إن المتابع لمجريات الأمور في الساحة الدولية والعربية، يلاحظ صعودات للحركات السلفية الجهادية، ليس "داعش" سوى إحدى أوجهها الكبرى. ولعل الاسئلة التي تطرح في هذا السياق: كيف تستطيع هذه الحركات أن تقنع الشباب بالالتحاق بصفوفها؟ ولما فئة الشباب تحديدا؟ وماهي الاسباب العميقة التي تفاعلت لتجعل من المغرب مهددا في أمنه واستقراره؟ في المحاولة للاجابة عن هذه الاسئلة، وغيرها، يمكن أن نشير أن المغرب عرف بدوره، بوادر تسلسل الفكر "الجهادي" لعقول ونفوس فئة من الشباب المغربي، عبر وسائل متعددة ومتنوعة ومتداخلة ومعقدة في الآن نفسه. وذلك لحيثيات سوسيوتاريخية مركبة ومعقدة في الان نفسه. والتي يمكن بسطها بالحديث عن مكانة المغرب في العالم العربي والاسلامي، والتي تتميز بتجربة دينية دولتية ضاربة في التاريخ. ولعل أهم مكون في هذه التجربة، هو الحضور الديني وطبيعة الشرعية الدينية التي تتمتع بها السلطة الحاكمة. لكن مع وجود تحولات في المشهد الديني في العالم، وفي المغرب تحديدا، خصوصا ما تعلق الأمر ببروز حركات الاسلام السياسي. والتي عملت على الاتكاء بدورها على المشروعية الدينية لاستقطاب الشباب. وقد تمكنت هذه الحركات من ترسيخ بعض من قناعاتها في الرأي العام، خصوصا في فئة الشباب المتعلم. إلا أن هذه الحركات (حركة التوحيد والاصلاح، العدل والاحسان، حركة التبليغ)، بدأت تفقد بعضا من بريقها، بسبب عوامل، منها ما هو سياسي، كدخول حركة التوحيد والاصلاح في دعم حزب العدالة والتنمية، وانطواء جماعة العدل والاحسان، على نفسها، واتخاذها التصوف كطريقة في السلوك والممارسة. و"جمود" جماعة الدعوة والتبليغ على آلياتها التقليدية في الدعوة والوعظ والارشاد. كل هذه العوامل، دفعت الشباب المغربي إلى البحث عن جماعة أو تنظيم، يكون له وضوح في الخطاب، وهو ما وجده متمثلا في تيارات الحركات السلفية. وقد كان العامل الأهم في هذا البروز، انتشار دور القرآن في أنحاء المغرب، كوسائط تنشئوية جديدة تقوم على تأطير الشباب –ليس بتعاليم الاسلام وتحفيظ القرآن الكريم- لكن أساسا بإعطائهم نظرة مخالفة كليا لطبيعة المغاربة ولتقافتهم ولتدينهم، وهنا يمكن الحديث عن مظاهر اللباس والزي واللحية وطريقة ممارسة الطقوس الدينية والنظرة للآخر. ومن بين الأفكار الخطيرة التي بدأ يروجها هذا التيار، هو فكرة التكفير والولاء والبراء وتحكيم الشريعة في قوانين الدولة، والهجوم العنيف على كل مظاهر التحديث والحداثة التي بدأت تتفاعل في التجربة المغربية. وكما يعلم الجميع، مع وقوع الأحداث الإرهابية في الدارالبيضاء من العام 2003، قام الفاعل الرسمي، ممثلا في مؤسسة إمارة المؤمنين، بالاعلان عن خطة أو رؤية شمولية للحد من الظاهرة. ولتقريب القارئ من بعض توجهات هذه الخطة، يمكن أن نشير بعجالة إلى ثلاثة مداخل أساسية، تستند على خلفية فلسفية وتصورية، تعتبر أن انتعاش الارهاب والأفكار الجهادية والمتطرفة، مرتبط بشكل أساس بالهشاشة السوسيواقتصادية والسوسيوثقافية، وهكذا كان الاعتماد على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وخطة إصلاح الحقل الديني، والاستمرار في مسار الاصلاح الديمقراطي. وحيث أننا لن نتوقف عند مستوى تتبع آثار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أو حتى إلى مدخل الإصلاح الديمقراطي، فإننا سنكتفي برصد بعض المؤشرات الخاصة بخطة إصلاح الحقل الديني. لا جدال في أن المغرب عرف لأول مرة في تاريخه، مسارا جديدا لاصلاح الحقل الديني، لا يقطع مع تركة الماضي(عهد الحسن الثاني،)، لكنه يستحضر حجم التحديات التي باتت مطروحة عليه، وقد تجسد ذلك، في تعبئة مجموعة من الموارد المالية والبشرية والكفاءات الشابة، والتي تتمتع بتكوين عال (أغلب رؤساء المجالس