الظاهرة الحوثية ظاهرة متعدة الأوجه يمتزج فيها البعد الديني مع البعدين السياسي والعسكري، وهي بحكم تشعباتها وولائها للخارج أدخلت اليمن في أزمة خانقة بات من الصعب الاهتداء إلى حلها ما لم يكن هناك توافق بين المتدخلين فيها إن على المستوى المحلي أو على المستوى الإقليمي أو الدولي. ولأنها كذلك لم تعد الأزمة اليمنية أزمة محلية صرفة، بل أصبح مآلها مرهونا باستراتيجيات الأطراف المتدخلة التي هي استراتيجيات متضاربة . ولفهم الأزمة اليمنية، نرى أنه ينبغي القيام بقراءة متدرجة لهذه الظاهرة ومدى توغلها في الوسط اليمني من حيث أصولها وجدورها، وهو ما يقودنا إلى التساؤل أولا عن ماهية الحوثيين باعتبارهم طرفا تحمل المسؤولية عبر الحقب في كل مشهد يمني متأزم، وثانيا استعراض التجاذبات الإقليمية والدولية التي أدخلت اليمن في متاهات خدمة لحساباتها الخاصة. من هم الحوثيون؟ هم مجموعة من المتمردين الشيعة أصلهم من محافظة صعدة، شمال اليمن. وأول تأطير لهم كان عام 1992 بدأ من خلال ما عرف بتنظيم "الشباب المومنون" على مستوى القطاع الطلابي في الجامعات اليمنية. عمد هؤلاء الشباب إلى ترجمة فكر المذهب الزيدي الذي هيمن على اليمن لعدة قرون، بعد أن كان هذا الفكر قد تراجع إبان الحرب الأهلية التي عاشتها البلاد عام 1960. وحينما وقف الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى جانب إدارة بوش في حربها على الإرهاب وفي غزوها للعراق عام 2003، وجد حسين الحوثي، واحد من قيادات حركة "الشباب المومنون"، فرصة لدعوة أتباعه للقيام بحركات احتجاجية ضدا في سياسة التحالف مع واشنطن انتهت باعتقال زعيم الحركة مما أدى إلى تحويل المواجهة من حركات احتجاجية إلى صراع مسلح في صيف 2004 بمعقل الحوثيين في صعدة. وبفعل ذلك، أصبحت الحركة تحمل اسم "أنصار الله". وهي نفس السنة التي شهدت مقتل حسين الحوثي، ليتولى والده بدر الدين الحوثي وأخاه عبدالملك قيادة التنظيم، وامتنعا عن التفاوض مع الرئيس علي عبدالله صالح، الأمر الذي أدى إلى نشوب حرب استمرت خمس سنوات بين الحوثيين والنظام اليمني المدعوم آنذاك من المملكة العربية السعودية. وقد لقي هذا التنظيم في هذه الحرب تأييدا شعبيا لدى العديد من الأوساط والقبائل اليمينة التي عانت هي الأخرى من نظام علي عبدالله صالح. وفي عام 2011، برز الحوثيون كأكثر النشطاء في الحركات الاحتجاجية التي اجتاحت اليمن في إطار موجة "الربيع العربي" التي انتهت بإزاحة الرئيس علي عبدالله صالح عن سدة الحكم. وقد استغل الحوثيون المرحلة الانتقالية ليبسطوا سيطرتهم على جميع محافظات الشمال الغربي . وبرر الحوثيون هذا التوسع بأن هدفهم ليس الحكم الذي آل إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي، ولكن لمواجهة بعض الوحدات العسكرية وبعض الزعامات التي مازالت تدين بالولاء لشخص علي عبدالله صالح والقيادي علي محسن الأحمر،رئيس الأركان السابق، باعتبارهما قد شنا حروبا على الحوثيين،وأنهما ما زالا يشكلان لغاية اليوم خطرا على الرئيس هادي هو الآخر. والواقع أن هدف الحوثيين من حربهم هذه يكمن أولا في قطع دابر عدوهم الأول علي محسن الأحمر لأنه كان يعمل على نشر المذهب السني في الأوساط الشيعية بصعدة، وثانيا إحكام السيطرة