هذه انطباعات نسبية، قد لا تصدق كلها، أو لا تكون دقيقة تماما، كما أنها لا تعني جميع الأمازيغ، بل طوائف منهم فقط، ولا تعني تاريخهم كله، بل أجزاء منه. وهي شكل من الكتابة معروف عالميا وتاريخيا.. فهي ليست كتابة أكاديمية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، لكنها أفكار أولية، أو خواطر فكرية. ودراسات خصائص الشعوب علم معروف، المقصود منه التعرف على طبائع الشعوب، إذ توجد طبائع مشتركة، وتوجد طبائع مختلفة. لكنه علم نسبي جدا يصيب ويخطئ. التأمل الأول: الأمازيغ أنواع الأمازيغ تاريخيا نوعان: نوع عنيد يسكن الجبال، ويحْذر من الأجنبي، ولا يتعلم منه إلا إذا اقتنع بشدة، ويحرص على استقلاله في كل شيء.. وهو يفتقد لشيء من المرونة والتكيف لدرجة العناد غير المفيد أحيانا.. ونوع مرن سكن السهول، "يرحب" بالأجنبي، ربما مضطرا، فهو يتعامل معه ويندمج في حضارته. هو براغماتي واقعي، بل ربما كان مصلحيا أكثر من اللازم، فهو يعلي مصلحته المباشرة على اعتبارات كثيرة. ولا يعني هذا أن النوع الأول أفضل ولا أن الثاني أفضل.. التأمل الثاني: الأمازيغ والإسلام لعل الأمازيغ من أفضل الشعوب التي خدمت الإسلام وأخلصت له. رفض الأمازيغ بشدة الديانتين اليهودية والمسيحية، وقاوموا الرومان مدة سبعة قرون مقاومة شديدة، وإن تعاونوا معهم في بعض الفترات.. لكنهم رفضوا الرومان والبيزنطيين والوندال ورفضوا أديانهم ولغاتهم وحضارتهم.. وحين جاء الإسلام أسلم الأمازيغ وصدقوا في إسلامهم، وكوّنوا من أنفسهم بعض أفضل جند الإسلام في الأرض، وحملوا هذا الدين إلى أوربا فجاوزوا به إسبانيا حتى بلغوا به حوض باريس وغرب سويسرا.. وكان مخططهم فتح إيطاليا.. ثم حملوا هذا الدين مرة أخرى إلى أعماق الصحراء وأدغال إفريقيا حتى بلغوا به السينغال وغيرها.. بل جاوزوها. كان إخلاص الأمازيغ للإسلام عميقا وحماستهم له كبيرة، لولاهم لسقطت الأندلس من زمان، فقد كان ملوكهم يجوزون البحر في كل مرة لإنقاذ الأندلس.. في إحدى معارك المرابطين ضد نصارى الأندلس مات في معركة واحدة ثمانون من وجهاء المرابطين وكبارهم. الذي يشبه دور الأمازيغ في تاريخنا هم: الأتراك. فالأمازيغ هم أتراك الغرب الإسلامي، أو قل: الأتراك هم أمازيغ الشرق الإسلامي.. ومن عجيب "المصادفات" أنه في الوقت الذي بدأ شأن الأمازيغ يضعف في الغرب الإسلامي، صعد نجم الأتراك في شرقه. رحم الله ملوك الأمازيغ العظام - كعبد المومن وابن تاشفين- وعلماءهم الكبار وشهداءهم الأبرار ونساءهم اللاواتي أنجبن هؤلاء الأبطال وربّينهم .. رحمهم الله في كل عصر وزمان. ورحم الله عبد الكريم الخطابي: آخر هذه السلسلة العظيمة.. وليس أخيرها بإذن الله. التأمل الثالث: من "عيوب" الأمازيغ على كثرة مزايا الأمازيغ في التاريخ، والتي أشرت لبعضها في التأمل الثاني.. إلاّ أن فيهم "عيبا" رئيسا.. قد لا يكون كذلك في نظر البعض، لكن أظن، والله أعلم، أنه عيب أو نقص. وهو أن الأمازيغ تاريخيا نادرا ما اعترف بعضهم ببعض، أي نادرا ما يُسوّدون عليهم واحدا أو طرفا منهم.. الأمازيغ عموما لا يسلم بعضهم لبعض بسهولة، بل يشاكس بعضهم على بعض بقوة.. هل هذا أحد أسباب عنف بعض الموحدين، خاصة في بداية ملكهم؟ كنت أظن هذه حالة ريفية، بين أمازيغ شمال المغرب.. حتى قرأت للأستاذ البارز في مجال الأمازيغية محمد شفيق.. فإذا هو يذكر هذه الصفة من صفات الأمازيغ في التاريخ، وأضاف بأن بعض الأسر أو القبائل الأمازيغية اضطرت لكي تسيطر على بعض البلاد إلى انتحال نسب غير أمازيغي. ولا أدري تفسير هذه الظاهرة،. إذ كلمة أمازيغي تعني الحرّ. فربما هذا الارتباط الشديد بالحرية جعل الأمازيغي يأنف من أن يتبع أمازيغيا مثله.. أو لا يرى له مزية عليه توجب أن يسلم له أموره. من الاستثناءات النادرة لهذه القاعدة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي رحمه الله.. هذا الرجل العظيم استطاع أن يجمع تحت قيادته جلّ القبائل الأمازيغية.. وحتى بعض المعرّبة أو العربية في المنطقة. لا أدري كيف نجح في ذلك.. لكن عُدّ هذا من أبرز إنجازاته والتي لولاها ما نجح في حركته التحريرية. في التأمل الثاني عقدتُ مقارنة مع الأتراك. الأتراك هنا يختلفون، فهم يميلون إلى الاتحاد وترئيس أحدهم بسهولة أكثر. والله أعلم.. الكمال لله. التأمل الرابع: الأمازيغ والتصوف توجد علاقة ثابتة، في رأيي والله أعلم، بين الأمازيغ والتصوف.. لكنها علاقة بحاجة لدراسة. الأمازيغي تاريخيا معروف بشدته وبأسه.. حتى إن أمازيغ معناه الحرّ. لكن وراء هذه الشخصية الصلبة توجد روح شفافة ونفس قادرة على الارتقاء بعيدا في السماء. لذلك احتضنت البيئة الأمازيغية إحدى أكثر مدارس التصوف الإسلامي انتشارا وعمقا وأهمية. يكفي أن نعرف أن نصف رواد التصوف وأئمته الكبار في العالم كانوا من الغرب الإسلامي، أو الشمال إفريقي. أبو مدين الذي يقال له شيخ الشيوخ كان أشقر أزرق العينين. أبو يعزى لم يكن يعرف من العربية شيئا.. حتى الصوفية المغاربيون المنتمون إلى آل البيت (عبد السلام بن مشيش العلمي والشاذلي والبدوي والقنائي وأحمد بن إدريس...) كانوا أمازيغا أيضا، إما من أمهاتهم أو من ثقافتهم، إذ كثير منهم كان يتحدث بالأمازيغية.. ترى ما سرّ هذا الميل الأمازيغي إلى التصوف عبر تاريخ يفوق الاثني عشر قرنا؟ التأمل الخامس: المثقف الأمازيغي قديما. تاريخيا المثقف الأمازيغي لم يكتب بالأمازيغية: كتب بالبونية، ثم باللاتينية، ثم بالعربية والفرنسية.. هذا وضع تاريخي عام لم يشذ عنه أحد، وإن كتب بعض العلماء كتبا أمازيغية بالحرف العربي، خاصة بمنطقة سوس، وكانت نوعا من تبسيط المادة العلمية للجمهور.. لكن الإنتاج الرئيس للمثقف الأمازيغي كان بغير لغته الأم. القديس أغسطين كتب باللاتينية، وأبدع، لكن في إطار الثقافة الرومانية الكاثوليكية.. وفي الإسلام معظم علماء الغرب الإسلامي كانوا أمازيغا، لكنهم كتبوا بالعربية وفي إطار حضارة إسلامية إنسانية عالمية.. شاركت في صنعها عشرات الشعوب والأمم. لذلك فكتاب عبد السلام بن ميس عن الفكر الأمازيغي (مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة) والذي حشد فيه أسماء أمازيغية مبدعة واعتبرها تمثل نوعا من الروح العلمية الأمازيغية.. هذا الكتاب من أساسه