هفي ليلة ليست كسائر الليالي، رحلت عنا بشكل مباغت الفنانة بنحيلة الركراكية مساء الثلاثاء 10 نونبر 2009 في حضرة محترفها بالحرارثة (نواحي الصويرة) الذي ارتضته إقامة اختيارية بعيدا عن ضجر المدينة وتناقضاتها وزمنها الموحش الذي يغتصب عذريتها في كل لحظة وحين رحلت عنا هذه الفنانة الاستثنائية بعد صراع مرير مع المرض، وهشاشة الزمن الاجتماعي الماكر. هاهنا، اختارت الراحلة أن تموت خارج الزمن المديني للصويرة الذي افتقد برأيها روح التضامن الاجتماعي والمحبة الإنسانية. غادرتنا بدون استئذان كالطيور التي تختفي لكي تموت. مبدعة شعبية بامتياز، ظلت بنحيلة (مواليد الصويرة عام 1940) طيلة حياتها الوجودية تقاوم الهامش بكبرياء جريح، هي التي تكبدت قساوة الاغتراب بالجزائر، وعانت من مخاضات الولادات الطبيعية اليائسة، فعانقت الآخرين بقلب صوفي لا يعرف أبجدية الحقد والأنانية والرياء الفارغ. تراها متدثرة بحاكئها الأبيض، وكأنها تستعيد أحلام مدينة الصويرة المحبطة، معلنة عن ميثاق الأصالة المعاصرة بدون تعصب أعمى أو تزمت محافظ. ارتادت مغامرة التصوير الصباغي في سن متأخرة وتحديدا سنة 1988، وتعلمت القراءة والكتابة بمفردها، وأنتجت على غرار الفنانين العصاميين رسومات تمهيدية حبلى بالأشكال الغرائبية والألوان الزاهية. من جميل حظها، أن تدشن بالصويرة ما يصطلح عليه تجاوزا ب»الإبداع بصيغة المؤنث»، إذ ما زلنا نستحضر أمهات أعمالها الفنية الأولى التي عرضتها بكل من رواق فريدريك دامغارد، وساحة الساعة الكبرى وبيت اللطيف بصقالة المدينة. لم تكن تدري بنحيلة بأن لوحاتها الفنية التي أبدعت باكورتها الأولي في سرية تامة بعيدا عن مرأى ومسمع المقربين هي التي ستخلد لمسارها الحياتي، وترسخ مشروعية انتمائها الرمزي لمنارة المبدعين الحقيقيين الذين واجهوا الموت بالحياة، وقاوموا الصمت بالكلام المباح، وبددوا بياض الورقة بسواد الكتابة. استطاعت بنحيلة عبر ميثاق أعمالها التشكيلية أن تؤسس للغة فطرية جديدة في عالم اللون والشكل تعتمد على الشذرات الحكائية والمقامات البوحية المحملة بقلق الأيام الصاخبة. ألم يقل الصوفي جلال الدين الرومي:» الألوان تجيء من وعاء الصفاء» (ابن شاهين،الإشارات في علم العبارات). ألم يرد في المأثور الصوفي أن اللون مثل السحاب، فكل ما تراه فيه من ضوء والتماع، فعلم أنه من الشمس والقمر والنجوم(النابلسي، تعطير الأنام في تعبير المنام). لوحاتها عبارة عن شواطئ من الألوان الصافية والمشرقة تتجاور فيها وعبرها الأشكال وأنوار الوحدات المشهدية المحيطة ذات النغمية اللونية المشبعة والمكثفة: كل وحدة سردية كبرى تعرض دفعة واحدة متواليات من الأفعال المكثفة التي تقوم على بلاغة الحكي، والكنايات الرمزية (الجدار مثلا يحيل على المدينة، والحية ترمز إلى الغواية )، والاستعارات البلاغية (إشراك المدينة والمرأة في مقوم الامتلاك) والإنزياحات المركبة (الإنسان يتماهى مع الحيوان) . إنها شذرات لتحرير الرغبة والوجود على نحو يوحي بمخاض