحة الحياة الزكيّة، أم نتركها تقتات من فُتات البعث و الموت ونعيش رفات الماضي وذكريات الموتى فنحفر قبورنا بأيدينا ونصنع بالتفاهة حبل مشنقتنا ؟. لعل عبارة الفيلسوف الدنماكي "كيركيجارد" تعد بمثابة حلقة فاصلة بين ثقافة الموت وثقافة الحياة، والتي تقول : " لقد عشت ما حييت..وحييت ما عشت." نحن نريد و العقل يبرر لنا ما نريد، و ليس العكس أبداً فكل شيء خاضع للإرادة حتى في لحظات إبداعنا و خلقنا.. في اللحظات التي نحس فيها أننا نخلق أنفسنا و نخلق الأفكار و القيم ونكتشف العالم و نصنع المعقولات نحس حقا أننا ندفع العالم كله أمامنا .. ندفعه كالعربة.. و في اللحظات التي نموت فيها و نسقط في هوة العادة و التكرار و التقليد والروتين.. وتضيع إرادتنا من يدنا .. نحس بأن العالم كله يدفعنا أمامه كالعربة...فتجدنا نغرق عميقا في الانتحار الاجتماعي، فيموت الإبداع فينا وتشنق الإرادة أمام أعيننا ونجلد الحياة بأيدينا. كي تعيش إرادة الحياة عليك أن تتخلص من رمزا العذاب السيزيفي الأبدي، وألا تموت وأنت على قيد الحياة، وبما أن عمر الإنسان اقصر مما تعمّره بعض الجمادات والأشياء والنباتات فلماذا يختار الفرد الانفصال عن حب الناس، والألفة مع البشر، ويلجأ عند شعوره بالهزيمة أمام المغريات والعوائق والصعوبات أن يلقي بنفسه إلى الهلاك ويسعى إلى الموت بعد ان يحرص كل الحرص على أن يذيقه لكل نفس "مطمئنة". قد يبدو لنا أن الفرد عندما يتحرك، يلهو يأكل وينام...أنه حيّ والفكرة هنا مخالفة لذلك فقد يكون هذا الفرد يمشي على قدميه، لكنه بمنأى عن الحياة أي "أنه ميتا من الداخل" insight death وهذا النوع من الأفراد يمكن دمجهم في خانة الأفراد الذين يحملون كرها إلى الآخرين وذلك نتيجة فقدان العنصر الإنساني لديهم، وهاته الخلية السرطانية(الكره) سرعان ما تتوسع في نفس الفرد وتسيطر على بقية المشاعر الطيبة والتهامها واحدة فالأخرى،ويقوم أيضا بتلوين مشاهد الحياة إلى شريط من الثقة المنعدمة التي يصل معها الفرد إلى حالة الموت النفسي الكامل الذي يتطور ويأخذ صفة كوسمولوجية شمولية فنجد الكره الشخصي، الديني، السياسي والتاريخي...لذا فحب الحياة هو البلسم لشفاء جل الأمراض النفسية. أختتم بقولة لجلال الدين الرومي :" تعلمت أن كل نفس ذائقة الموت وليست كل نفس تذوق الحياة " إنها دعوة صادقة يصبح معها حب الإنسان جزء من عشق الحياة وإعدام نمط الثقافة الأحادية غير المنتجة ثقافة الاحتقان...فغلق الهفوات لا يأتي من سد الأبواب بل من خلال فتحها على مصراعيها للإبداع وإعمال الفكر وفتح منافذ الاجتهاد. هكذا تكون الحياة التي تشمل ثنائية الموت والحياة. ولا تتحقق هذه الحياة – التي هي نحن ونحن هي – إلاَّ بالوعي والمحبة والحرية التي تعني الانعتاق والخلاص الدائم.