خطأ، إذ هو نوع من البحث عن شيء غير موجود.. هو تركيب ذهني معاصر. بالمقابل بعض الأمازيغيين اليوم يتهجمون على أجدادهم، بل بعضهم -كالأستاذ محمد بودهان، والذي بالمناسبة انتقد كتاب ابن ميس- يتهمهم بالخيانة... أي أنهم خانوا ثقافتهم أو حضارتهم. وهذا يفترض وجود حضارة أمازيغية قائمة ومميزة خانها هؤلاء.. وهذا كلام لا يصح، بل هو نوع من إسقاط للظروف الحالية على تواريخ سحيقة لها خصوصياتها وسياقاتها. كلا من ابن ميس وبودهان لم يبذلا محاولة لإدراك التاريخ كما كان، بل هما إيديولوجيان دوغمائيان يقرآن في الماضي ما يريدان وما يحبان.. بعيون القرن 20 و21. فهذه مواقف إيديولوجية تسقط الفلسفة القومية للقرن التاسع عشر على عصور ماضية تتجاوز ألفي سنة. في نظري أحسن من كتب عن المثقف الأمازيغي وطرح أسئلة جوهرية بصدده وحاول أن يفهم هذا المثقف في زمانه وظروفه.. هو عبد الله بونفور، الأستاذ الجامعي بباريس والمهتم بالأمازيغية أيضا.. وذلك في كتابه: De la subjectivité marocaine du présent يعتبر الأمازيغيون المعاصرون أن أجدادهم كانوا مستلبين، وبالتالي يُدينون المثقف الأمازيغي القديم. بينما الحقيقة أن هذا المثقف عمل خيارا محددا، خيارا عقلانيا بحسب ظروف زمانه ومكانه.. لذلك لا يمكن أن نعيب عليه شيئا. التأمل السادس: المثقف الأمازيغي المفقود اليوم. نأتي إلى زمننا هذا. أين المثقف المازيغي وما دوره؟ وهل يوجد مفكرون أمازيغيون؟ الجواب: نعم يوجد مثقفون أمازيغيون يتبنّون الخطاب الأمازيغي، لكن لا يوجد مفكرون أمازيغيون. من الأسماء المشهورة لمثقفي الحركة الأمازيغية: علي صدقي أزايكو، وبوجمعة الهباز، وقاضي قدور، ولحسن بروكسي، ومحمد شفيق، وأحمد بوكوس، وعبد السلام خلفي، وموحا الناجي، ومحمد حنداين، وإبراهيم أخياط، والحسين المجاهد، ومحمد بودهان، ومريم الدمناتي، والحسين وعزي، وأحمد الدغرني، وأحمد أرحموش، ومحمد الشامي، وحسن إد بلقاسم، وأحمد عصيد..الخ، منهم من قضى نحبه، رحمهم الله، ومنهم من ينتظر. هؤلاء وغيرهم، وهم أساسا في حدود الثلاثين رجلا وامرأة، صحفيون أو مناضلون أكثر منهم مفكرين بالمعنى الاصطلاحي لكلمة مفكر.. لذلك تغلب البساطة على كتبهم والمحدودية على أفكارهم، وكل ما يدندنون حوله هو أن الأمازيغية لغة، وأن هوية المغرب وشمال إفريقيا أمازيغية، وأنه من الضروري استعادة هذه الهوية المفقودة.. لذلك فالطابع العام لكتاباتهم صحفي. وأفضلهم و"أعمقهم" هو الأستاذ محمد شفيق حفظه الله. تستطيع أن تفهم هذه البساطة الفكرية للخطاب الأمازيغي إذا قارنتها مثلا بالخطابات اليسارية والقومية والإسلامية بالمغرب: كلها أنتجت قامات فكرية رفيعة: محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وعلال الفاسي، وعبد السلام ياسين، وأحمد الريسوني، وطه عبد الرحمن، وعزيز بلال.. وهنا السؤال: لماذا لم تنتج الحركة الأمازيغية أعلاما فكرية في مستوى هؤلاء.. بل أنتجت خطابا إعلاميا وصحفيا قويا، لكنه بدون عمق فكري أو إيديولوجي؟ في الحقيقة ليس عندي جواب. • باحث في الفكر الإسلامي وأستاذ بجامعة زياد بدولة الإمارات العربية المتحدة