إذا نحن حددنا الديمقراطية في مفهومها الأصلي والأول عند الإغريق كحكم الشعب نفسه بنفسه، وإذا نحن اعتبرناها في ممارستها االحديثة كتداول سلمي على السلطة، فإن ما حدث في مصر مؤخرا يدعو إلى مزيد من التأمل ويثير أكثر من سؤال. لقد قام شعب الكنانة، عن طريق ثورة شعبية عارمة عمت مختلف أنحاء البلاد، بمواجهة ومناهضة الحكم الدكتاتوري القائم والإطاحة به في نهاية الأمر. واستبشر الناس خيرا عندما استدعوا إلى المشاركة في انتخابات نزيهة وحرة لأول مرة، ربما، في تاريخ مصر حسب المراقبين. ومادامت كذلك، فقد كان مرتقبا، إذا ما أجريت انتخابات في نفس الظروف ونفس الأجواء، كما في باقي الدول العربية، أن تفرز نتائجها صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم. وفعلا هذا ما حصل، لأن الرئيس الذي انتخب بطريقة حرة ونزيهة ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. بعد ذلك عرفت البلاد نسبيا نوعا من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، واختفت الاحتجاجات والاعتصامات في الشارع العام، وذهب كل إلى حال سبيله؛ قبل أن تظهر من جديد، بعد مرور حوالي سنة عن ذلك الاستقرار الهش، بعض مظاهر الاحتقان الشعبي انتهى بعزل الرئيس، وإيداعه السجن، وتنصيب حكومة جديدة لتصريف الأعمال، في انتظار عملية انتخابية جديدة. هذا على مستوى مجريات الأحداث، أما من جانب تناولها بالدراسة والتحليل، فيمكن القول بأن مصر أخطأت موعدها مع التاريخ، لأنه بعد قيام الثورة وتغيير نظام الحكم وانخراط الشعب في مسلسل ديمقراطي لمعرفة واستكشاف الاتجاه الذي سوف تمليه الإرادة الشعبية، كان من المفروض احترام هذه الإرادة والسير بها وفق ما تقتضيه شروط ومبادئ العمل الديمقراطي، لا إجهاضها وإدخال البلاد في متاهات لا أحد يمكن له التكهن بمدى ما سوف تسفر عنه، خصوصا إذا علمنا القلاقل والتذمر والمواجهات العنيفة التي حصلت، والتي لا شك سوف لن تنتهي، بين المتعاطفين مع الإخوان والقوات العمومية بعد خلع الرئيس المنتخب. لغويا ينحذر مفهوم الثورة من فعل ثار الذي يحيل بدوره إلى حالة السخط والغليان والقلق من الوضع القائم، ومن ثم التفكير في تغييره واستبداله بوضع أحسن حالا منه. وهذه العملية، أي عملية الانتقال من حال إلى حال، تفترض وجود ثلاث محطات أو مراحل: مرحلة ما قبل الثورة مرحلة ما بعد الثورة مرحلة الوسط الذي يصعب تحديدها على حد تعبير أبي الوليد ابن رشد. وتنطوي مرحلة ماقبل الثورة على بواعث ودوافع قيام الثورة، أي العوامل التي تفضي إلى الإحساس سواء لدى الفرد أو الجماعة بالقهر والظلم والتذمر من طرف الحاكم، إن على المستوى الاجتماعي كالشعور بالدونية والتفريط في تلبية الخدمات الأساسية لمكونات المجتمع من سكن وتعليم وصحة، أو على المستوى الاقتصادي كالتوزيع غير العادل للثروة وضعف القدرة الشرائية للمواطن، ومنح الامتياز لطبقة على حساب أخرى للاستحواذ على خيرات البلاد. أما على المستوى السياسي، فيمكن رصد مظاهر الأزمة في الاستئثار