الولادات المتجددة على امتداد فضاءات اللوحة المنتشية بطقس الخصوبة والانبعاث المستدام. ألم يقل المفكر بنسالم حميش:» إن الشذرات الحكمية تندرج في خضم السعي اللامتناهي لتسمية ذلك العجز وتطويق آثاره.». في ضيافة لوحاتها المنسابة كبحر يجدد شاطئه في كل لحظة، نفتح كتاب الحياة على دفتيه لنتفرج على فصول تناقضاتنا ومعانات حيواتنا الصغرى، حيث الوجوه الآدمية تطالعنا من كل أنحاء اللوحة وكأنها صور حية لعلاقتنا الملتبسة بالكائنات والأشياء. أدركت حينها سر إنشاد بنحيلة لمقطع أم كلثوم: هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر. كم قلدتنا بنحيلة أوسمة الحقائق الغائبة من خلال تشكيل لوني جذاب ينبعث من مسافة السفر الجواني، والجرح المكابر، وتفاؤل الرؤية ووهج التجربة. إننا بصدد سيرة ذاتية، بتعبير الباحثة فاطمة المرنيسي التي ساندت الفنانة في عز مقاومتها لهشاشة الهامش وحفزتها على تأسيس جمعية «حنان» كجسر لترميم شرخ غياب التبادل الثقافي مع الضفاف الأخرى، حيث عرضت أعمالها الفنية بكولون وفرانكفورت. بيانات الخصوبة، فتنة المعاني وعذريتها، فطرية ألوان الحياة وموسيقاها البصرية، تماهي الأشكال بمختلف مكوناتها الطبيعية والآدمية: كلها مدارات ومشارف بحجم جراحاتنا النرجسية، ورماد انبعاثاتنا الوجودية: يذكرنا اللون الأزرق المهيمن في أعمالها بالسفر نحو المطلق الذي يرمز إلى السماء ويحيل على البعد الثالث أوالعمق. رفقة بنحيلة، ندرك جيدا أن الطبيعة أنثى، والأنثى هي الأصل والأثر وتأشيرة العبور. فكل لوحاتها التعبيرية تتعالى على كل نعت وتوصيف، لأنها تنهض كمتاهة دلالية مفعمة بالرغبات والمكاشفات والكينونات. عبر إيحاء عيون اللوحات يكبر حلم الصحو الأنثوي ليمسرح معالمه، ويرتب مسالكه ومنازله رغم كل الجراحات والمكبوتات. عيون تطاردنا كحوريات الأنهار السرمدية، مسرحها الزواج الطبيعي بين السماء والأرض بكل استعاراته المائية والترابية. حول تجربتها الإبداعية، كتب الباحث عبد القادر مانا مقالا فريدا تحت عنوان «البحث عن الخصوبة» (فنانو الصويرة، 1990)، أكد فيه مدى سخاء ملونة بنحيلة وطرائها طراء السماء والبحر، حيث تمكنت من رسم النهاريات التي تنجب الليليات بحس جمالي أخاذ. صرحت الراحلة :» أرى كل معالم الكون تسري في لوحتي. أحب السماء وقت غروب الشمس. أرى السحب العابرة، وأتخيل عالما آخر يتعالى على الجميع. أرى في السماء أشباه الأشجار والوديان والعصافير والحيوانات. المتاهات التي أرسمها شبيهة بالأزقة الضيقة للمدينة القديمة. تسلك معبرا يقودك إلى معبر آخر. أرسم القطة التي تطوف في الأسقف، والأطفال الذين يلعبون في الأزقة الضيقة، والنساء الملفوفات بالحائك، عيونهن مرايا الرجال. كما أرسم «أمنا السمكة» حورية جميلة، غزالة تعج بالجمال بشعرها الذي يكنس الأرض. لن أنسى الجزيرة والآثار، رموز تاريخ مستعاد. يبدو كل هذا في الغيوم، وأسترجعه في الأحلام.». أتذكر أن الراحلة أسرت لي :» عندما أدخل حضرة الرسم ينتابني إحساس غريب