كنت أكبر إخوتي ... وقد حضرت مأساة أمي منذ بدايتها ... استيقظت كثيرا وأنا ابنة الخمس سنين ، والسبع سنين والتسع سنين على بكائها ليلا ... فكثيرا ماكانت تترك فراشها لتنام جانبي في الوقت الذي كان فيه شخير والدي يملأ الأرجاء ...كنت أحس ساعتها بانكسار بداخلي ... لم يكن بوسعي أن أفعل لها شيئا ... كنت أغطي رأسي وأبكي لبكائها دون أن تحس إلى أن يغلبني النوم ... كنت متأكدة أنها تبكي بسبب أبي ... لم أكن أعي خلافاتهما جيدا ، لكن دموعها التي كانت لاتجف واستعطافاتها مقابل تجبر والدي وتعنته وصوته العالي وصراخه الدائم في وجهها ورزعه للباب وهو يقفله بشدة حتى تهتز له أركان البيت ... وشتائمه لها اللامتناهية ... كل ذلك كان كفيلا بأن يجعلني في صفها ... وكل ذلك ما يزال محفورا في ذاكرتي ولن تمحوه السنين . كانت أمي امرأة من جيل أواخر خمسينات القرن الماضي ... من عائلة متوسطة الدخل ... كان الأب في هذه العائلة المسؤول عن توفير الإحتياجات المادية بالدرجة الأولى ، وكانت الأم المسؤولة المسؤولية الكاملة عن شؤون البيت والأولاد . وكانت الدراسة هي واجب الأبناء الأوحد . وكان على الأم والأب أن يوفرا لهم كل الظروف الملائمة لتأدية ذلك الواجب . وبالتالي فلا أمي ولا خالاتي ولا أخوالي كان مطلوبا منهم أي نوع من المساعدة . وإن كان بد من المساعدة فإن جدتي كانت تستأجر خادمة تساعدها على ما شق عليها القيام به من أعمال .ولأن والدتي قد كانت إمكانياتها في التحصيل العلمي جد ضعيفة فقد تزوجت زواجا مبكرا ولم تكن قد تعلمت من أمور البيت أو الحياة ما ينفعها كزوجة وأم ... وكان أبي لا يكف عن تحسيسها بفشلها . كانت تبذل كل ما في جهدها للتخلص من الفشل لكن الإحساس بالفشل نفسه لم يكن يزيدها إلا فشلا . كانت أمي امرأة ضعيفة البنية ... وكان أثاث البيت ثقيلا ... كان أبي هو من اختار كل قطعة فيه ... وكانت تتوسل إليه أن يغيره بما هو أخف وأسهل في التنظيف وخصوصا الصالون البلدي بسدادرو ولحايفو وطلامطو ومخادو وزرابيه !!!! لكن أبي كان متشبتا بذلك الأثات وكأنه جزء من جسمه من الصعب اقتطاعه !!!! وكان مستعدا لأن يقذف بأمي من نافذة ذلك الصالون خارج البيت على أن يضحي بسداري واحد !!! وكلما أبدت رغبتها في استبداله بأثات عصري خفيف اتهمها بأنها امرأة ( ماعندها ذراع بحال لالياتها ) وكانت عبارة واحدة مثل هذه كفيلة بأن تجعلها تفقد الرغبة في الطعام لمدة أسبوع !!! كانت أمي تحيطنا بكل حبها ورعايتها . كانت شخصية طيبة إلى أبعد الحدود إلى درجة أنها لم تكن تعرف في تربيتها لنا معنى للعقاب ... كانت تهدد، وتتوعد، وتثور، وتأنب و ... و... وجعجعة ولا أرى طحينا !!! كانت أمام عفرتة إخوتي الذكور الخارقة تحاول أن تلجأ إلى الضرب ، لكنها لم تكن تجيد حتى ذلك ... كانت لاتتحمل أن ترى إخوتي يبكون فتبكي بعد أن تضربهم لبكائهم وتحضنهم وتصالحهم في التو واللحظة . وهذا ما جعل إخوتي يتمادون ، وجعلها تفقد السيطرة الكلية على البيت . وبمجرد دخول أبي إلى البيت كان إخوتي يختبئون في غرفهم كما الجرذان تختبئ في جحورها ... ومن يراهم حينها لايخالهم سوى ملائكة تمشي على الأرض !!!! وكانت أمي المسكينة أمام منظر البيت البائس تنال من التأنيب والتعنيف على إهمالها وسوء إدارتها للبيت ماكان لا يزيد البراكين الخامدة بداخلها سوى غليانا ... وكنت وحدي أعلم أنها لا تتوقف