بالسلطة من طرف شخص واحد أو هيئة سياسية بعينها، وعدم احترام الحريات الفردية والجماعية في جوانبها التعبيرية والجمالية والروحية، وهدر واغتصاب الحقوق بواسطة التسلط والقمع وتحيز القضاء. هذه باختصار أهم العناصر التي إن اجتمعت كلها أو بعضها يمكن أن تشكل حافزا لتغيير نظام الحكم. ونظام الحكم هذا إذا ما وضعنا جانبا الأنظمة التي تستمد مشروعيتها في الحكم من الوراثة، انطلاقا من فكرة خلافة الله في أرضه، أو من شخص ينحدر من عائلة توفرت لها في وقت من الأوقات جميع الظروف للسيطرة على السلطة لاعتبارات رمزية أو بطولية، وكذلك إذا استثنينا الحالة الخاصة بالحاكم الذي تنصبه دولة مستعمِرة في بلد مستعمَر لحماية مصالحها ومصالح رعاياها، أو فقط لنشر إديولوجيتها؛ فإن الأنظمة القائمة تقريبا تنبثق من ثورة سابقة عليها، بمعنى أن كل ثورة شعبية تؤدي إلى قيام نظام معين في الحكم، ثم لا تلبث أن تستنفذ هذه الأخيرة جميع مقوماتها، أو قد لا ترقى إلى ما يتطلع إليه الشعب، فتقوم ثورة أخرى وهكذا دواليك. وإذا نحن أردنا الوقوف عند هذه الجدلية، أي توالي وتواتر الثورات إلى ما لانهاية، لمعرفة صحتها ومصداقيتها واستكشاف قوة تماسكها وانسجامها، فإننا نجد أن ذلك يصطدم بحقائق ونماذج يمدنا بها التاريخ تنفي أو على الأقل لا تساير هذا الطرح؛ لأن هناك أمما معينة استطاعت، في مرحلة ما من تاريخها، أن تصل إلى حالة من التراضي والتوافق على نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بل وحتى حضاري كفيل بتحقيق أهدافها وتطلعاتها في العيش الكريم والاستقرار، ويقيها من ويلات الحروب الأهلية والطائفية. كيف ذلك؟ وهو السؤال الذي سوف يقودنا إلى الحديث عن مرحلة ما بعد الثورة. لكن قبل ذلك وجب التطرق إلى ما يؤسس لها وهو ما أطلقنا عليه من قبل مرحلة الوسط الذي يفصل بين ما قبل الثورة وما بعدها.وبقدر ما يصعب تحديد هذا الوسط أي معرفة بدايته ونهايته، بقدر ما تضفي ملابساته وتفاصيله وطريقة تدبيره أهمية قصوى لما سيحصل من بعد. فعندما تشتعل الثورة ويضيق الخناق على النظام القائم، ويصبح بالتالي هامش مناوراته محدودا إن لم يكن مستحيلا، وتصل الأمور إلى مرحلة الانفلات الأمني، ويتراءى للجميع أنه ليس هناك من مجال للعودة للوراء، وتترسخ لديه فكرة تجاوز النظام السياسي القائم؛ حينئذ يمكن تصور عدة سيناريوهات لما ستؤول إليه أحوال البلاد والعباد. *- السيناريو الأول يتمثل في الاستيلاء على السلطة بواسطة انقلاب عسكري، مثل ما قام به معمر القدافي في ليبيا سنة 1969، أو أوغيستو بينوشي في الشيلي سنة 1973، أو بواسطة مجموعة من الأفراد تنتمي إلى القوات المسلحة مثل ما وقع في مصر عام 1952. *- التصور الثاني يكمن في كون الثورة تقودها هيئة سياسية أو نقابية، وفي هذا الإطار الذي نتحرك فيه لا يهمنا ما إن كانت هذه الثورة مسلحة مثل ما حصل في الصين، عندما استولى ماوتسي تونغ زعيم الحزب العمالي سنة 1949 على مقاليد الحكم، أو فيديل كاسترو في كوبا عام 1958، أو إذا