على جزء من البلاد لغايات ستؤكدها الأحداث اللاحقة. هذه الحرب انتهت بتصفية العديد من الموالين لعلي محسن وخاصة مقتل قائد الكتيبة 310 في مدينة "عمران" في شهر يوليوز 2012. كما رفض الحوثيون الدعوة للمشاركة في المبادرة الخليجية التي وافقت ووقعت عليها أطراف يمنية بتاريخ 3 أبريل 2011 . وتندرج معارضتهم لها كونها ترمي في نظرهم إلى تقويض الثورة اليمنية عن أهدافها . هذه المبادرة وضعت الأسس لنقل نظام السلطة في البلاد وتحديد موعد لإجراء انتخابات رئاسية أجريت بالفعل في شهر فبراير 2012. وبالرغم من هذا الموقف الحوثي من المبادرة، وبعد أن أصبح الحوثيون يشكلون قوة لها وجود مؤثر في أمن واستقرار البلاد، خططوا إذن للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي انطلقت اشغاله بتاريخ 18 مارس 2013 وذلك بنية نسف المبادرة الخليجية التي بني عليها هذا الحوار. ودام هذا المؤتمر الذي انعقد تحت شعار "بالحوار نصنع المستقبل" لمدة عشرة أشهر إلى غاية 25 يناير 2014، انتهى بالتوقيع على وثيقة سميت "بمخرجات الحوار" . ومن أبرز ما نصت عليه الوثيقة اعادة هيكلة البرلمان ومجلس الشورى لتكون مناصفة بين الشماليين والجنوبيين، وحظر وجود ميليشيات مسلحة ،و تسليم الأسلحة للدولة ، وتشكيل لجنة لصياغة دستور للبلاد ، فضلا على أن تكون لليمن دولة اتحادية من ست ولايات. وما أن انتهت اللجنة من صياغة الدستور حتى سارع الحوثيون إلى اعتقال رئيس اللجنة بتاريخ 17 يناير 2015 وهو في طريقه إلى رئاسة الجمهورية لعرض المسودة على الرئيس عبد ربه منصور هادي . وبرر الحوثيون ذلك الاعتقال بنية "إيقاف انقلاب على السلم والشراكة" وأن المسودة مخالفة لمخرجات الحوار. ولما بدا الرئيس عبد ربه منصور هادي منشغلا بعدة تحديات في آن واحد كحركة انفصاليي الجنوب، وتهديدات القاعدة في الجزيرة العربية، واستمرار ولاء العديد من قيادات الجيش لنظام علي عبدالله صالح ، سارع الحوثيون كذلك إلى الانقضاض على عدة محافظات إلى أن استولوا على العاصمة صنعاء. واعتبر الحوثيون أن سيطرتهم على العاصمة هي استمرار للحركة الثورية التي بدأت عام 2011 ضد نظام علي عبدالله صالح. لكن نوايا الحوثيين في الحكم قد تكشفت حينما عرضوا على الرئيس اليمني هادي اتفاقا لتقاسم السلطة، وهو ما اعتبره الرئيس اليمني في خطاب رسمي "بالنهاية القاتلة"، وأن الحوثيين بذلك قد أبانوا عن توجههم الحقيقي القائم على جعل اليمن يرزخ تحت نظام شيعي تحكمه العقيدة الزيدية . وأمام توسع الحوثيين وازدياد نفوذهم ، بدأت السعودية تتوجس من ذلك وأخذت تنظر إلى الحوثيين، وهم "أنصار الله"، بمثابة نسخة ثانية طبق الأصل للتنظيم الشيعي اللبناني "حزب الله" الذي يخطط لنشر مذهبه وتطويق المنطقة الخليجية. ماهي عقيدة الحوثيين؟ الحوثيون هم طائفة شيعية تستند على المذهب الزيدي نسبة إلى إمامهم الخامس زيد بن علي . وهذا المذهب انتشر في اليمن منذ عام 890م إلى غاية 1962. ويشكل أتباع المذهب الزيدي ثلث تعداد سكان اليمن في كل من صعدة وصنعاء وعمران وذمار والجوف وحجة. والعقيدة الزيدية تومن، على خلاف الطوائف الشيعية الأخرى، بوجود خمسة أئمة إلى جانب الرسول عليه السلام، وهم: الحسن بن علي، الحسين بن علي، الحسين بن الحسن وأخيرا الإمام الخامس زيد بن علي. ويختلف المذهب الزيدي عن المذاهب السنية في العديد من القضايا الدينية، منها: نفي الزيديين على عكس السنة رؤية المومنين لله يوم القيامة اعتقادهم كذلك أن الله لا يخلق المعاصي وأنها ليست بقدر الله تعالى، بينما أهل السنة يعتقدون أن الله هو الخالق لكل حادث اعتقادهم أن من وقع في معصية من الكبائر فهو فاسق والفاسق إذا مات ولم يثب فهو مخلد في النار ، بينما أهل السنة يرون العكس وأن كل شيء تحت مشيئته تعالى. وإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ولا يخلد في النار مصداقا لقوله تعالى:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" تنكرهم، على خلاف أهل السنة، لشفاعة الرسول عليه السلام لأهل المعاصي من أمته في الإمامة يعتقد الزيديون أن أحق الناس بها هو علي بن أبي طالب ثم أبناء فاطمة الحسن والحسين، وأن الصحابة أخطأوا بتقديم أبو بكر وعمر بن الخطاب في الإمامة، وأنهم بذلك تطاولوا على حق أمير المومنين علي بن أبي طالب مما ينفي عنهم صفة الخلفاء الشرعيين ، لكن من دون إلحاق اللعنة بهم. ويعد الشيخ بدرالدين الحوثي مرجعا للفكر المتطرف الذي انحرف عن المذهب الزيدي والمعروف "بالتيار الجارودي"، وهو تيار يمجد بالإمام الخميني، ويعتبر عمر بن الخطاب هو السبب في بلاء هذه الأمة إلى يومنا هذا وما أصابها من كوارث من بينها كارثة كربلاء . وقد صدرت لهذا الشيخ كتابات يتهجم فيها على الوهابية وعلى القيادة السعودية. من بين مؤلفاته: "تحرير الأفكار عن تقليد الأشرار" ، "الإيجاز في الرد على فتاوي الحجاز"، "الفرق بين السب وقول الحق" ، وأخيرا "من هم الوهابيون". الحوثيون وصراع القوى الإقليمية والدولية: تعد بؤرة الخليج والشرق الأوسط من البؤر الساخنة لتصفية الحسابات فيما بين القوى الإقليمية والدولية على حساب أهلها. فالصراع على النفوذ وعلى الزعامة يأخذ عدة تجليات عقائدية وسياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية. وكل لاعب أو متدخل يحاول أن يجر البساط من تحت أقدام غريمه. ومن أبرز المتدخلين والمؤثرين على مجرى الأحداث في المنطقة نجد إيران وإسرائيل والسعودية والعالم الغربي المتمثل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأخيرا روسيا. وقد ابانت الأزمة اليمنية من جهتها ،كواحدة من أوجه هذه الصراعات التي تنخر المنطقة، عن تفاوتات في الاستراتيجيات بين الفرقاء المعنيين، وعن اختلاف في التعاطي مع الظاهرة الحوثية إما إيجابا أو سلبا بحسب موقف كل طرف من الحوثيين في سياق ما يتماشى مع مصالحه في هذه المعادلة الإقليمية الشائكة. 1 بالنسبة للمملكة العربية السعودية: في كل الصراعات التي شهدها اليمن في تاريخه الحديث، كانت مواقف المملكة العربية السعودية دائما مناهضة للأدوار المريبة التي يلعبها الحوثيون حتى ولو تعلق الأمر بصراعات يمنية داخلية. هاجس الرياض كان وما يزال أن الحوثيين لا يؤتمن جانبهم، ولا ينبغي أن يترك لهم المجال للاستحواذ على السلطة في اليمن من باب قناعة القيادة السعودية أن ذلك قد تكون له انعكاسات على أمن واستقرار المنطقة. ففي ظل حكم الرئيس علي عبدالله صالح وإلى عهد قريب، وقفت السعودية إلى جانب الرئيس اليمني في قمعه لحركة التمرد