بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: عانت الأمة طيلة عقود من الزمن جمودا وتقهقرا في مختلف مناحي الحياة، وشمل ذلك الجمود والتقهقر كل نظام حياتها؛ نتيجة العوامل الذاتية الضاغطة النابعة من المفاهيم المنحرفة والمتوارث منها؛ وغرقت في الجهل والخرافة؛ متخبطة في خطاها؛ تائهة في رؤاها، باحثة عن فردوس لا تعي منه إلا أنه فردوس مفقود، وسلط عليها من أبنائها من أحكم الجمود على العقول؛ وأشغلوا الناس بلقمة عيشهم والبحث عن فتاتهم؛ لئلا يكون لهم سبيل للعودة لنهضتهم. وفي خضم هاته الظروف الحالكة انبرى غيوريون؛ للخروج بالأمة من كبوتها؛ ورغبة في إصلاحها ونهوضها؛ فكان من تلك المحاولات ما أتى أكله؛ لسلامة المنطلقات والأهداف؛ ومنها ما تعثر لخلل في الوسائل والآليات؛ لذا وجب أن تكون كل تلك الرغبات منبعثة من حضارتنا وعقيدتنا وديننا؛ فأفكارنا كلما كانت نابعة من مصادرنا إلا وكانت أكثر فاعلية وأشد قوة؛ ولأن ما يقوم على الدين أقوى من أي رابطة أخرى يمكن أن يقوم عليها أي شيء معرض للزوال في كل لحظة وحين. وهذا البناء على هذا الغرار من شأنه أن يقي من الثغرات التي يمكن أن تتسلل في صورة حق وهي في حقيقتها باطل؛ لذلك وجب الاهتمام بصفاء مشربه؛ فالانحراف الأخطر في حياة الأمة هو الانحراف في المفاهيم؛ الذي هو أساس الانحرافات الأخرى السلوكية وغيرها. وأي رغبة في الإصلاح والنهوض من غير ما نهض به الأولون من أسلافنا؛ فلن تعدو أن تكون رغبة سطحية تقليدية لا تتعدى التباهي بالموروث وأماني الحديث عن المفقود؛ لإبعاد النفس عن الواقع المؤسف الموجود. وعدم بناء البناء من أساسه؛ واحترام خطواته؛ يورث عقولا متواكلة متكاسلة؛ مغلولة بالقيود الفكرية؛ أزمتها فكرية بحتة؛ قائمة على الانبهار بالغالب والإعجاب بمنتجاته وممتلكاته؛ مع فقدان الثقة في النفس بالعطاء والبناء؛ فشرط البناء الجديد أن يتم بما تم به البناء الأول السليم (الكتاب والسنة). وتخليص المفاهيم مما شابها من انحرافات معين على التخلص من أزمة الإنسان الذي غدا هو سر الأزمة بعد تحولها من الأشياء إلى الإنسان؛ وما عادت أزمات الأمة في أشيائها ومجالاتها بل في كثير من أفرادها. وإذا كان الحال كذلك؛ فإن الخطوة الأولى المطلوبة قبل النظر في الأشياء: النظر في الإنسان، وأول إصلاح يجب أن يكون لعقل هذا الإنسان؛ كونه أساس أي إصلاح، وإذا ضعفت الطاقة الفكرية ضعفت سائر الطاقات بعدها؛ فأزماتنا وأمراضنا أسبابها فكرية؛ وأولى خطوات العلاج يجب أن تبدأ من الفكر ونظمه ومناهجه وطرائق التفكير عنده، ومن ثم التأسيس والتكوين؛ فالبناء؛ بعد إعداد الشخصية القوية الفاعلة المؤمنة بقدراتها وطاقاتها في التأسيس. فإن عمرت العقول صلح إعمار سائر المجالات الأخرى سواء منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتربوية والتقنية والعكسرية؛ التي بها يستعاد مجد الحضارة والثقافة الإسلامية. وينبغي أن تنصب جهود الإصلاح على سلامة المنطلقات والأزمات والاهتمام بالأولويات، مع تدارك أي خلل فكري منهجي في خطوات الإصلاح ذاتها؛ وإعداد