كانت هذه الثورة سلمية مثل ما وقع في بولونيا نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين بواسطة االزعيم النقابي ليش فاليسا. *- أما السيناريو الثالث والأخير فيتمثل في كون الثورة لا يتزعمها فرد بعينه، أو مجموعة أفراد، أو هيئة سياسية أو نقابية، حتى ولو كانت مساهمة كل هؤلاء في الثورة واردة بطريقة غير مباشرة، بل يقودها الشعب برمته؛ مثل ما وقع في الثورة الفرنسية سنة 1789، أو ما حصل مؤخرا سنة 2011 في مصر وتونس. وبالنظر في هذه السيناريوهات الثلاثة باعتبارها وسطا بين ما قبل وما بعد الثورة، من زاوية معرفة صعوبة تحديد هذا الأخير؛ فإن النماذج التي عرضنا لها على سبيل المثال لا الحصر تؤكد وتثبت ما ذهبنا إليه. ذلك أن البداية لا تتعلق بمعطى واحد بل بعدة معطيات متداخلة ومتناثرة وأحيانا متناقضة: منها ما يرتبط بمدى استنفاد النظام القائم لجميع مقوماته في مواجهة خصومه، ومنها ما يمت إلى جاهزية من يريد تغيير النظام على المستوى الشعبي أو العسكري أو الاستراتيجي، ومنها أخيرا وليس آخر ما يقترن بالظروف والأجواء الإقليمية والدولية التي تلعب دورا لايستهان به، إن لم تكن هي التي تحسم الأمور في الأخير. هذا عن بداية الوسط أما نهايته فهي بدورها تخضع لنفس المنطق ونفس الاعتبارات؛ دليل ذلك أن هناك بلدانا ثارت على الدكتاتورية وأسقطتها وبدأت تؤسس لمرحلة ما بعد الثورة في مدة لم تتجاوز سنة أو سنتين مثل حالة بولونيا كما أشرنا إليها من قبل، وهناك بلدانا استمرت فيها المرحلة الانتقالية لمدة تفوق أربعين سنة مثل ما حصل في ليبيا مع نظام القدافي الذي لم ينته إلا بواسطة ثورة شعبية ساهمت فيها القوى الإقليمية وخصوصا الدولية بشكل واسع وجلي، وهناك أخيرا بلدانا بدأت فيها المرحلة الانتقالية3 منذ أكثر من نصف قرن ولم تنته بعد، نموذج ذلك يقدمه لنا نظام كاسترو في كوبا. أما من زاوية معرفة مَن مِن التصورات الثلاثة الواردة في هذه الدراسة هي الأصح أو الأقرب للمرور إلى مرحلة ما بعد الثورة، فأن المسألة مرة أخرى لا تخضع للمنطق بمعنى أنه إذا اجتمعت (أ) مع (ب) في ظروف معينة فسوف تنتج ضرورة (ج)، لأن العلوم السياسية باعتبارها علوما إنسانية لا تخضع للضرورة التي تفرضها العلوم الدقيقة مثل الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا، بل تخضع للأهواء وتضارب المصالح والتاريخ والجغرافيا ودرجة الوعي الفردي والجماعي. وهذه العوامل إذا ما تظافرت لها ظروف ذاتية وموضوعية جيدة، فإنها سوف تفضي لامحالة إلى الاتجاه الصحيح وتأسيس مرحلة ما بعد الثورة. ما هي إذن مرحلة ما بعد الثورة وكيف يمكن تصورها؟ لايمكن تصور مرحلة ما بعد الثورة إلا في إطار الترتيب التسلسلي الذي يجب أن تندرج فيه، بمعنى أنها يجب أن تؤسس بداية لنوع من الاستقرار السياسي وتفتح الآفاق لصياغة عقد يكون معبرا ومجسدا لمقومات السلم الاجتماعي، ومن ثمة فإنها مطالبة بالإجابة عن التساءلات والإشكالات التي أفرزتها وطرحتها عوامل قيام الثورة. لا جدال في أن الجهل، والفقر، وتفشي مظاهر الاستبداد، والإحساس بالمهانة والظلم في تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تشكل أسبابا موضوعية لإثارة المشاعر وتهييج النفوس والحض على الثورة. لكن معاينة الواقع لا تساير هذا الطرح، انطلاقا من فكرة وجود عدة شعوب وبلدان تعاني من مثل هذه العلل، وأكثر من ذلك، ولاتستشيط غضبا أو تنهض منفعلة في وجه من هو وراء هذه الآفات. ولذلك وعلى الرغم من كونها أسبابا موضوعية لاستنهاض الهمم، فإنها ليست كافية بدون وجود خيط رابط يمكن من استنباطها وتمثلها واستيعابها وإدراكها، ومن ثمة العمل على تجاوزها. وهذه العملية المعرفية هي التي تقود إلى تشكل مفهوم الوعي؛ غير أن تشكل هذا الوعي الفردي أو الجماعي، السياسي أو الاجتماعي، يبقى حتما مرهونا بمدى التقدم الفكري والحضاري والتاريخي الحاصل داخل هذا الشعب أو ذاك، وهو ما يفسر طبعا الفوارق التي نشاهدها اليوم بين الأمم المتطورة والغنية وبين الأمم المتخلفة والفقيرة. ونتيجة لذلك ينحو في الغالب الأعم الوعي السياسي والاجتماعي منحيين مختلفين وأحيانا متعارضين: المنحى الأول هو ذاك الوعي الذي يسود فيه الاعتقاد بأن مصدر الحكم فوق الأرض تمليه المشيئة الربانية، أو قوى غيبية أخرى، ومن ثمة تعزى مظاهر البؤس والفقر والظلم إلى غضب الإرادة الإلهية أو انزعاج تلك القوى بسبب عدم الانضباط بتعاليمها، الشيء الذي يفسر تفشي ظواهر الشعودة والحرص على إقامة الصلوات والطقوس الروحانية التي تطبع السلوك البشري، التماسا للمغفرة والرضوان، وإبعاد الشبهات عن الذات. المنحى الثاني يكمن في الوعي السياسي الذي يدرك أن مصدر الحكم ليس مرده إلى قوى غيبية بل يعود إلى قوى بشرية طاغية وظالمة ومستبدة، تعيث فسادا في البلاد. غير أن هذا الإدراك لا يسري على كافة أفراد الشعب، بل تستأثر به مجموعة من الأفراد، والتي نظرا لمستواها الدراسي وقربها من مصادر القرار ومعرفتها الجيدة بملابسات وحيثيات ممارسة السلطة، لاتتوان، بفضل هذه الجاهزية، من الانقضاض على السلطة في أي وقت وحين. وهذا النوع من الوعي يمكن أن نطلق عليه تجاوزا الوعي شبه المفوض؛ بمعنى أن كافة الشعب إما أنه يتبنى النوع الأول من الوعي، وإما أنه يرقد في سبات عميق بينما يتكلف البعض بالأخذ بزمام الأمور تحت ذريعة أن الشعب فوض له أمره أو أنه يمثله بدون حتى استشارته. وهذا الأمر هو ما اضطلعت به الدكتاتوريات والأحزاب السياسية المنتمية في غالبيتها إلى المعسكر الاشتراكي في القرن العشرين. والكل يعرف المآل الذي آل إليه هذا النوع من الحكم في النهاية، بفعل شمولية النظام، والحكم المطلق الذي طبع الممارسة السياسية، وإهمال مكونات ومتطلبات التطور المجتمعي. وهذه النتيجة بقدر ما هي حتمية بقدر ما لا يجب انتظار نقيضها، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الإلغاء الذي يطال في مثل هذه الأنظمة مفهوم الحرية، والغموض الذي يكتنف مفهوم المسؤولية، لأن المسؤولية تفترض المساءلة والمحاسبة، والحاكم