الحوثية في السنوات الأولى من هذا القرن. وانسجاما مع هذا الموقف كانت الرياض تسارع دائما إلى تقوية حلفائها من أبناء الطائفة السنية لمواجهة الحوثيين في اليمن. وحينما تبين للقيادة السعودية الجديدة أن اليمن أخذ في الآونة الأخيرة منزلقا خطيرا بسبب الزحف الكاسح للحوثيين على السلطة وعلى البلاد ، سارعت الرياض في خطوة غير مسبوقة في محاولة منها لإيقاف هذا الزحف الشيعي باعتماد استراتيجية عسكرية متحركة عبر ما سمي بعملية "عاصفة الحزم" التي تشارك فيها عشر دول عربية من بينها المغرب. و السعودية التي ترى في الأزمة اليمنية الحالية خطرا داهما على أمنها القومي، أصيبت بانتكاسة من الموقف الأمريكي ومن تعاطي واشنطن غير الواضح وغير الحازم والصارم مع هذه الأزمة. ووجدت القيادة السعودية الجديدة في ذلك الموقف الأمريكي نوعا من تخلي إدارة أوباما عن مسؤولياتها التاريخية تجاه حلفائها في المنطقة . وتبين للرياض أن الرهان على الأمريكيين بات رهانا محبطا ولا يعول عليه وهو ما حدا بها إلى اتباع سياسة الاعتماد على النفس وعلى حلفائها العرب . ومن أجل ذلك، خصصت ميزانية في حدود 150 بليون دولار من أجل تطوير قدراتها الذاتية العسكرية لمواجهة خصومها، وتمويل الحملة العسكرية، والسهر بنفسها مع حلفائها ،من بينهم المغرب، على أمن واستقرار بلادها وكذلك المنطقة. ومن أهداف هذا التحالف العربي إعادة الشرعية لليمن، القضاء على الإرهاب، الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، قطع دابر النفوذ الإيراني، حماية مضيق باب المندب كممر تجاري دولي وجعله في منأى عن سيطرة الدول المارقة. وبذلك تكون العقيدة السعودية الحالية قد جددت العهد مع سياساتها القديمة لفترة ما بين 1970و 1980، وهو عهد يذكر بالزمن الجميل للملك فيصل ارتباطا بحرب البترول لعام 1973 ، واتفاق الطائف الذي أشرفت عليه السعودية وأفضى آنذاك إلى إنهاء الحرب الأهلية بلبنان. فهل التاريخ يعيد نفسه اليوم و معه الريادة السعودية في الأزمة اليمنية، أم أن المعادلات الإقليمية قد تغيرت عن تلك التي كانت فيها الثورة الإيرانية في بداياتها . 2 بالنسبة لإيران: مما لا شك فيه أن تنظيم "أنصار الله" ، كحزب الله في لبنان، بات هو الآخر الذراع الإيرانية في اليمن وذلك بنية اكتمال الطوق وتضييق الخناق على الغريم السني وهو المملكة العربية السعودية . ويؤكد خبراء غربيون أن طبيعة دعم إيران للحوثيين اتخذ عدة أشكال من الدعم العسكري كتزويدهم بمختلف أنواع الأسلحة من قبيل طائرات حربية وصواريخ بلاستيكية ودبابات وأسلحة نارية متنوعة . كما يشير أحد الأكاديميين الأمريكيين "كينيث بولاك" keneth Pollack، وهو خبير في الشؤون العسكرية للمنطقة إلى ان إيران ضالعة في دعمها للحوثيين. "لكن ذلك الدعم الذي تتحدث عنه السعودية مبالغ فيه" على حد قول هذا الخبير. بل أكثر من ذلك أن " جيفري فيلتمان"Jeffrey Fielthman، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، وهو حاليا يشغل منصب المستشار السياسي للأمين العام للأمم المتحدة، سبق له أن أعلن "إن العديد من أصدقائنا حدثونا عن تدخل خارجي لدعم الحوثيين، وسمعنا بنظريات عن دعم ايراني لهم ، ولكي أكون صادقا نحن لا نملك مصادر مستقلة للتأكد