شبيه بإحساس المرأة قيد الولادة. فأنا أحاول أن أعبر عن فكرة المخاض في لوحاتي، كما أحرص على البوح بقيمة الحب التي يجب أن تسود في حياة البشر. أليس الحب هو أن تصف شخصا دون أن تتحدث إليه.». ودعتنا الفنانة كطائر جريح بعيدا عن محترفها الأول بزنقة «شوارج» الذي جعلت منه مركبا ثقافيا بامتياز، هي التي نسجت لنفسها، بتعبير الأديب ادريس الخوري، عالما خاصا مليئا بحكايات صغيرة ضمن الحكاية الكبيرة :» إن اللوحة عندها أشبه بالمتاهة تبدأ من أعلى الزاوية اليمنى لتنتهي إلى أسفلها.» (كأس حياتي). ناضلت بنحيلة، بصمت وبدون ادعاء، من أجل ترسيخ الحق في الحلم وفي الحياة، مؤجلة عبر فعل التصوير البوحي كل إيحاءات الموت والنفي على غرار شهرزاد التي استسلمت للرغبة الجارفة في الوجود: احك حكاية وإلا قتلتك ! حلم بنحيلة لا بداية له ولا نهاية. حلم يتسع لكل عشاق الحياة، وصناع قيمها الروحية، ومهندسي علاقاتها العامة. لم تكن ترغب بنحيلة على مدار سنواتها الأخيرة – صدر في حقها حكم بالإفراغ أيقظ جراحاتها الغائرة – سوى في صك اعتراف بموقعها الاعتباري داخل شجرة الأنساب الرمزية، وهذا ما بادرت إلى القيام به جمعية «سلام» للثقافة والفن بتنسيق مع الجهات المعنية بالصويرة. أذكر أن الراحلة تأثرت أيما تأثير بهذا التكريم الرمزي فأجهشت بالبكاء، مصرحة أمام الحضور: دابا، إلا بغات تجي الموت، هرتجي. ظل ثراؤها الحقيقي، بشهادة رفيقها في الحياة الفنية محمد صاعد، هو رأسمالها العلائقي، حيث نسجت بنحيلة علاقات استثنائية مع فنانتين ألمانيتين: الفنانة التشكيلية هان كرشر والمصورة الفوتوغرافية رزفيتا بروس التي أنجزت شريطا وثائقيا وتجريبيا يخلد للساعات الأخيرة قبل رحيلها القاسي تحت عنوان «السر في الحلم». كانت بنحيلة في ذروة انتشائها وفرحها الطفولي بالحياة، منشدة مع وارثة سرها فاطمة الزهراء لكويحي سلسلة لا متناهية من أغانيها المفضلة. هكذا، ودعت بنحيلة زمن حياتها بأناشيدها المختارة، وبابتسامتها السيزيفية التي لا تعرف اليأس والانبطاح. علمها الإبداع التشكيلي بوصفه لغة مشتركة مع الآخرين إدراك أسرار الجمال الإنساني بكل وداعته وسموه، مقتدية بقول ليوناردو دافنسي « حينما كنت أظن بأنني كنت أتعلم كيف أعيش، لم أكن أتعلم في الواقع إلا كيف أموت». استسلمت هذه الفنانة الحالمة لهذيان ريشتها، وناجت سرائرها المكنونة، محتفلة بطقوس الجسد، وبحضرة الصويرة التي تفيض حياة وانبجاسا وأنوارا، رغم كل نزعات الظلام والتدمير الرمزي التي أصبحت تنخر جسدها المديني. ألم يسبق للباحث الفرنسي جورج لاباساد أن اختار لها لقب «مدنية للبيع»؟. يحق للأستاذة فاطمة المرنيسي التي أفردت مقالا حول تجربة بنحيلة في كتابها المرجعي «سندباد المغرب» أن تصرح :»تراها تنظر إليك بأعين كبيرة وهادئة هدوء امرأة تمكنت في حياتها ولوحاتها من نسج نور لا منتظر في حين أن القدر ابتلاها بالظلام والإحباطات.». إن كتابة اللوحة لدى بنحيلة، أقصد رسمها التعبيري، بوابة مشرعة على الحرية وعلى