قال الدكتور يوسف بن الغياثية، باحث مغربي مقيم بكندا، إن قرار منع فيلم المخرج، نبيل عيوش، المسمى "الزين اللي فيك"، يعد أكبر دعاية مجّانية لهذا العمل، ويجعل من عيوش وأمثاله شهداء حرية التعبير، ويرسل رسالة خاطئة مفادُها أنّ مقص الرقابة على الضمير وحرية التعبير، قد 0نْتقل من مقص إلىٰ مُشذِّب البساتين". وأفاد بن الغياثية، في مقال خص به هسبريس، أن فيلم عيوش لا يرقى إلى الأعمال الفنية الجيدة، لكن قرار منعه لم يكُن حكيما، لأن سياسةَ الحظر تخدم هذه الأعمال التي ترمي إلى الحط من الأذواق"، رافضا رفع دعاوى قضائية ضد طاقم الفيلم، لأنه يؤشر على دخول المجتمع إلى نظام الحِسْبة، كما حدث من قبل في مصر". وهذا نص مقال بن الغياثية الذي اختار له عنوان "الفنّ الإبداعيّ ليْس موقِفًا سياسيّا تقليديّا"، كما ورد إلى الجريدة: الفنّ الإبداعيّ: ليْس موقِفًا سياسيّا تقليديّا يدور جدلٌ كبير بين الناس منَ الفاعلين المُشاركين في الحياة العامّة، أو من الناس في الشّارع العام، حول موجة الأفلام والفُنون التي ترىٰ نفسَها طليعيّة في التحرر والتقدم، وجرأة عرض ما في مجتمع المغاربة - خصوصا. ومن هٰذا الجدل اليوم، يطْفو علىٰ السطْح نقاش أو بالأحْرىٰ، جدل حول فيلم جديد يستأثر بالاِهتمام - حتىٰ قبل أن يُعْرَض - وتُسجِّل هٰذه الأيام 0حْتقانا يتراوح بيْن الصّحّة والتشنج. ونقْصد بذٰلك أن مثلَ هٰذه النقاشات تساهِم في جوّ صِحّيّ يُمَكِّن مِن التّغْيير، ومِن مُساءلة الثوابت، و0سْتِشْراف المُستقبل. وهٰكذا، 0نْقسمت المواقفُ بين مؤيّد ومُعارض، سنفترِضُ حُسْن النّيّة، وإن كانت النتائجُ والمآلاتُ هيَ التي ستُثبِت صِحّةَ رأي هٰذا الفريق أو ذاك، وإنْ كُنا لا نتصوّر أنّ الأمرَ بلونيْن وحسْب، أيْ إمّا خير مُطلَق أو شرّ مُطلَق. بل، وحتىٰ في 0تِّخاذنا مواقف مُغايرة بآراء لم يُقِرها هٰذا الفريق أو ذاك، فليس لإرضاء طرف، أو الانتصار لطرف علىٰ حساب طرف آخر، أو 0دّعاء وسَطِيّة موْهومة. وفي هٰذا السياق، نجد أنّ الوسط الفنّيّ يعيش فوضىٰ تؤثر علىٰ الأداء الفنيّ، فضْلاً عنْ غياب قوانين واضحة تنظم هٰذا القِطاع. ومن خلال هٰذا المناخ كنّا نودّ لو تخلص من الحكمة السائدة وهي "خوك في الحرفة عدوك"؛ فهٰذا يجعل الجسم يُعادي نفسَه، مما يسبِّب له التآكُل وغياب المَنَعة والحماية، فمَن يلجأ إلىٰ حزب سياسيّ، ومَن يعتصِم بجهة أو جماعة ضغْط، ومنهم من 0عْتزل، وندِم علىٰ تاريخه الفنّيّ، وكأنّه كان يرتكِب حراماً. ويُمكن أنْ نشيرَ، في هٰذا الصّدد، أنّ الفنّانَ برسالتِه ينفع الناس كافة، ولا ينفع نفسَه فقط. غير أنّه إنْ 0عْتزل أو "تاب" - بمفهوم دينيّ - فهوَ يتحوّل إلىٰ مستوىٰ آخر وهوَ الخَلاصُ الفرديّ، إنْ لم نقل أنانيًّا. وبذٰلك يكون كمنْ يتخلّىٰ عن المسؤوليّة، فدوْر الفنّ لا يُنْكَر، فهوَ معادِل جماليّ للحضارة. لكنّ الإشكاليّة التي نواجِهُها، في هٰذا السياق، أنّ كثيرا من الفنّانين يعتقدون في قرارة أنفسِهم أنّهم يرْتكبون حراماً، - وهُم تحْت رحْمة قصْفٍ إعلاميٍّ ودعائيٍّ للفقه البدويّ المُتصحِّر - ويتلهّفون إلىٰ ما يسّمونه توبة مِن فُسوق أو فُجور. وهٰذا منطِق مغْلوط. وإن ضربْنا مثلا بالموسيقىٰ، فيبدو أنّ بعضَ الناس يعتبرون أنّ الدفّ حلال، فيما الآلات الموسيقيّة الأخرى حرام. وهٰذا مِعْيار مزدوج، ولنا أن نتأمّل أن يكون الدفّ وحده لله، وبقية الآلات للشّيطان. إن غيابَ الفنون، من رقص وغناء وشعر، وقصة ورواية ومسرح، وحلْقة وسينما، لهُوَ الذي يعْطي فرصة للتطرف بأنواعه، وكره الحياة أنْ يتمدّد فينا. ولنا أنْ نتذكّر كيف أنّ قصيدةَ (سَلُواْ قلبي) للشاعر أحمد شوقي بِك، قد 0حْتجّ عليها الإنجليز إذ غنّتها المطربة المعروفة أمّ كلثوم، حين تزامنت مع مفاوضات الوطنيّين المصريّين علىٰ الاسْتقْلال، إذا ما شاركت مصر في الحرب العالميّة إلىٰ جانب الحُلَفاء. ولقد احتجّت سُلُطات الحِماية البريطانيّة علىٰ بيْتٍ شِعْريّ وهو: (وما نيْلُ المَطالِبِ بالتَّمَنّي ** ولٰكنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيا غِلابا) فقد أدرك الإنجليز أنّ وعودهم ليست أكْثرَ من وُعود وتمنّيات، وكان ذٰلك لكسْب الوقت؛ فكان تنبيه الفنّان للوطنيّين حاسِماً، ومثيراً لانتباه سُلطات الاِحْتلال والحِماية، بأنّ تمنّي الاستقلال ليس مَحطَّ وعود وتمنّيات، ولا يُؤخَذ إلا غِلابا وبكل الوسائل. وكل الحضارات والأمم عاشت مثل هٰذا أو قريبا منه في علاقة الفنون بالسياسة وسيرورة المجتمع، وكيف أدّىٰ الفن دورَه الحقيقيّ في توجيه بوصلتِه توضيح الرؤية. ونتذكّر إبداعات فنّانين في أغاني المسيرة الخضراء، وفي مُشاركة التجريدة المغربيّة في الحرب ضد الكيان الصهيونيّ في سيناء والجولان، ولا تزال تُعزَف مقاطِعُ مما لحّنه الفنّان العرْبي الكواكبيّ من أغنية: (ب0سم العروبة والإسلام، القُدس في يدْنا والجولان) أثناء الاِستقبالات الملكيّة الرسميّة لأداء التحيّة الرسميّة للضيوف أو للملك نفسِه. وإذا كان الجسد الفنّيّ موْبوءًا، ووباؤُه من وباء مجتمعه وإنسانِه، فإنّ غيابَ الثقافة الفنيّة لدىٰ الناس أمرٌ واقع هو الآخر. ومن ثَمّ، يُمكن أن تثيرَ قضيّة 0سْتعمال الجسد، وخصوصا جسد الأُنثىٰ بحُكْم الإشكاليّات القائمة في الثقافة السائدة، ومشاكل أخرىٰ. لذا، نرىٰ ألا يُحْكَم علىٰ عمل فنيّ انطلاقا من منظومة أخلاقويّة، فالعمل الفنّي، والسينما على وجه التحديد، له خصوصياته ولغته