من ذلك". وإذا كان الحوثيون ينكرون وجود تحالف مع إيران، كاتهام السعودية لهم بذلك، فإن طهران نفسها لا تنفي وجود هذا التحالف بينها وبين الحوثيين، بل تعترف بأنها تمد حلفاءها في اليمن وبشكل رسمي بالمال والسلاح . و لا تخفي أيضا أن مئات من ضباط من فيلق القدسالإيراني التابع للحرس الثوري يتواجدون باليمن لتدريب الحوثيين. كما أن العديد من هؤلاء المقاتلين يترددون على إيران للخضوع لتدريبات جد متطورة . إن هذا المخطط الإيراني في اليمن ، يشكل في نظر الرياض جزءا من المخطط الشامل الذي أعدته إيران وتعمل على ترجمته عبر مراحل وفي مواقع محكمة بداخل المنطقة. ولذلك، فإن القيادة السعودية ترى أن هذا المخطط عبارة عن سلسلة من حلقات مترابطة لتمدد إيران وخنق المنطقة من الشمال الشرقي بحمايتها للحكومات الشيعية العراقية، ومن الشمال الغربي عبر حزب الله ودفاعها عن بقاء نظام بشار الأسد، ومن الجنوب عبر الحوثيين في اليمن بسبب كل هذه الهواجس، طلبت دول الخليج من الولاياتالمتحدةالأمريكية عقد لقاء مع الرئيس الأمريكي أوباما لتبيان المواقف الحقيقية لواشنطن من قضايا المنطقة. واتفق على أن يجرى هذا اللقاء بكامب ديفيد في أواخر الشهر الجاري. 3 بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية: من المفارقات الغريبة أن النظرة الأمريكية لما ينبغي أن تكون عليه المنطقة تختلف عن النظرة العربية ذات الحمولة الانفعالية والتي تعتقد أن تحالفاتها مع واشنطن هي تحالفات أبدية، وأن العداوة مع إيران أزلية. وإذا كانت دول عربية ترى في نفسها أنها حليفة لواشنطن فذلك حسب اعتقادها كاف لكي تجعل الولاياتالمتحدةالأمريكية من إيران عدوا لها. وهذا اعتقاد عربي خاطئ . فلواشنطن ميزانها في تقييم علاقاتها وإعادة النظر فيها مع كل دول المنطقة بسبب مصالحها الجيواستراتيجية وبحسب المتغيرات الإقليمية، وذلك عملا بالمبدإ اللاتيني المتعارف عليه في القوانين والعلاقات الدولية REBUS SIC STANTIBUS، باستثناء علاقتها مع إسرائيل التي تظل الحليف الاستراتيجي الدائم لواشنطن. وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يستوعبها العرب. ويستند التقييم الأمريكي لمجريات الأحداث في المنطقة على مرتكزات استراتيجية وعلى قراءة مختلفة للمتغيرات الإقليمية. وترى واشنطن أن المخاطر المحدق بمصالحها تاتي دوما من التطرف السني وليس من التطرف الشيعي. فالأنظمة السنية هي التي فرخت في نظر واشنطن، كالفطريات، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي والبغدادي وغيرهم. وفي تعاطيها مع الأزمة اليمنية، تتلكأ فإن الإدارة الأمريكية في دعم المملكة العربية السعودية في كل ما تريده من كسر لشوكة الحوثيين. فبحسب بعض الخبراء الأمريكيين أن واشنطن غير متحمسة للقضاء على المقاتلين الحوثيين خشية أن يخلو المجال لتنظيم القاعدة الذي ترى فيه واشنطن الخطر الحقيقي لتهديد مصالحها في المنطقة، حتى بالقياس مع داعش. ولذلك، تعيب الولاياتالمتحدة على السعودية اختزال كل الأزمة في حركة الحوثيين. ونقلا عن مصادر غربية فإن عملية "عاصفة الحزم" قد أتت على بعض التجهيزات العسكرية الأمريكية التي كانت واشنطن من وراءها في اليمن وأعدتها خصيصا لرصد تحركات تنظيم القاعدة في