الحياة بأسمى معانيها وأرقى تجلياتها البدئية. فالراحلة احترقت بوهج اللوحة، كما احترقت بوهج الحياة، ناسجة خيوط بوحها الصادق دون فدلكة أو فبركة. كل جغرافيات شعرها التشكيلي الصامت تعلي من شأن الإبداع الباطني في طقوسه المجازية، وذلك في مواجهة زمننا الإسمنتي التي تكلست فيه المشاعر الإنسانية، واندحرت عبره القيم النبيلة. مع بنحيلة، نردد قول عالم الجمال الألماني كاسيرر:» إن الذي نحس به في الفن ليست هي الصفة العاطفية البسيطة أو المفردة، وإنما هي العملية الدينامية للحياة، أي التأرجح المستمر بين قطبين متقابلين من الفرح والحزن والرجاء والأمل واليأس. إن إعطاء صورة جمالية لعواطفنا معناه تحويلها إلى حالة حرة نشطة، أي أن قوة العاطفة في عمل الفنان تصبح قوة تشكيلية.» (فلسفة الفن عند كاسيرر، الدكتور محمد مجدي الجزيري). بنحيلة الركراكية: مدرسة قائمة الذات تحتضن ولادة القصيد التشكيلي، وتقيم عرس الألوان والمشاهد الموحية التي تتعالى فيه أصوات الكائنات وتتماهى امتداداتها إلخ. لقد تفوقت، بشهادة عشاق الفن الخالص، في تأثيث فضائنا الحميمي المشترك من خلال التعبير عن براءة الإنسان وعن فطرته الكونية. مجدت بنحيلة الكائن الإنساني، طالقة العنان لخيالها الواسع، ولحدسها المتدفق. كلما تشرفت بزيارة محترفها بقلب المدينة القديمة الذي حولته إلى قبلة لكل الملسوعين بالفن، كانت تردد على مسامعي قولتها المأثورة:» يوم تموت الفطرة وتغيب البراءة في الإحساس الفني، تموت اللوحة». وتضيف بصوت خفيض:» آن الأوان لكي ينتبه المسؤولون إلى الفن والثقافة، فبدونهما ستظل المدينة جسدا ميتا.». لم تكن الراحلة تتردد في أي لحظة لإسماع صوتها وبوحها القاسي، كما أنها لا تجيد المجاملة والمواربة، ولا تعرف إخفاء انتشائها بميلاد فنان في محيطها الاجتماعي، فتراها منغمرة بفرحة تبنيه واحتضان تجربته رغم شظف العيش وإكراهاته. تمردت بنحيلة على كل أشكال وصيغ الإستيلاب الثقافي والاستغلال المقنع (نتذكر مقاطعتها لرواق دامغارد الذي حجز أزيد من أربعين لوحة من إبداعاتها دون أن يسدد قيمتها). كم صمدت أمام تهافت سماسرة الفن، ومهروليه من الانتهازيين الذين يتعاملون مع الفنانين كحالات اجتماعية صعبة، لا كقيم إبداعية مؤكدة يجب إنصافها في عز حياتها لا بعد مماتها. حلقت بنحيلة بعيدا في سماوات الفن، دليلها في ذلك وجدانها المناسب وسليقتها الجامحة التي حررت لوحاتها من الحدود المفتعلة للخرائط التشكيلية. تحية لك، بنحيلة، أنت علمتنا كيف نرى الجنة الأرضية وكيف نحلم ونحيا في زمن الرداءة البصرية والاستسهال العقيم. معك وبك، أيضا، تعلمنا ثقافة الانجذاب نحو مدائن الحب والبراءة التي لا تسلم مفاتيحها السرية إلا لمن يجيد الإنصات لصمت الموهبة، ولفيض الخيال المبدع الذي تحدث عنه بإسهاب الشاعر والناقد أندري بروتون. كان فنك وسيبقى فيضا تلقائيا لمشاعر إنسانيتنا، ففيه لا تقل الصورة أهمية عن الحرية، بل هما حليفان ضروريان ومكملان لبعضهما وأساسيان في الخلق لفني.