التي ينبغي الإلمامُ بحدّ أدْنىٰ من العِلم ذي الصِّلة حتىٰ يتسنّىٰ للمشاهِد فهْمُ كثير من الرموز التي يتوسل بها المخرج عبْر الممثل، ودون أنْ يُساءَ فهمُ أي شيء من العمل الإبداعي كيفما كان. ثم إن لقطاتِ السينما التي تستعملُ الجسدَ؛ لٰكن بأيّة قيمة مُضافَة. ولا تقف الإشكاليّات عند هذا الحدّ، بل تتعدّىٰ ذٰلك إلىٰ أنّ المبدِعَ يتحمّل مسؤوليةَ إيجاد بديل مُبتَكَر، واقعيًّا كان أو مُتَخيَّلاً، فالعمل الإبداعي لا يجب أن يقفَ عند 0سْتنساخ الواقع، بل إنه مُطالَب بالجُرْأة في الطرْح وكذا بالابتكار في إيجاد حلول للمعضلات كذلك. وبهٰذا يكون واقع جديد يُسْهِم العمل الفنّيّ في إصلاحه، أو الاِنتباهِ إليه والتخطّي إلىٰ واقعٍ آخر لم يكن للمجتمع عهْدٌ به من قبلُ. فيكون الفنُّ طليعةَ الإصلاح، وطليعةَ الابتكار، ولنا في تجارب الأمم الأخرىٰ. الفنّ ريادة، ولذا، فهو محط نقْد وسُخط، وترحيب. لكنّ الاستفزازَ يكاد يكون مُلازِماً له. وإذا عُدنا إلى منع فيلم المخرج المغربيّ عيوش، فسنجد أن مثلَ هٰذا القرار لم يكُن بالحِكمة اللازمة، بل إن رفع دعوىٰ قضائيّة على الفيلم وطاقمه يبيّن أننا دخلنا إلىٰ نظام الحِسْبة، الذي 0تُّخِذ في مصر في السنوات الأخيرة، فأي كتاب صدر، أو رأي قيل، أو فيلم أُنْتِج، تجد الراصدين لرفع دعاوىٰ في المحاكم. والمغرب القوي بتاريخه وخصوصياتِه بدلا من أنْ يُعْطيَ نموذجا مشرِقا في حرية التعبير، وإنتاج أفلام أخرىٰ تتفوّق على الفيلم المذكور وتبين تهافتَه، فإننا نرىٰ أن ننكص ونعود القهقرىٰ. وهٰذا لا يخدم صورتنا مع أنفسنا، دون أن ننسىٰ أنّ صورتَنا بالخارج سيصيبها خدْش كبير. إن قرار المنع لهو أكبر دعاية مجّانية لهذا العمل، بل سيجعل من عيوش وأمثاله شهداء حرية التعبير، وسيرسل رسالة خاطئة مفادُها أنّ مقص الرقابة على الضمير وحرية التعبير، بغض النظر عن مضامينها، قد 0نْتقل من مقص إلىٰ مُشذِّب البساتين. لكن، لا يمكننا أن نصدّق أنّ الوزيرَ الوصيَّ كانت له الجُرأة علىٰ منْع الفيلم، لٰكنّنا يُمكن أنْ نُضيفَ 0حْتِمالا آخرَ، وهو أنّ الفيلم لم يُمْنَع لكونه يُسيء إلىٰ فِئة مِن المغربيّات، وهنّ يُعانين منْ واقعٍ أليمٍ نفسيًّا، و0جْتماعيًّا، و0قْتِصاديًّا، وثقافيًّا. فالدّعارة واقع ملموس يستفيد منه كلّ المشاركين فيه بحظ أو بسهم، وهو قطاع يراه بعضُ السياسيّين غيرَ مُهَيْكَل، ولا تستفيد من مداخيله الدّولة. وعليْه، فالاحْتمال الذي يُمْكن أنْ يكونَ - ولم يتحدّث عنه أحدٌ من المراقبين- هوَ جنسيّة زبناء الدّعارة في الفيلم، وهي العربيّة السعوديّة. وربّما كان من سوء حظِّ المُخْرج، وحُسْن حظِّ الغاضبين علىٰ الفيلم، وعلىٰ طريقة تناوُله لقِيَم الشّعب