عانت الأمة طيلة عقود من الزمن جمودا وتقهقرا في مختلف مناحي الحياة، وشمل ذلك الجمود والتقهقر كل نظام حياتها نتيجة العوامل الذاتية الضاغطة النابعة من المفاهيم المنحرفة المتوارثة، وغرقت في الجهل والخرافة، متخبطة في خطاها، تائهة في رؤاها، باحثة عن فردوس لا تعي منه إلا أنه فردوس مفقود، وسلط عليها من أبنائها من أحكم الجمود على العقول، وأشغل الناس بلقمة عيشهم والبحث عن فتاتهم، لئلا يجدوا سبيلا للعودة إلى نهضتهم. وفي خضم هاته الظروف الحالكة، انبرى غيورون لإخراج الأمة من كبوتها وإصلاحها وتحقيق نهضتها، فكان من تلك المحاولات ما آتى أكله، لسلامة المنطلقات والأهداف، ومنها ما تعثر لخلل في الوسائل والآليات. لذا وجب أن تكون كل تلك المحاولات منبعثة من حضارتنا وعقيدتنا وديننا، فأفكارنا كلما كانت نابعة من مصادرنا كانت أكثر فاعلية وأشد قوة، ولأن ما يقوم على الدين أقوى من أي رابطة أخرى يمكن أن يقوم عليها أي شيء معرض للزوال في كل لحظة وحين. وهذا البناء على هذا المنوال من شأنه أن يقي من الثغرات التي يمكن أن تتسلل في صورة حق وهي في أصلها باطل، لذلك وجب الاهتمام بصفاء مشربه، فالانحراف الأخطر في حياة الأمة هو الانحراف في المفاهيم الذي هو أساس الانحرافات الأخرى، السلوكية وغيرها. وأي رغبة في الإصلاح والنهوض من غير ما نهض به الأولون من أسلافنا لن تعدو أن تكون رغبة سطحية تقليدية لا تتعدى التباهي بالموروث وأماني الحديث عن المفقود، لإبعاد النفس عن الواقع المؤسف الموجود. وعدم تشييد البناء من أساسه واحترام خطواته، يورث عقولا متواكلة متكاسلة، مغلولة بالقيود الفكرية، أزمتها فكرية بحتة، قائمة على الانبهار بالغالب والإعجاب بمنتجاته وممتلكاته، مع فقدان الثقة في قدرة النفس على العطاء والبناء، فشرط البناء الجديد أن يتم بما تم به البناء الأول السليم (الكتاب والسنة). وتخليص المفاهيم مما شابها من انحرافات معين على التخلص من أزمة الإنسان الذي غدا هو سر هذه الأزمة بعد تحولها إليه بعدما ألمت بالأشياء، إذ لم تعد أزمات الأمة منحصرة في أشيائها ومجالاتها بل في كثير من أفرادها. وإذا كان الحال كذلك، فإن الخطوة الأولى المطلوبة، قبل النظر في الأشياء، هي النظر في الإنسان، وأول إصلاح يجب أن يطال عقل هذا الإنسان لكونه أساس أي إصلاح، وإذا ضعفت الطاقة الفكرية ضعفت سائر الطاقات بعدها. فأزماتنا وأمراضنا أسبابها فكرية، وأولى خطوات العلاج يجب أن تبدأ من الفكر ونظمه ومناهجه وطرائق اشتغاله، ومن ثم التأسيس والتكوين، ذلك أن البناء يأتي بعد إعداد الشخصية القوية الفاعلة المؤمنة بقدراتها وطاقاتها في التأسيس. فإن عمرت العقول صلح إعمار سائر المجالات الأخرى، سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العلمية أو التربوية أو التقنية أو العكسرية، التي بها يستعاد مجد الحضارة والثقافة الإسلامية. وينبغي أن تنصب جهود الإصلاح على سلامة المنطلقات والأزمات والاهتمام بالأولويات، مع تدارك أي خلل فكري منهجي في خطوات الإصلاح ذاتها، وإعداد العقول وصياغتها وبيان إشكالياتها على رؤية إسلامية تنطلق مما انطلقت منه الرؤية الأولى للحضارة الإسلامية المتغنى بها. وإن تم الإصلاح العقلي -رغم تحدياته وعقباته- سهل أي إصلاح بعده، فبتغير وتحرر العقل تتغير وتتحرر الأشياء أيضا. فلكي تستعيد الأمة عافيتها وتبني حضارتها وتقضي على مواطن السقم في كيانها، لا بد من إصلاح وتسليح عقولها إصلاحا وتسليحا علميا منهجيا محكما، يتسم بالأصالة الإسلامية الخالصة من أي شائبة، ويبعد كل الأعطاب التي سرت في كيانها والوسائل التي تبث فيها العجز والإحباط، والمعيقة عن أي انطلاق نحو أي أفق أو آفاق. وإذا كانت الأزمة الكبرى، التي تعاني منها الأمة، أزمة ثقافية حضارية لبها الإنسان المثقف والمتحضر، فإن الانشغال بالقضايا الجانبية في سبيل النهضة الثقافية والحضارية ربما يكون هدرا للأموال والأوقات، وسيبقي الأمة في وضعها وعلى حالها الذي هي عليه. وقبل انطلاق العقول الجديدة لا بد من النظر في عقول البعثة الأولى التي خلدت اسم الحضارة الإسلامية، والتأمل في طرائق تشكيل تلك العقول لبناء عقول الحضارة المنشودة بناء متوافقا ومتناسقا، ولربح مزيد من التجارب وتفادي كثير من الحيرة والتيه في الإعداد والإنشاء. وبذلك يبنى المثقف والمتحضر -عقلا ووجدانا- بناء سليما، يعيد إليه الثقة بنفسه، يتباهى بتراثه وينهض بحاله ولا يتغنى فقط بسالف أمجاده وذكرياته، فما أحوج العقل المسلم اليوم إلى صياغة جديدة جادة واعية تتسم بالجرأة ومصارحة الذات، لتحرير العقل من أوهامه، كي يتمكن من بعث مشروع إسلامي حضاري جديد. وعلى النخب العلمية والفكرية مضاعفة جهودها لصناعة مثقف تتولد منه الثقافة ومتحضر ينشئ الحضارة، فالمثقف قبل الثقافة والمتحضر قبل الحضارة، ولذلك كانت خطوة الإسلام الأولى في تغيير الواقع الجاهلي هي: هدم أفكار الجاهلية ثم بيان الأفكار الإسلامية التي تخطط للمستقبل بطريقه صحيحة. وإن فعلنا ذلك أمكننا عبور الفجوة الحضارية التي تفصل بين أمتنا المتعثرة والأمم الأخرى التي تقفز على طريق النمو والتقدم قفزا. والتغيير يبدأ من الإنسان، سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل. فهناك فكرة «جعلت الإنسان يسجد للصنم، وفكرة أخرى جعلت إنسانا آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم»! إنها الأفكار هي التي تصنع الأشياء.