المطلق الذي يعتبر نفسه واحدا قهارا ولا يعلو فوقه أي شيء، لا يخضع لأي محاسبة وبالتالي فقرراته تعتبر مقدسة أو ما في معنى ذلك. كما أن تغييب مفهوم المؤسسة وعدم الفصل بينها يلعب دورا لا يستهان به. وإذا نحن تأملنا هذه المفاهيم الثلاثة، فإننا نجدها حاضرة بكل تأكيد في كل نظام سياسي، لأنها تمثل كنه الوجود ومبدأ الحياة الاجتماعية. ليس في نيتنا الخوض في البعد الميتافيزيقي لمفهوم الحرية، كما صاغه سبينوزا في الجملة التالية ،" أما فيما يخصني، فأنا أعتبر حرا الشيء الذي هو موجود ويتحرك فقط بفعل ضرورة طبيعية، وأسمي إكراها الشيء الذي هو محتوم ويحدد بشيء آخر في وجوده وفي حركته "4. فالله مثلا في نظر سبينوزا موجود وجودا حرا وضروريا لأنه يوجد فقط بسبب الضرورة الملازمة لطبيعته فقط. كما أن الله يعرف ذاته بحرية، لأنه يوجد بفعل الضرورة الملازمة لطبيعته فقط، وأيضا إن الله يعرف ذاته ويعرف كل شيء بحرية، من نتائج الضرورة الملازمة لطبيعته فقط؛ ومن ثمة فمُتوهِّما ذاك الذي يعتقد أنه حر، لأن الحرية حسب سبينوزا لا تقوم في قرار حر، بل في ضرورة حرة. وهذا البعد من شأنه أن يبعدنا عن الجانب التطبيقي واليومي المعاش الذي سطرناه لهذه المقالة، لأننا نعتقد أن الحرية المجسدة في فكر الإنسان وأفعاله وسلوكه، ليست نتاج قوانين الكون فحسب، وإنما نتاج قوانين الجماعة وقوانين الفكر الرمزي. هناك تداخل يصل إلى حد التطابق بين قوانين الجماعة وقوانين الفكر الرمزي. فكل جماعة تتكون من عدة أشخاص يشتركون في طريقة التفكير واللباس والأكل والعادات والتقاليد. وهذا المشترك بين الناس، تحكمه وتؤسس له قوانين رمزية، تستمد بدورها مصداقيتها وجذورها من عدة مكونات تتمثل في اللغة، والماضي المشترك، والمخيال، والدين، والفكر الأسطوري. وهذه القوانين تصدر في إطار سياقات متعددة ولا عقلية في معظمها، لأنها تخاطب المجال الوجداني والعاطفي في الإنسان الذي يتبناها، ومن ثمة فهي تنتج مجموعة من المبادئ والقيم تكون كابحة ومعيقة للحرية. لقد قامت العلوم الإنسانية المعاصرة بكل تخصصاتها ( علم التاريخ، إثنولوجيا، أنثروبولوجيا، سوسيولوجيا، علم النفس الخ) بدراسة هذه المبادئ والقيم وأضحى في متناول الباحث المتخصص معرفة وتفسير الكيفية التي ترسخت بها داخل المجتمع.إن الحرية حق من حقوق الإنسان الطبيعية، وهذا الحق، الذي يتمثل في منح الإنسان كامل الحرية في فعل أي شيء بما في ذلك جرح وقتل الآخرين إذا كان ذلك ضروريا، عرف تطورا مهما مع مرور الزمن، حيث اصطدم بواقع ضرورة التعايش والتساكن وضرورة احترام الآخرين في ممارسة حريتهم؛ لذلك وتفاديا للاصطدام والتضارب بين الحرية الشخصية والجماعية، وجب تنظيم الحرية. لا شك في أن الإحساس بالحرية مهم جدا، وأهميتها تكمن في كونها مصدرا للاطمئنان والإلهام والإبداع، لكن تنظيمها ليس أقل أهمية وقيمة، سواء اعتبرنا الحرية في بعدها السلبي، في ارتباطها بمدى مساحة الأشياء التي يمكن للفرد أن يفعلها بدون أن يسجن أو يعاقب حتى، أو في