المغربيّ، والحريصين علىٰ صورتِه، أنّ تحديدَ جنسيّة السّعوديين في الفيلم قد تزيدُ العلاقاتِ المغربيّةَ السعوديّةَ مشاكل هي في غِنىً عنها. فعرْض الفيلم في المغرب وهو يعرّض برعايا سعوديّين سيكون ملهِبا لأزمة في الأفق، وخصوصا إذا لم تتحرّك السُّلطاتُ المغربيّة وربما بأوامرَ عُلْيا لتمنعَ الفيلم. ويبقىٰ هٰذا 0حْتِمالاً وارداً، في ظلّ سلْسلة سوء الفهْم التي لحِقت بالعلاقاتِ المغربيّةِ السعوديّةِ. وحتىٰ لا نُطيل في موضوع الفيلم الأخير الممنوع عرْضُه للأسباب الظّاهرة في البلاغ الرسميّ، وللأسباب الباطِنة مما ذكرْنا - علىٰ سبيل الاِحتمال - فإنّه من الجدير أن نُركِّز علىٰ بعض النقاط التي تستشْرِف مستقبلاً أفضلَ لمجالنا الفني، ولترْقية مُعادلنا الجماليّ؛ هي إجراءات يجب أن تقومَ الدولةُ فيها بجهود جبّارة لكيْ تدفَع بعجلة الثقافة والفن. لذا، فالمنع لا يُفيد وخصوصاً بعد 2011. إنَّ الفنَّ الإبْداعيَّ ليس موقفاً سياسيًّا تقليديًّا، لأنه يرتبِط بالجمال، والروح، وإن 0سْتعملَ الجسدَ كما أننا لا ينبغي تكريسُ ثقافةِ الهروب إلىٰ الأمام بتوسل المنع والتضييق علىٰ حرية الإبداع والتعبير. ونحن نتحدث بصفة عامّة وليس عن الفيلم الأخير الذي ظهر من خلال المقاطع المسرّبة أنه ليس فيلمًا خارقًا أو إبداعًا. لٰكن المنعَ سيُرقّي مُستواه، مثلما حدث مع رواية آيات شيطانيّة، والرسوم الكاريكاتوريّة. إذ بإثارة الضجة حولها يجعل أصحابَها أبطالا وإن كانواْ من ورق، وشهداء الحريّة وإنْ كانواْ مزيّفين. لذا، وددنا أن نخوض تجربةَ الحريّة والعمل البديل لما نراه غير لائق، بمعنىٰ من رأىٰ أنّ الفيلمَ الممنوعَ يمتهِن الكرامةَ المغربيّةَ - وخصوصاً المرأةَ؛ فلينتِج بديلا يُكرِّم المغاربةَ ونساءَهم، وهٰكذا. أما المنعُ فلا يفيدُ في شيءٍ، لأنّ عواقبَه قد يكون لها تأثير إيجابيّ - لٰكن ليس علىٰ المدىٰ الطويل، وسيفتح سابقةً في أنّ العمل الفنّيّ - الذي له أصوله وقواعده - لا يُعالج بالقرار السياسيّ، بل ولا يُحكَم بقوانينَ جنائيّة، مما سيُعطي الانطباعَ بأنّ منِ "0قْترف" عملاً فنّيًّا، يمكن أن يعرّض نفسَه لطائلة القانون الجنائيّ. وخلاصةُ القول، نرىٰ أنّ كثيرا من الأعمال الفنّيّة لا ترقىٰ إلىٰ مصافّ العمل الإبداعيّ الجيّد - ومنها هذا الفيلم مثار الجدل بالبلاد - ولٰكنّ سياسةَ الحظر والمنع تخدم هٰذه الأعمالَ التي ترمي إلىٰ الحط من الأذواق، وتقدّم لها دعاية مجّانية. لذا، وجب أنْ يجتهد فنانونا في إيصال رسائلهم بقدرة أعلىٰ، وبكفاءة أكبر، وعلىٰ مجتمعنا أن يخرج من نفاقه الاجتماعي والذي يتمثل في تضييقه على الحلال بالاحتكار والمصادرة، ومحاسبة من وقع في الحرام وتوسَّل بمحظور...