عن العمل دقيقة واحدة ، وماكانت المسكينة لتنتهي من عمل حتى يخلق لها إخوتي عملا آخر !!!! لقد كان إخوتي بحق جد متعبين ومن النوع الذي يحتاج فعلا إلى ( سوبر ناني ) المربية الخارقة !!!! اشتكت أمي كثيرا لأبي معترفة بعجزها طالبة منه مساعدتها على إيجاد حل ، لكنه لم يكن يفعل . فقد سئم من كثرة شكواها ... فهي ليست موظفة وتملك من الوقت الكثير لتدبير شؤون بيتها وأولادها ... وميزانية البيت لا تسمح بالاستعانة بخادمة ... ومن كثرة شكواها أصبح يتطير من رؤية وجهها أو ( كمارتها ) كما اختار أن يقول مشبها إياها بالغراب أو البومة النحس ... وكان كثيرا ما يخاصمها بالأسابيع ... ويترك البيت طيلة اليوم ولا يعود إلا آخر الليل . كبرنا وازدادت المشاكل بينهما بسبب هذا الموضوع . والحقيقة أن موضوع البيت لم يكن سوى ستارة تختبئ وراءها مشاكل أخرى بينهما هي أكبر من أن تحل . كفت أمي عن الشكوى ... فالشكوى لغير الله مذلة ... وظلت تحاول وتحاول ... ولا شيء تغير ... لكن البركان الخامد كان يزداد تأججا يوما بعد يوم ... إلى أن جاء اليوم ألذي أضربت فيه أمي عن العمل وأهملت فيه كل شيء ... ولم تعد تفعل شيئا سوى البكاء ... ساءت نفسيتها وأضربت حتى عن الإستحمام وانتشر القمل والصئبان في شعرها ... وصلت إلى درجة كبيرة من الإكتئاب استطعت وأنا ابنة الرابعة عشرة آنذاك أن ألحظها ... لقد كانت تنام كثيرا ... وكل تصرفاتها كانت تبدو غير طبيعية ... وكنت أستغرب كيف أن أبي وهو الإنسان الجامعي لم يتفهم ذلك ولم يعره اهتماما ، ولم يحاول أن يفعل شيئا من أجلها !!!لقد كانت في حالة يرثى لها !!! كنت كلما رأيتها على ذلك الحال أحضنها ... وكانت تستسلم لحضني وكأنما أنا الأم وهي الإبنة في تبادل تام للأدوار . حاولت بماهداني إليه تفكير ابنة الأربع عشرة سنة أن أرفع من معنوياتها بأن أنبهها إلى أهميتها في حياتنا بما أحدثه إضرابها عن العمل من اختلال في توازن البيت . لكن الإحساس بالفشل كان قد سيطر عليها تماما . وما كانت تلاقيه من أبي من تحقير وتهميش كان قد سرى مفعوله ... وكان من الصعب إقناعها بعكس ذلك . وأتى ذاك اليوم المشؤوم الذي انفجرت فيه أمي في وجه أبي وهي تطلب الطلاق بطريقة هستيرية ما كان لأبي أمامها سوى أن ينهال على أمي بالضرب والركل والصفع إلى أن أصبح وجهها لوحة تشكيلية مابين الأزرق والأخضر والأحمر دونما حاجة إلى ريشة فنان !!!! حاول في اللحظة نفسها أن يصالحها ... لكن كل شيء بينهما كان قد انكسر ... ولم تعد تجدي المحاولة !!!!! مكثنا نحن مع أبي لأن مدارسنا وحياتنا كانت في العاصمة وعادت أمي إلى العيش في بيت جدي في مدينتها الصغيرة . كنا نزورها عند نهاية كل أسبوع ... وغيابها عن البيت قد خلق فجوة كبيرة في حياتنا ...محاولات كبيرة من أبي كانت لإرجاعها لكنها كانت مصممة على الطلاق . وفي إحدى المرات ونحن نجهز حقيبة السفر كعادتنا مساء كل جمعة ... فوجئت بأبي يخبرنا بأن لاسفر ... كان الغد يوم عرسها !!! أمي قد تزوجت من رجل ثان !! ولم يعد هنالك أمل في عودتها إلى البيت !!! بكيت بحرقة يومها . أحسست أن شيئا ما قد انكسر بعائلتنا الصغيرة . .. حضنت إخوتي ولم أشأ أن أخبرهم بالموضوع ، لكن أبي لم يسكت ... كان عصبيا في ذلك البوم ولم يكف عن نعت أمي بأقبح النعوت . آويلي آويلي المراة صافي كبرات وهبلات !!! المراة صافي سمحات في ولادها !!! قراناتها باقين يتزوجوا ويعرسوا !!!؟؟؟