بعدها الإيجابي الذي يتمثل في كون الإنسان حرا عندما يكون سيد ذاته. إن الحرية شرط ضروري للمسؤولية، بمعنى أن كل فعل يقوم به الإنسان بإرادته واختياره فهو مسؤول عنه، عكس الإنسان الذي يقوم بأفعاله تحت الضغط والإكراه فهو يعتبر غير مسؤول عنه. فالأب مثلا يكون مسؤولا عن تربية أبنائه مسؤولية مباشرة، اعتبارا لكون التربية التي لقنهم إياها والمبادئ والقيم التي رسخها في ذهنهم، كانت بإرادته واختياره، ومن ثمة فهو يتحمل وحده نتيجة هذا الاختيار والإرادة، في حين أن مساهمة بعض المصادر الأخرى في تربية الأبناء، مثل العائلة والوسط المحيط والمدرسة، هي خارجة عن إرادته وبالتالي فهو غير مسؤول عنها، لذلك يعتبر الباحثون في الفكر السياسي أن تفشي الأمية لعدم توفر المدارس هي مسؤولية الدولة وليس مسؤولية الآباء. هذه المسؤولية الشخصية لا تفضي إلى نتائج ذات شأن على مستوى الحياة العامة، بالقدر الذي تؤدي إليه مسؤولية تسيير الشأن العام؛ ذلك أن هذه الأخيرة تترتب عنها، في حالة الإخلال بها، مضاعفات تهم إما المؤسسة المعنية بتلك المسؤولية، أو المجتمع برمته، لذا تكتسي المسؤولية العامة أهمية قسوى في الفكر السياسي الحديث والمعاصر، لأنها سواء حصلت بالتعيين أو بالتمثيلية، فإنها تمارس عن طواعية واختيار، ومن تم يجب أن تكون مشروطة بالمساءلة والمحاسبة وسلب الحرية فيما لو تم الوقوف على استرخاصها والاستهثار بها. وإذا كانت المسؤولية يجب أن تكون كذلك، فعن ماذا يجب أن نحاسب المسؤول؟ أو بعبارة أخرى ما هو دور المسؤول؟. إن دوره يكمن بالأساس في الانكباب والسهر على تسيير مجموعة من المصالح ذات خصائص ووظائف متعددة ومتداخلة، وتدبيرها بالطريقة التي تفضي إلى تحقيق الهدف التي من أجله أُنشئت. ومجموع هذه المصالح هو ما نطلق عليه المؤسسة، وهدفها بطبيعة الحال هو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع أو الوطن. واضح أن مجال حديثنا هنا هو المؤسسة العمومية، التي يمكن أن يكون لها طابع سياسي مثل مؤسسة مجلس النواب، أو طابع اقتصادي مثل مؤسسة المكتب الشريف للفوسفاط، أو طابع اجتماعي مثل الدور التي تضطلع به المؤسسات الصحية الخ.وغني عن البيان القول أنه لتوضيح المسؤولية وتحديدها، يجب الفصل بين المصالح داخل المؤسسة الواحدة وبين مؤسسة وأخرى.إن الدولة المعاصرة التي استطاعت أن تقاوم العواصف والتقلبات السياسية، وتتأقلم مع متطلبات التطور المجتمعي، وتعيش حالة استقرار شبه دائم، هي الدولة التي تُصان فيها الحقوق ويُحترم فيها القانون، وتعتمد على المؤسسات؛ لأن الحرية تعتبر أسمى حق من حقوق الإنسان، والقانون هو الذي ينظم هذه الحرية، ويحدد المسؤوليات داخل وبين المؤسسات.