العقول وصياغتها وبيان إشكالياتها على رؤية إسلامية تنطلق مما انطلقت به الرؤية الأولى للحضارة الإسلامية المتغنى بها، وإن تم الإصلاح العقلي-رغم تحدياته وعقباته- سهل أي إصلاح بعده؛ فبتغير وتحرر العقل تتغير وتتحرر الأشياء أيضا. فلكي تستعيد الأمة عافيتها وتبني حضارتها وتقضي على براثن السقم في كيانها؛ لابد من إصلاح وتسليح عقولها، إصلاحا وتسليحا علميا منهجيا محكما، يتسم بالأصالة الإسلامية الخالصة من أي شائبة؛ ويبعد كل الأعطاب التي سرت في كيانها؛ والوسائل التي تبث فيها العجز والإحباط؛ والمقيدة عن أي انطلاق نحو أي أفق أو آفاق. وإذا كانت الأزمة الكبرى، التي تعاني منها الأمة، أزمة ثقافية حضارية لبها الإنسان المثقف والمتحضر؛ فإن الانشغال بالقضايا الجانبية في سبيل النهضة الثقافية والحضارية ربما يكون هدرا للأموال والأوقات، وسيبقي الأمة في وضعها وعلى حالها الذي هي عليه. وقبل تأسيس انطلاق العقول الجديدة لابد من النظر في عقول البعثة الأولى التي خلدت اسم الحضارة الإسلامية، والتأمل في طرائق تشكيل تلك العقول؛ لبناء عقول الحضارة المنشودة بناء متوافقا ومتناسقا؛ ولربح مزيد من التجارب وتفادي كثير من الحيرة والتيه في الإعداد والإنشاء. وبذلك يبنى المثقف والمتحضر-عقلا ووجدانا- بناء سليما؛ يعيد له الثقة بنفسه؛ يتباهى بتراثه وينهض بحاله؛ ولا يتغنى فقط بسالف أمجاده، ويحيى على سالف ذكرياته؛ فما أحوج العقل المسلم اليوم إلى صياغة جديدة جادة واعية تتسم بالجرأة، وبالصراحة مع الذات؛ لتحرير العقل من خرافاتاه وأوهامه؛ كي يتمكن من بعث مشروع إسلامي حضاري جديد. وعلى النخب العلمية والفكرية مضاعفة جهودها لصناعة مثقف تتولد منه الثقافة ومتحضر ينشئ الحضارة؛ فالمثقف قبل الثقافة والمتحضر قبل الحضارة؛ ولذلك كانت خطوه الإسلام الأولى في تغيير الواقع الجاهلي؛ هي: هدم أفكار الجاهلية؛ ثم بيان الأفكار الإسلامية التي تخطط للمستقبل بطريقه صحيحة؛ وإنا إن فعلنا ذلك أمكننا عبور الفجوة الحضارية التي تفصل بين أمتنا المتعثرة وبين الأمم الأخرى التي تقفز على طريق النمو والتقدم قفزا. كما على هاته النخب التمييز بين أسباب المرض وأعراضه؛ فالأسباب في الحقيقة أساسها الفكر الذي يحمله الإنسان، أما الأعراض؛ فهي: اقتصادية وسياسية...، وأي تغيير لابد أن يكون في الأفكار، وبقدر قوة الأفكار تكون قوة الواقع؛ وإلا فإن مكاننا هو ذيل القافلة البشرية ولن نعرف شيئا عما يحدث في مقدمتها. والتغيير يبدأ من الإنساء سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل؛ والشعب الذي تلقى رسالة السماء كان شعبا بدويا يعيش في صحراء مجدبة، حتي إذا جاءت أفكار الرسالة، تحول إلى بان وصانع للحضارة؛ والذي تغير ليس الزمان أو المكان؛ بل الإنسان الذي هو أساس كل تغيير. فهناك فكرة "جعلت الإنسان يسجد للصنم، وفكرة أخرى جعلت إنسانا آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم"!. إنها الأفكار هي التي تصنع الأشياء. ومرة أخرى: المثقف قبل الثقافة والمتحضر قبل الحضارة!. زرقت-ترجيست [email protected]