ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. ارتبط اسم المغرب وملكه الحسن الثاني بمرحلة هامة من حياة شاه إيران محمد رضا بهلوي، وهي المرحلة التي غادر خلالها بلاده تحت وطأة الثورة الإسلامية التي انطلقت في بداية 1979. وجاء هذا الارتباط نتيجة لاستقبال الملك الحسن الثاني لشاه إيران الذي كانت تربطه به وببلاده علاقات وثيقة حيث مكث بالمغرب أزيد من شهرين في ظروف خيمت عليها أخطار حقيقية على الأسرة الملكية. وفيما يلي استعراض للظروف التي حملت شاه إيران على المجيء إلى المغرب في بداية مرحلة متاهات وهو يبحث عن بلد يحط به الرحال. شكلت إقامة شاه إيران محمد رضا بهلوي في المغرب، غداة الإطاحة بنظامه الإمبراطوري، مرحلة حرجة بالنسبة للمملكة المغربية. فقد كانت الإقامة مثار انتقادات كثيرة ومواقف معادية للمغرب، وبالضبط ضد الملك الحسن الثاني الذي سمح للشاه بالقدوم إلى المغرب مع كل ما يحيط بذلك من أخطار، في وقت كانت الثورة الإيرانية في مراحلها الأولى محل تقدير وإعجاب في كثير من عواصم العالم، وفي مقدمتها عواصم الدول العربية. والحقيقة أن الحسن الثاني كان في موقف حرج يتنازعه واجب الضيافة المغربية العريقة من جهة، وواجب تجنيب البلاد والمؤسسة الملكية كل ما من شأنه أن يمس بهما من جهة أخرى. وهذه هي الرسالة التي أراد الحسن الثاني أن ينقلها سفيره الجديد في طهران، الدكتور عبد الهادي التازي، لقادة النظام الجديد في إيران. فقد قال له وهو يسلمه أوراق اعتماده يوم 28 أبريل: «على الشعب الإيراني والمسؤولين الإيرانيين ألا يخلطوا بين ما هو واجب علينا من الضيافة وبين التدخل في الشؤون الداخلية، لا سيما وأن النبي عليه السلام قال: أكرموا عزيز قوم ذل». في يوم 16 يناير 1979، غادر الشاه طهران باكيا في رحلة لم يكن يعرف مداها ومنتهاها، وخلف وراءه بلادا تغلي بالاضطرابات والقلاقل التي ستغرق فيها الإمبراطورية الفارسية. وفي يوم 22 يناير، وصل إلى المغرب قادما من القاهرة التي كانت محطته الأولى على طريق المنفى، وحطت طائرته بمدينة مراكش التي كان الملك الحسن الثاني يقيم بها، إذ ذاك. وفي يوم 30 مارس، غادر الشاه المغرب بعد إقامة دامت بالضبط شهرين وثمانية أيام، سال خلالها مداد كثير وحفلت بتحركات دبلوماسية وأمنية واسعة بحثا عن ملاذ آمن للشاه من شأنه أن يحرر المغرب من عبء كان يزداد ثقلا وخطورة يوما بعد يوم. فبقدر ما كانت إقامة محمد رضا بهلوي في المغرب تطول، بقدر ما كانت تزداد تهديدات المناوئين حدة، خصوصا بعد وصول الإمام آية الله الخميني إلى طهران أول فبراير 1979 قادما من فرنسا، التي سبق له أن لجأ إليها بعد إبعاده من العراق الذي أقام به فترة طويلة. في مساء أحد الأيام وأنا في بيتي، رن جرس الهاتف، وإذا بي أفاجأ بمن يخبرني بأن الملك الحسن الثاني معي على خط الهاتف من مدينة مراكش، ملخص المحادثة أن الحسن الثاني طلب مني اتخاذ الإجراءات اللازمة لموافاته ساعة بعد ساعة بأنباء الأحداث الجارية في طهران وتطوراتها، وعندما استفسرت جلالته عن الطريقة إيصال هذه الأخبار، دعاني إلى الاتصال بوزير الداخلية ادريس البصري الموجود هو أيضا في مدينة مراكش ليرشدني إلى وسيلة الاتصال. وفعلا، اتصلت في تلك الليلة بوزير الداخلية وأخبرته بالمكالمة الهاتفية الملكية وموضوعها، فزودني برقم