برحيل العلامة المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي نكون قد فقدنا معلمة كبرى من معلمات المغرب الحديث، فقد جمع بين يديه مختلف الاهتمامات التاريخية والفكرية والدينية والسياسية، وإن كان صوت المؤرخ قد غلب عليه فكان هواه فيه؛ وأغنى المكتبة المغربية والعربية بأمهات الكتب التي همت تخصصات عدة، غطت خصاصة كانت بحاجة إلى رجل يشمر لها ساعديه، وخدم تاريخ المغرب القديم والحديث خدمة لا تقدر بثمن، سوف تبقى محفورة في ذاكرة الأجيال وفي الذاكرة الوطنية بوجه خاص. الذين عرفوا الفقيد الراحل عرفوا فيه واحدة من خصاله البارزة، فالرجل ظل يحتفظ بحيويته ونشاطه إلى سني عمره الأخيرة، فكان قوي الذاكرة حتى وقد جاوز التسعين، والذاكرة عكازة المؤرخ. وأذكر أنني ترددت على زيارته قبل بضع سنوات في بيته العامر بالكتب، وكان محور اهتمامي في جلساتي معه الاطلاع على بعض جوانب العلاقات المغربية الإيرانية التي عايش بداياتها عن كثب، فأهداني نسخة نادرة من ورقة كان قد قدمها في مؤتمر علمي بطهران في الستينيات من القرن الماضي، تخص علاقة المغرب والمغاربة بأهل البيت وحضور محبتهم لهم في مختلف التعبيرات الفنية الشعبية والعالمة. وأثناء مناقشتنا كان يقدم بعض الملاحظات حول الورقة، فنهض ودخل غرفة نومه وعاد يحمل نسخته الخاصة من الورقة وانهمك في كتابة ملاحظاته على الهامش، ثم أخذ النسخة التي بيدي وكتب نفس الملاحظات، أما أنا فقد قفز اهتمامي من المناقشة والملحوظات إلى الطريقة الحماسية التي يتصرف بها وكأنه طفل صغير يفرح بلعبة حصل عليها، وعندما وجهت إليه تلك الملاحظة ضحك وقال لي ما معناه إن الإنسان يجب أن يتعلم باستمرار ما دام حيا. عمل التازي سفيرا للمغرب في بغداد في السبعينيات من القرن الماضي، وواكب التطورات على الساحة الإيرانية القريبة من العراق. وخلال وجود الخميني في النجف التي مكث فيها إلى عام 1978 قبل أن يغادرها إلى باريس ليعلن من هناك ثورته ضد الشاه، قام التازي بزيارته، حيث تعرف عليه عن قرب وتحاور معه حول مختلف القضايا التي تهم الوضع الإيراني والعلاقات المغربية الإيرانية والثقافة الشيعية بالمغرب. لم يقل لي الفقيد الراحل آنذاك ما هي دواعي تلك الزيارة التي تكررت فيما بعد، ولكن يبدو أن حب الاستطلاع لدى المؤرخ التي تحرضه على التنقيب في كل جديد كانت وراء تلك الزيارة؛ بيد أنه لا بد من أنها تمت أيضا بتنسيق مع الرباط، فقد كان الحسن الثاني يتابع الأحداث في إيران عن كثب، وكانت لديه علاقات قوية مع الشاه الذي استقبله في المغرب في نهاية الستينيات حيث ألقى خطابا داخل البرلمان المغربي. لكن الملك الراحل أدرك أن نهاية الشاه أصبحت وشيكة منذ الاحتفالات الصاخبة التي أقامها في مدينة برسيبوليس التاريخية التي ترمز إلى المجد الفارسي عام 1971، دعا إليها جميع ملوك وزعماء العالم قاطبة، وقد اعتبر الحسن الثاني في حوار معه بعد الثورة الإيرانية أن تلك الأحداث كانت أكبر خطأ اقترفه الشاه، لأنه أحيى غضب الشيعة المتدينين واستفز مشاعرهم. خلال أحداث الثورة الإيرانية، وقبل سقوط النظام، أدلى الحسن الثاني بتصريحات نارية تجاه الخميني، واحد منها كان في إحدى القنوات الفرنسية، لكنه بعد استتباب الأمر للنظام الجديد ومغادرة الشاه لإيران في اتجاه مصر، حيث رفض أنور السادات استقباله، فكر الحسن الثاني في تعيين سفير له في طهران لإصلاح ذات البين. لم يكن الاختيار سهلا، لأنه كان لا بد من شخص تجتمع فيه بضع صفات، فاقترح عليه أحدهم إسم عبد الهادي التازي، نظرا لمعرفته بالخميني عن قرب ولتجربته في العراق؛ لكن وجود التازي في طهران لم يستمر طويلا. فقد روى لي الفقيد الراحل أن الجزائر، التي باركت الثورة منذ اليوم الأول، كانت حانقة على تطبيع العلاقات بين الرباطوطهران بعد تصريحات الحسن الثاني القوية، فكانت تحاول إعادة تسميم تلك العلاقات. وأثناء مناسبة من المناسبات الوطنية في إيران نظم احتفال بمقر السفارة المغربية بحضور مهدي بازركان، رئيس الحكومة المؤقتة التي جاءت بعد حكومة شهبور بختيار، والسفير الجزائري آنذاك، وكان التازي قد أخذ معه إلى الحفل حفيدة له تدعى فاطمة الزهراء، فانهال عليها الشيعة الحاضرون تقبيلا وأمطروها بالهدايا، لأن إسمها يذكرهم باسم الزهراء، إبنة الرسول عليه السلام وزوج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. بيد أن الجزائريين لم يرقهم أن يرتقي مستوى العلاقات مع المغرب، فقرروا توظيف علاقاتهم في فرنسا من أجل إعادة بث البرنامج التلفزيوني الذي ذكرت فيه تصريحات الحسن الثاني ضد الخميني، من أجل تحريض النظام الجديد على المغرب. بقية القصة معروفة. فبعد أن طافت طائرة الشاه في الأجواء ورفض الجميع استقباله، بمن فيهم حلفاؤه الأمريكيون أنفسهم، قرر الحسن الثاني استضافته ومنحه اللجوء السياسي، قبل أن يتراجع عن ذلك في ما بعد، لتدخل العلاقات بين الرباطوطهران مرحلة الجليد ثانية، فعاد التازي إلى الرباط متأبطا حقائبه.كان عبد الهادي التازي رحمه الله صاحب نكتة، لا تكاد تجالسه من غير أن تسمع منه طرفة من الطُرف التي يتحفك بها من ذاكرته الحية النابضة المليئة بالأسماء والأمكنة وعناوين الكتب. حكى لي مرة أنه كان لديه، وهو سفير في طهران، سائق يسمى عمرا، وهو إسم يحيل على الفاروق عمر بن الخطاب عند الشيعة الإثني عشرية، وموقفهم منه معروف؛ فكان كلما خرج إلى الشارع إلا ويأخذ صفعة أو صفعتين من بعض المواطنين الإيرانيين، لكنه لم يكن يبوح للسفير بذلك السر، وذات مرة طفح به الكيل فشكى أمره إلى التازي، فرد عليه هذا الأخير ضاحكا:"يا أبله، قل لهم هذه المرة إن إسمك علي"!.