جنوب البلاد. وفي المجال الاستخباراتي والرصد الفضائي، رفضت واشنطن أن تمد قوات التحالف العربي بمعلومات لتحديد وضرب مواقع الحوثيين. وفي نظر بعض الخبراء ليس التمدد الحوثي هو الذي قد يقلق واشنطن ، بل العكس أن ضرب الحوثيين قد يضعفهم كقوة قادرة وحدها على ردع تنظيم القاعدة. وفي سياقات مماثلة، حاولت بعض الصحف الأمريكية مثل "الواشنطن بوست" وأكاديميون أن يجدوا مبررات لتحركات الحوثيين بأنها ليست انقلابا على الشرعية اليمنية. فالرئيس عبد ربه منصور هادي حينما طلب الاستغاثة بالخارج كان قد تجاوز مدة ولايته واستقال من منصبه وفر إلى خارج البلاد، وبالتالي فإن شرعيته أصبحت هشة مما يجعل الموقف القانوني للتدخل العسكري السعودي غامضا. كما أن بعض الأكاديميين الأمريكيين شكك من جهته في مشروعية الحملة العسكرية كونها اعتمدت على شرعية مشكوك فيها لحاكم يعيش في المنفى. ونرى أن هذا التبرير القانوني فيه نوع من الافتراء الأمريكي تكذبه مواقف واشنطن من تنظيمات إرهابية أخرى لا تكلف فيها الولاياتالمتحدة نفسها أي عناء ما إذا كانت تستند على شرعية أم لا. وعلى خلاف تلك الطروحات الغربية، فإننا نعتقد أيضا أن التدخل العسكري الذي تقوده السعودية يستمد شرعيته من قرارات الجامعة العربية وعلى أعلى مستوى من ملوك ورؤساء الدول، مثلما فعلت أمريكا بضربها للعراق برخصة من مجلس الأمن. وبذلك يبدو أن المقاربة الأمريكية تتماهى إلى حد ما مع تلك التي تحتفظ بها القيادة الإيرانية ، وهي مقاربة تضع المصلحة الأمريكية فوق أي اعتبار، ولا تبالي بمصالح حلفائها في المنطقة الذين يتوجسون من المخاطر الحقيقية التي ينطوي عليها المخطط الإيراني. صحيح أن تنظيم القاعدة يشكل عدوا مشتركا للجميع، لكن لا ينبغي على واشنطن أن يلهيها هذا الإلتزام عن المخاطر الأخرى التي تؤرق دول المنطقة . فالحوثيون ليسوا بملائكة يزرعون رحمة الله في عباده وفي أرضه، فلهم أيضا أجندتهم التي لا يمكن فصلها عن أجندة إيران التي تتفاوض معها اليوم الولاياتالمتحدةالأمريكية ولربما قد يكون ذلك على حساب الأطراف العربية. ولتعلم واشنطن أنه لا يمكن نهج سياسة انتقائية في التعاطي مع الإرهاب والإرهابيين. فآفة الارهاب واحدة وليس فيها ملائكة ولا شياطين. وما دام الإرهابيون كلهم من ملة الشياطين ينبغي إذن التصدي لهم بسياسة واحدة لا بسياسة الكيل بمكيالين. بالنسبة للمغرب: من دون العودة إلى المعطيات والحقائق التاريخية لبلادنا لا يمكن أن نكون على بينة من الحاضر ومن مشاركة بلادنا في التحالف. فالمغرب عبر حقب تاريخية كان موضع استهداف من قبل المد الشيعي حيث دبرت المؤامرات لزعزعة استقراره والاستيلاء عليه. ولنا من الوقائع ما يشهد على ذلك. فاغتيال مولاي ادريس الأول كان بتدبير من حاكم الأمبراطورية العباسية هارون الرشيد الذي بعث بسليمان بن جرير الشماخ وهو شيعي زيدي إلى المغرب، فتقمص عباءة الولاء لمولاي ادريس الأول حتى استفرد به وأجهز عليه بقنينة سم (ص. 20 من المجلد الأول من التاريخ الدبلوماسي للمغرب، د. عبدالهدي التازي). وتواصلت المطامع الشيعية في المغرب في عهد العبيديين انطلاقا من عاصمتهم مهدية (تونس العاصمة حاليا)، وفي عهد القرامطة الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على