وأكثر شيء أثار أبي هو ما سمعه من أنها ستستأجر نكافات وتنوي ركوب العمارية . آويلي عايب حتى لتعاويدة واش آ عباد الله قراناتها باقين يركبوا العمارية ؟؟؟؟ !!!!!!!!الشوهة والله إلى الشوهة هاذي !!!!!!!!!!! مرت فترة ، واستطاع والدي أن يتأقلم مع الوضع الجديد وأصبح مسموحا لي أنا وإخوتي أن نزور أمي في بيتها ... ولم تمض سنة حتى أصبح لي أخت من أمي ... وسنة أخرى ... وأصبح لي أخت أخرى !!!!! بيت أمي كان هادئا وجميلا ومرتبا ... كان بسيطا ... وكل شيء فيه كان في مكانه المناسب .كان البيت مختلفا عن بيتنا الذي كنا نعيش فيه . وأهم شيء أنه لم يكن به أي وجود للصالونات البلدية !!!!!!!!!!! أمي لم تعد فاشلة ، زوجها لم يعد هو أبي ، ونحن لم يعد يجمعنا بها سقف واحد . ظلت الطيبة والسذاجة صفتان ملازمتان لأمي حتى في زواجها الثاني . لكنني كنت أحس أن شيئا ما بداخلها قد تغير ... كان وجهها مشرقا ... كانت سيدة البيت والمكان ... كانت إنسانة سعيدة ... سعيدة جدا ... وكان هذا واضحا لا يحتاج إلى دليل أو برهان . والسبب ذاك الرجل .لقد منحها كل ما لم يمنحها والدي إياه : منحها الحب والثقة والإحترام ... منحها الأمان . واجه بزواجه منها العالم كله ، وهي المرأة المطلقة ذات الأولاد !!!! كان أهله يريدون له فتاة بكرا . كانت أمه تأسف على حظ ابنها العاثر الذي جمعه بامرأة مثلها ذات خبرة !!!وهو الذي لم يدخل الحياة بعد !!!لكنه لم يهتم ... كان بارا بوالدته إلى أبعد الحدود لكن بره لها لم يجعله يعدل عن قراره ، فلم تملك الأم أمام إصرار هذا الإبن البار سوى أن تذعن لرغبته . عندما كانا يخرجان معا كان يتأبط ذراعها وكأنه يريد أن يقول للكل هذه زوجتي وهذه المرأة التي أحببت رغم أنف الكل مخرسا بذلك كل الألسنة . ولها هي كوني قوية فأنت لم ترتكبي جريمة بزواجك مني . وكان يقدمها بكل فخر لأصدقائه . وعند زياراته لأهله كان يصر على اصطحابها معه وكان يجلسها بجانبه ولا يدخر فرصة للتعبير عما يكنه لها من حب ومودة مشنفا بذلك آذان الكارهين ... وكان هو يتولى الرد عنها عندما توجه لها كلمة جارحة من هنا أو هناك . كانت ماديات زوج أمي جيدة خلاف أبي ، وكان يحب أن يتودد إلينا بالهدايا ؛ آخر هدية حاول إهداءها لي كانت جهاز كمبيوتر محمول . لكن أمي كانت تحاول دائما أن ترفض بلطف أي شيء مادي يقدمه لنا .وأنا أيضالم أكن أحب . لم أكن أحب أن أجرح كبرياء أبي ... ولا أن أؤكد الاتهامات الموجهة دائما لأمي من أهل زوجها باستغلاله لحسابنا . كانت مواعيد زوج أمي غير منتظمة ... كان كثيرالسفرات إلى العاصمة بحكم عمله كمسؤول في الإدارة المغربية . وكان لا ينسى في كل سفرةمن تلقاء نفسه و بدون إيعاز من أمي أن يتصل بي أنا وإخوتي يدعونا إلى الغذاء أو العشاء رغبة منه في تفقد أحوالنا . رغم أننا كنا نعتذر في أغلب الأحيان منعا لأي صدام مع أبي الذي كان لايطيقه . لم أسمع من هذا الرجل قط كلمة تسيء إلى أبي لكن أبي كان دائما يتحين الفرص لينعته بصفات لم تكن في الحقيقة من صفاته . لقد كان إنسانا شهما كريما ، أحسن تضميد جراح أمي ... ولقد أنقذها بحبه وطيبته واحتضانه لها من الضياع ... لقد كانت أمي بدونه إنسانة تحتضر وهو من أعادها إلى الحياة ... وهي كانت تحفظ له هذا الجميل جيدا وكانت تفعل كل شيء لإسعاده . لقد كانت أمي دائما جميلة في عيني ... وبعد زواجها من ذاك الرجل أكتشفت أنها ليست جميلة فقط وإنما هي رائعة الجمال !!!!