العلمية، يحملون شهادة الدكتوراه). ويمكن اعتبار التجديد الذي طال هذا الحقل، هو مأسسة الاعلام الديني، عبر قناة فضائية، وأخرى إذاعية (بدأت تستقطب نسبا هامة من الاستماع)، وذلك في ظل الاختراق القوي الذي قام به في السابق، الاعلام الديني المشرقي، ممثلا برموزه المتنوعة والمختلفة الاتجاهات والمشارب والرؤى. وقد كان الفاعل الرسمي واعيا بحجم التداعيات والتحولات التي طالت المشهد الديني، عندما اعتبر في إحدى خطبه التوجيهية (تطوان،2008) أننا نعيش عصر "ضياع المرجعيات" وأن الفئة التي تستحق كل عناية وجهود الاصلاح الديني وفاعليه المباشرين، هي فئة الشباب. لكن ما يمكن إثارته في هذا السياق، هو أن مجموع تلك المجهودات والمبادرات، بدأت تؤتي أكلها في تأطير المجتمع، وتقديم رؤية دينية وسطية معتدلة متسمة بالتسامح وبروح التجديد. وهنا يمكن الاشارة إلى مؤشر دال ومهم، وهو ارتفاع نسبة الاستماع لقناة محمد السادس للقرآن الكريم، وبشكل أقل لنسب المشاهدة للقناة نفسها. وهو ما يؤكد أن هذه الخطط والاستراتيجيات ستنعكس ايجابا على تدين المغاربة، هذا بالرغم من تسجيلنا لبعض التحفظات، والتي تأتي من طرف الباحثين المغاربة، والذين يقعون في نوع من الاستعجال في إصدار أحاكمهم وتعميم بعض المعطيات الاحصائية الخاصة. إلا أنه بالرغم من كل ما سبق ذكره من معطيات وأفكار، فإن حجم التحدي لا زال مطروحا، خصوصا في الأونة الأخيرة، التي بدأت فيه الحركات الجهادية السلفية، تتفنن في استغلال الوسائل التكنولوجية الحديثة من أنترنيت وهواتف ذكية وشبكات اجتماعية كبيرة ومتعددة (تستعمل هذه الحركات ما يزيد عن 100 ألف موقع إلكتروني)، والتي تقدم خطابا سطحيا لكنه يجد قبوله عند الشباب –خصوصا الذين يعانون بعض مظاهر الهشاشة- حيث يتم اغراؤهم عبر استخدام خطابين خطيرين: الأول، هو الخطاب الديني، حيث لا شيء يعلو فوق "الشهادة" و"الجهاد" والاستشهاد". ونحن نعلم أن هذا الخطاب قد يؤدي إلى استمالة نفوس الشباب المتعطش للمغامرة والبحث عن عوالم استيهامية حتى. وهذا ما يدفع القائمين على الشأن الديني إلى مزيد من توجيه وتأطير هذه الفئة التي تعاني من ضعف معرفي ديني كبير. أما الخطاب الثاني، -والذي لا يلتفت له الكثير من الباحثين-، فهو خطاب الاغراء المادي، عبر تصوير عالم "الجهاد" بأنه الزواج بأكثر من امرأة، والتوفر على سيارات، ومنازل فخمة واموال كثيرة، وهذا بالفعل ما يقع، إذا علمنا أن "داعش" تحصل أموالا طائلة من جراء سيطرتها على مصادر النفط في المناطق التي تعرف اليوم توترات وصراعات مسلحة، كالعراق، وسوريا، وليبيا، وحتى في اليمن. ختاما، لا يمكننا أن ندعي أننا أتينا على كل عناصر الإجابات الممكنة، لفهم جزء من الخرائط الذهنية الداخلية، التي لا زالت تعتمل و تغذي فكر الارهاب و"الجهاد" والتكفير، لكننا بالمقابل، حاولنا أن نثير مجموعة من التساؤلات علها تستثير الباحثين والمهتمين، للنبش في هذه الإشكالية التي ستستمر في الانتشار في ظل أجواء إقليمية جد متوترة وفي ظل عجز المنتظم الدولي في محاربة حقيقية لهذه التيارات، ليس بالمواجهة المسلحة، ولكن بتمكين المجتمعات العربية والاسلامية من حريتها ومن ديمقراطيتها ومن العيش في كرامة. (لأنه كما يعرف المتخصصون، أن التدخل الأمريكي في العراق، كان من بين أسباب انتشار الفكر الجهادي). وأيضا، لا زال الكثير من العمل ينتظر المؤسسات الدينية المغربية،-رغم كل المجهودات الجبارة التي أنجزت في الآونة الأخيرة- من ملء الفراغ المهول الحاصل في عملية التنشئة الدينية لفئة الشباب، مما يدفعها للارتماء في أحضان شبكات الارهاب الدولي، وليس ترحيل الشباب والشابات "مؤخرا" و القاصرين أو غيرهم إلى سوريا أو إلى ليبيا أو غيرها، سوى نموذج مصغر لما ندعيه.