الفاكس الذي سيتلقى مراسلاتي الموجهة إلى جلالة الملك. وبعد ذلك، اتصلت بوزير الدولة المكلف بالإعلام عبد الهادي بوطالب، وكنت على علم بأنه سيسافر في اليوم الموالي إلى بغداد في مهمة رسمية. وعندما أخبرت الوزير بالأمر، أوضح لي بأنه هو الذي اقترح اسمي على جلالة الملك للقيام بهذه المهمة في غيبته، وذلك بالنظر إلى مسؤوليتي في الإذاعة الوطنية وإشرافي على الأخبار، وبالتبعية على قسم الاستماع، الذي يمكنني من متابعة التطورات المتلاحقة في إيران. وفي صباح الغد، كان أول عمل قمت به هو تكوين فريق صحافي إلى جانبي وفي مكتبي، مع دعوة قسم الاستماع إلى مضاعفة الجهود وتتبع أكبر عدد من الإذاعات الأجنبية، بالإضافة إلى وكالات الأنباء العالمية التي تتوفر عليها الإذاعة، مع التركيز طبعا على أحداث إيران وما أكثرها وما أهولها في ذلك الوقت. وهكذا استمرت العملية بالليل والنهار في ظروف حسنة ولعدة أيام، ولم تتوقف إلا حين عودة الوزير عبد الهادي بو طالب من العراق. بدأت بعض شظايا الانفجار الشعبي في إيران تصيب المغرب بسبب وجود الشاه فيه، فقد هوجمت السفارة المغربية في طهران «لأن الثوريين الإيرانيين (يقول الدكتور عبد الهادي التازي) غضبوا لهذا الوجود وأصبح المغرب في موقف حرج». وفي غمرة هذه الأحداث، اعترف المغرب بالواقع الإيراني الجديد، على أساس أن وجود الشاه ضيفا على الملك لا يمنع من إقامة علاقات سياسية مع إيران، «فالمملكة المغربية تقيم علاقات مع إيران وليس مع الشاه»، كما قال الحسن الثاني في تصريح للتلفزة الأمريكية «إي، بي، سي». وقبل تعيين السفير الجديد في إيران بفترة، أرسل العاهل المغربي الأستاذ عبد الهادي بوطالب وهو إذ ذاك مستشاره إلى إيران لتقييم الوضع هناك، وقد التقى بآية الله شريعاتي مادارى في مدينة قم، وكانت هذه الزيارة في أكتوبر 1978، أي قبل أربعة أشهر من وصول الخميني إلى طهران. بل أكثر من هذا، فقد أقدم علماء المغرب المجتمعون في مؤتمرهم السنوي بمدينة وجدة يوم 16 ماي 1979 بحضور مستشار الملك، أحمد بن سودة على إرسال برقية تنويه وإشادة إلى الإمام الخميني. وقبل ذلك، في فبراير 1979، بعثت رابطة علماء المغرب رسالة بتوقيع عبد الله كنون، الأمين العام، إلى آية الله الخميني تحيي فيها انتصار الحركة الإسلامية في إيران. وتقول الرسالة: «إنها لحركة مباركة هذه التي تقودونها بحكمة وتبصر في نطاق البعث الإسلامي والتحرر من الهيمنة الأجنبية التي فرضها الغرب والشرق على الساسة والشعوب العربية والإسلامية». وأكدت رابطة علماء المغرب، في الوقت ذاته، تضامنها مع الخميني: «إننا نؤكد لكم أننا سنبقى مرابطين في خط المقاومة لكل مذهب أو نظام غير إسلامي حتى تتحقق الوحدة الإسلامية وتتحرر فلسطين والقدس الشريف وسائر بلاد الإسلام». ولكن جميع هذه المواقف، لم تمنع هؤلاء العلماء في غشت 1980 من إصدار فتوى شرعية ضد الإمام الخميني بسبب «أقواله وتصريحاته التي يعتبرونها مناقضة لعقيدة التوحيد»، وقد دعا هؤلاء العلماء علماء العالم الإسلامي إلى الوقوف وقفة رجل واحد ضد هذا «التيار الهدام» ورفع علماء المغرب في الوقت ذاته رسالة إلى الملك الحسن الثاني عبروا فيها عن عدم ارتياح ضميرهم من جراء الهجمات المتوالية التي أصبحت العقيدة الإسلامية تتعرض لها في عدة بلدان من طرف شخصيات مسؤولة تنتمي