وهذه الأسس والمبادئ هي التي يجب في نظرنا أن تتبناها مرحلة ما بعد الثورة وتتضمنها كمقدمات لاستقرار الوطن، ونعيم أفراد الشعب بقيم المواطنة، وتحكٌمهم في آليات مصدر السيادة. ومرحلة ما بعد الثورة هذه هي ما كان جل المراقبين يتكهنون باحتضان مصر لفلسفتها، لما لها من مؤهلات تاريخية وسياسية تجعلها تتبوأ هذه المكانة. فمصر كانت سباقة للحصول على استقلالها بالمقارنة مع باقي الدول العربية، وشهدت عدة ثورات وتجارب سياسية، وتتوفر على هيكلة متينة من المجتمع المدني، أحزابا سياسية كانت أو نقابات أوجمعيات مهنية وثقافية، وكانت مسرحا لما أضحى يصطلح عليه بالنهضة العربية الثانية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بحكم أنها كانت تشكل الثقل والنقطة المركزية للإنتاج الفكري والسياسي والحضاري الحداثي العربي والثوري القومي، مما أهلها لاكتساب تراكم في هذه المجالات. لكن عجلة التاريخ التي لا تتقن إلا السير إلى الأمام، غيرت المسار الذي كان سيمُرُّ بها من مصر، بفعل الإجهاض الذي طال الثورة الشعبية على نظام مبارك. فالأمور كانت ستكون أحسن لو أن جماعة الإخوان الذين انتخبوا بطريقة نزيهة، بقوا في السلطة المدة التي يجيزها القانون، وتم تأسيس تداول سلمي وديمقراطي على السلطة، والتنصيص على ذلك وصياغته في ديباجة الدستور؛ لأن الفعل الديمقراطي الذي يبيح ممارسة السلطة بواسطة الانتخاب، هو نفسه الذي يمكن السلطة المضادة من ممارسة صلاحياتها النقدية والردعية من خلال الصحافة، والقضاء، وفعاليات المجتمع المدني، والاحتجاجات والاعتصامات في الشارع العام، إذا ما كانت هناك تجاوزات. أُُسست جماعة الإخوان المسلمين كأول حزب سياسي سلفي يتبنى المرجعية الإسلامية منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، وقد عرفت أجهزة الحزب وتنظيماته قرارات المنع والحذر منذ الخمسينيات من نفس القرن، كما طالت الاغتيالات والتصفيات الكثير من زعمائه ورموزه، نظرا لتوجهات الحزب الراديكالية المعارضة للسلطة القائمة آنذاك. إضافة إلى كل ذلك، ساهمت سياسات التهميش والإقصاء والفقر التي عرفها شعب مصر نتيجة فشل وعدم نجاعة التجارب الاشتراكية والليبيرالية في هذه الفترة، في جعل أفكار الجماعة وتنظيماتها تتجذر وتتغلغل في الأوساط الشعبية، وساد الاعتقاد بأن الإسلام هو الحل؛ ومن ثمة كان متوقعا ومشروعا أن يفوز الحزب الإسلامي في الانتخابات، مثلما يمكن أن يكون متوقعا كذلك أن يخسروا في الانتخابات الموالية، في حالة ما لم يف برنامجهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي بما كان يطمح إليه الشعب، ويخضعوا بدورهم لضرورة تسليم زمام الأمور إلى غيرهم وهكذا. لقد فوت آل فرعون، على أنفسهم، فرصة لقائهم بالتاريخ، وضيعوا فرصة وضع القاطرة في مسارها الصحيح، على سبيل تأسيس مقدمات وركائز الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والحيوية والدينامية الاجتماعية، واستثمارها استثمارا منتجا وتراكميا، وهو ما يرجح كون ملاحظة ابن خلدون، الذي عمر في القرن الرابع عشر، بخصوص بُعد العرب عن سياسة الملك والعمران، مازالت قائمة ولم ينل منها الزمن حيث يقول في مقدمته، الفصل الثامن والعشرون " في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعُب انقياد بعضهم لبعض". 1- طبيب جراح باحث.