مدينة فاس وإخراجها من النفوذ الأموي المتمركز آنذاك في قرطبة. وبالاطلاع على أدبيات تلك الحقبة يبدو أن التهديدات الشيعية للمغرب وصلت حد التلويح بالحروب. وهكذا قام عبدالله المهدي الشيعي من مهدية بتهديد أهل المغرب ودعاهم إلى الدخول تحت طاعته والتدين بمذهبه في رسالة ضمنها الأبيات الشعرية، وهي : فإن تستقيموا أستقيم لصالحكم وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا وأعلو سيفي قاهرا لسيوفكم وأدخلها عفوا وأملؤها قتلا ورد عليه شاعر من الأندلس يدعى آل صالح: كذبت وبيت الله لا تحسن العدلا ولا علم الرحمن من قولك الفضلا فما كنت إلا جاهلا ومنافقا تمثل للجهال في السنة المثلا واليوم إن شارك المغرب في التحالف ضد الشيعة المتطرفين في اليمن فلأنه ينسجم مع تاريخه ومع مذهبه ومع ذاته وحماية المقدسات من العبث والتطرف. والفضل يعود إليه في تحرير المسجد الأقصى من الصليبيين واليوم من أجل الحيلولة دون السيطرة على الحرم الشريف من قبل الشيعة المتطرفين. وبلغة العصر، يقدم المغرب نموذجا في مكافحته للإرهاب والإرهابيين ولا يميز فيه بين هذا التنظيم أو ذاك، بل الأمر عنده سيان ما دام الخطر خطرا واحدا. وحينما دخل المغرب في تحالف عربي فلأن ذلك ينسجم أولا مع قناعته اللامشروطة بمبدإ التضامن العربي، وثانيا من منطلق إيمانه الراسخ بأن الإرهاب وباء واحد تجب محاربته أيا كان مصدره أو ملته، وثالثا من منطلق قراءته للمستقبل بأن هذه الظاهرة إن تركت لكي تتفشى فسوف تاتي على الأخضر واليابس في المنطقة العربية برمتها. ومن تخلف اليوم عن أداء الواجب فعاقبته ستكون أشد وأقوى. ولا ينفع التذرع بالقول "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". ومن هنا تعد المقاربة المغربية نقطة ارتكاز أساسية في محاربة هذه الظاهرة بعد أن شهد لها العالم ككل بنجاعتها وباتت وموضع إشادة وتنويه من طرف مجلس الأمن الدولي نفسه. ونضرب موعدا مع القارئ الكريم في قادم الأيام للإتيان على تفاصيل هذه المقاربة. وأخيرا، فإن المطلوب في هذا الظرف العصيب هو بناء مقاربة عربية واضحة في وسائلها وأهدافها والوقت لا يرحم لإدخالها في متاهات نقاش عقيم على غرار ما تنوي عليه الجزائر. ويبقى السؤال المطروح هو ما إذا كانت هناك إمكانية لتجاوز هذا التحدي بنجاح. وفي اعتقادنا لن يتأتى ذلك إلا بتفعيل موقف عربي موحد يفرز من هو معك ومن هو عليك ، وكفيل بتغيير الصورة النمطية المبنية على الاتكالية والرهان على الغير لرسم مستقبل قد لا نكون من صناعه ولا نحن قادرين على التحكم فيه. ولعل الخطوة التي خطتها الجامعة العربية مؤخرا بخصوص الأزمة اليمنية، وما أسفرت عنه القمة من موقف لتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك ورغم وجود المحبطين، تعتبر قفزة نوعية في الاتجاه الصحيح لتدارك تقاعسها في حل الأزمة السورية التي استفحلت وأصبحت مخاطرها وتداعياتها صعبة على الأمن القومي العربي. ولذلك يبدو أن الجامعة العربية لا تريد أن يضاف سيناريو الأزمة اليمنية إلى سيناريو الأزمة السورية لكي لا يثقل كاهل الأمة بمزيد من الأزمات، وبالتالي قد تتسبب في رياح شمالية جنوبية وغربية شرقية بإمكانها أن تعصف بالمنطقة عن آخرها. [email protected]