إلى الإسلام، ووصفوا «تصريحات وأقوال إمام الشيعة الخميني بأنها بلغت الغاية في التحدي والافتراء». ويحكي الحسن الثاني في كتاب «ذاكرة ملك» كيف اتصل بشاه إيران لدى وصوله إلى القاهرة، حيث رحب به في المغرب إذا أراد المجيء إليه فيقول: اتصلت بالشاه تلفونيا لما وصل إلى القاهرة وقلت له: إنني يا رضا حزين لما أصابك، ومهما يكن فاعلم أنك إذا أردت المجيء إلى المغرب، فستجد أبوابه مشرعة لك، وسوف يسرنا غاية السرور أن نستقبلك، ويمكنك أن تمكث في المغرب ما شئت من الوقت». ويظهر أن هذا الكلام الصادق والمؤثر هو الذي شجع الشاه على اختصار مدة إقامته في القاهرة والانتقال إلى المغرب بعد أسبوع واحد فقط من وصوله إلى العاصمة المصرية، وقد ذكر بنفسه في كتابه «جوابي للتاريخ» أنه كان ينوي التوجه إلى الولاياتالمتحدة بعد توقف قصير في المغرب، لكن الولاياتالمتحدة خذلته حين تماطلت في السماح له بالدخول إليها حتى استفحل داء السرطان الذي كان ينخر جسده. كان الملك الحسن الثاني كما قال ذلك بنفسه في حديث لإذاعة «فرانس أنتير» يتقابل يوميا مع شاه إيران في الأيام الأولى لوجوده في المغرب ويتحادثان حول مشاكل العالم الغربي، وحول ما وصفه الشاه ب«عدم تفهم الغرب لإيران وعدم إنصافه له». في وقت من الأوقات، بدأ الحسن الثاني يشعر بالإحراج من طول مقام الشاه في المغرب (خصوصا وأن أبناء الشاه التحقوا بأبيهم في المغرب)، وذلك أمام صعوبة إيجاد بلد يستقبله، وأيضا بسبب الإشاعات المتداولة بوجود أخطار تهدد العائلة الملكية، وفي وقت تجري فيه الاستعدادات لاجتماع مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في مدينة فاس (الدورة العاشرة). كان الحسن الثاني يتخوف من أن ترفض الدول الإسلامية إرسال وزراء خارجياتها إلى المغرب لحضور المؤتمر كما جاء في كتاب «ذاكرة ملك» إذا ظل به الشاه، وبالتالي فإن الرأي العام المغربي سيتأثر لذلك. من غرائب الصدف أو هكذا قيل وجود اثنين من كبار المسؤولين عن المخابرات الأمريكية والفرنسية في المغرب أثناء إقامة الشاه به، وهما «فيرنون والتيرز»، أحد الوجوه الغامضة في الاستعلامات الأمريكية، والكونت الكسندر دومارانش، رئيس المصالح السرية الفرنسية في عهدي الرئيسين جورج بومبيدو وجيسكار ديستان، وكانت لهما علاقات ودية مع ملك المغرب وأيضا مع شاه إيران، وكانت وجوههما معروفة في الاحتفالات التي تقام في المغرب بمناسبة الأعياد الوطنية. كان هذان المسؤولان عن المخابرات الأمريكية والفرنسية هما من نقلا إلى الحسن الثاني ما سمي بالإشاعات الرائجة حول وجود جماعة إرهابية تفكر في اختطاف أفراد العائلة الملكية ومبادلتهم بالشاه محمد رضا بهلوي لإرجاعه إلى إيران، حيث كانت الثورة الإيرانية تود محاكمته. وقد وردت هذه التأكيدات مفصلة في كتاب «في عمق سر الأمراء»، الذي كتبه دومارانش بتعاون مع الصحافية الفرنسية كريستين أوكرانت، وعلى لسان والترز في كتاب «الشاه: منفى وموت شخصية مزعجة» للصحافي البريطاني وليام شاوكروز. وذهبت هذه المصادر إلى حد حشر الفلسطينيين في الموضوع والادعاء بكل بساطة وسهولة بأن ياسر عرفات يهدد باستمرار بإرسال فريق فلسطيني لاختطاف الشاه من المغرب ونقله إلى إيران، وأن مسؤولا آخر (لم يذكر اسمه) صرح في طهران بأنه لو استمر الشاه مقيما في المغرب لكان قد اختطف.