ا الجمال المغربي الأخاذ ، المزيج بين ملامح الشرق والغرب ...السمرة الخفيفة الآسرة ... والعيون العربية المعبرة ...... الجسم المتناسق الذي لا هو بالفرنسي النحيف ولاهو بالشرقي المكتنز ...والشعر الأسود المدرج الذي ينساب بكل حرية على الظهر ... ولأول مرة صرت أرى أمي تهتم بتصفيف شعرها عند الكوافيرة ... ولأول مرة صرت أراها بقصة مختلفة عن قصة الكاري القصيرة التي كانت تقصها بنفسها بالمقص معتبرة إياها قصة عملية لا تحتاج منها وقتا عند التسريح أو الاستحمام رغم أن المشط كان ناذرا ما يجد طريقه إلى شعرها !!! ولأول مرة أصبحت أرى أمي تهتم بأن تأخذ دشا كل يوم بعد أن كانت لا تستحم إلا مرة واحدة في الأسبوع ... ولأول مرة أصبحت أرى لأمي ملابس للعمل وأخرى لما بعد العمل وأخرى للاستقبال وأخرى للنوم بعد أن كانت تقضي اليوم كله بالبيجاما تطبخ بها وتظل وتمسي وتنام وتصبح ... وتلبس فوقها الجلابة عند الخروج !!! ولأول مرة أرى أمي بملابس عصرية داخل البيت أو خارجه . ولقد تفاجأت برقي ذوقها في انتقاء ملابسها . كان لباسها فعلا راقيا ( كلاس ) يليق بأمرأة ناضجة تعدت الأربعين ... ولأول مرة أرى تسريحتها / la coiffeuse مليئة بالماكياجات ومزيلات العرق والعطور ومختلف الكريمات والماسكات والزيوت .!!!!!!!!!! الخلاصة أن كل تفاصيل حياة أمي قد تغيرت ... حتى غرفة نومها قد أصبح لها شكل آخر ، وقد كانت الغرفة المغضوب عليها عندها في بيتنا ... أصبحت حريصة على تغيير ملاياتها وكساوي مخداتها كل يوم ...تنظفها وتمسحها وتختار لها أجمل وأغلى الملايات وأروع التطريزات والألوان ... وكنت أستغرب كيف أنها كانت تعطر حتى الملايات بالكولونيا ...وكانت صورة عرسها وهي باللبسة الفاسية إلى جانبه حاضرة في غرفتها لتذكرها في كل لحظة بأسعد حدث في حياتها . أما جدي وجدتي وأخوالي وخالاتي فكان هذا الرجل قد كبلهم بالجميل الذي صنعه مع ابنتهم . وكانت جدتي لاتدخر جهدا في محاولة التعبير عن الامتنان بدعواتها المتكررة له للغذاء والعشاء بمناسبة أو غير مناسبة متفننة في صنع كل ما تعرف أنه قد يشتهيه من أكلات . وكانت لاتكف عن صنع الحلويات التقليدية التي تحتاج إلى وقت وجهد واضعة فيها عصارة خبرتها وتبعث بها جاهزة بكل حب إلى ( نسيبها ) دون أن تنسى نصيبي أنا وإخوتي الأوفر منها طبعا !!!! وكانت تتبرع دائما بأن تأخذ أختي من أمي في ضيافتها أياما في سبيل أن تقضي أمي وزوجها أوقاتا سعيدة مع بعض . أما أنا فقد كانت علاقتي بهذا الرجل غريبة من نوعها ... فرغم طيبته اللا متناهية التي جعلتني أحبه رغما عني إلا أن إحساسا ما بداخلي كان يحاول أن يجعلني أرفض هذا الحب . ربما لأنني كنت أحس أنني بحبي له هذا أخون أبي !!!!!!!!! لا أنكر أنني كنت أفرح لسعادة أمي وهي معه . لأنني أنا أكثر واحدة تعرف حجم معاناتها مع أبي . لكن نفس الإحساس كان ينغص علي دائما هذه الفرحة ... كنت أتمنى أن تكون بيننا ... كنت أفتقدها وأشتاق إلى اللحظات التي كانت تجمعنا معها تحت سقف واحد ... كنت أغبط أختي من أمي على ما تقضيانه معها من أوقات سعيدة ...كنت حزينة من أجل أبي الذي لم يعد يراودني شك في أنه كان يحبها ... وكنت آسف على أنه بأنانيته لم يستطع أن يشعرها بحبه ويحافظ عليها بيننا !!!