فما السبيل إلى استنبات هذه القيمة في التربة الجامعية . تعيش الجامعة المغربية، كما المدرسة، على إيقاع أزمة مستفحلة، تمس جوانب مختلفة: بيداغوجية وتدبيرية... ترخي بظلالها على المجتمع، فتساهم بدورها في كبح عجلة التطور، وتقف حجر عثرة في وجه كل محاولة لتحديث المجتمع من جهة، والقطع مع أعطابه السويومهنية من جهة ثانية، غير أن الكثير من الباحثين والمهتمين لا ينظرون إلى أزمة الجامعة من زاوية هذا التبسيط، لاعتبار وقوع الجامعة وسط واقع يتجاوز إمكانياتها، بحيث تتجاذبها إكراهات اجتماعية وسوسيوثقافية كثيرة، بعضها موروث وبعضها طارئ. يتحدث الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي عن مغادرة المغرب ضفة التقليد، والحقيقة أنه من المتعذر إيجاد التوصيف السوسيولوجي الدقيق الذي ينسحب على حالة مجمل مجتمعات بلدان الجنوب، هي ليست مجتمعات تقليدية بكل تأكيد، ويكفي النظر إلى مجمل نظم العيش وأشكال التعبير التي أضحت سائدة في كل بلد على حدة، لقد طرأت تحولات كثيرة في هذه المجتمعات، بدأت منذ دخول الاستعمار إليها بدايات القرن الماضي، واستمرت إلى حدود اليوم، تحولات مست الثقافة والسلوك والتمثلات والقيم وأشكال التنظيم... لكنها ليست تحولات جوهرية على أية حال، أقصد أنها ليست بالقوة التي تكفي لإحداث القفزة اللازمة للانتقال إلى ضفة الحداثة. وعموما أستطيع القول أيضا أن تجارب هذه المجتمعات ليست متماثلة، وإيقاع السير فيها ليس واحدا، وقوة المقاومات التي تشدها إلى الماضي ليست واحدة أيضا... بل ولا أرى حرجا في القول أن إيقاع الانتقال ليس واحدا حتى بين الجماعات المنتمية إلى المجتمع الواحد، وأنا لا أقصد هنا الانتماء المجالي والجغرافي تحديدا، ولكني أقصد أشكال الانتماء الأخرى التي تخترق هذا المجال أفقيا وعموديا، مثل الانتماء الطبقي، والسياسي، والمذهبي... وبهذا المعنى يمكن أن تجد من الاختلاف في درجة الانجذاب إلى الماضي بين شخصين يتحدران من أسرة واحدة ما لن تجده بين شخصين متباعدين قرابيا ومجاليا وثقافيا. وهذا الانجذاب متصل بمغيرات كثيرة، أهمها طبعا طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقاها الفرد المغربي، فضلا عن خصوصيات تجربته الحياتية، وهذان أمران موصولان طبعا إلى طبيعة الأثر الذي خلفته فيه المؤسسات الثلاثة: الأسرة والإعلام والمدرسة. مواضيع تمس الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية المغربية عبر الندوات والمناظرات والملتقيات، و المنابر الإعلامية الورقية والسمعية والمرئية والالكترونية. أعتقد أن كل نقاش يريد تشخيص الداء واقتراح الدواء مطلوب بإلحاح واستعجال، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح بالموازاة مع كل نقاش أو بحث في هذا الخصوص، هو سؤال الجدوى. نحن في حاجة إلى وضع تراتبية في سلم المواضيع والسجالات التي ينبغي فتحها والمساهمة في إغنائها. يحضرني في هذه اللحظة بالذات كلام قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش أيام القصف الإسرائيلي على مخيم جنين، وقد سئل عن الحاجة إلى الشعر في هذه اللحظة العصيبة من حياة الفلسطينيين،، يومها قال ما فحواه: الشعر في هذه اللحظة تَرَف. والحقيقة أن شيئا من هذا الكلام ينسحب على كل أمم الجنوب، أقصد أن نقاشات كثيرة ودراسات عديدة تخاض في غير سياقها ووقتها، فتهدر فيها طاقات هائلة لا تعود على هذا المجتمع بأي نفع يذكر، هي مجرد شروحات وتعاليق على شروحات سابقة، وهذه الشروحات الأخيرة بدورها شروحات لمتون ضاعت منا مناسبتها وقرائن حالها، أو صعب وضعها في سياقها بغير تعسف أو لي أعناق. إنها سجالات تسبح في عالم من الكيانات المفاهيمية الوهمية التي لا صلة لها بالواقع. دعني أقول لك كلاما صريحا، أيحتاج المريض الذي يئن من فرط الألم إلى من يكتفي بإسماعه كلاما (أي كلام)، أو يعزف له لحنا. أم يحتاج، استعجالا، إلى من يناوله دواء يذهب عنه الألم. المسألة بالنسبة لمجتمعات مثل مجتمعاتنا شبيهة بحال هذا المريض، نحن نعاني من أعطاب اجتماعية كثيرة يمس لظاها كل أفراد المجتمع، وإن بدرجات متفاوتة. لذلك لا وقت لدينا للخوض في فائض المعنى، إذا جاز هذا التعبير. مساهمات المؤسسات الجامعية ومعاهد البحث في الرفع من جودة النقاش الدائر في موضوع تحديث المجتمع؟ أعتقد أن هذا الموضوع يستحق أن ينظر إليه من جانبين اثنين على الأقل، أولهما طبيعة الدور المنوط بالجامعة المغربية في ظل التحولات التي يشهدها العالم منذ سقوط جدار برلين، وشروع مقولات الاصطفاف الإيديولوجي الكلاسيكية في الاضمحلال. وثانيهما ماهية الغايات التي وضعتها الحكومات المتعاقبة نصب عينها في كل عمليات الإصلاح التي مست قطاع التعليم العالي والبحث العلمي. بالنسبة للجانب الأول، أرى أن الجامعة المغربية قد عرفت منذ تأسيسها إلى حدود أواسط تسعينيات القرن الماضي مسيرة حافلة بالصراع والتدافع، وعمليات شد وجذب بين فاعلين ثقافيين كثر، مستقلين، ومنتمين إلى تنظيمات حزبية وغير حزبية. وقد تبلورت في خضم هذا الصراع، قبل وأثناء وبعد، اصطفافات إيديولوجية واضحة المعالم، كان لها الأثر الكبير في اعتناق تصورات ومشاريع بديلة للواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه المغرب، والدفع بالفرد إلى معانقة هموم المجتمع، والانخراط في قضاياه السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد برز في ظل هذه الدينامية الفكرية والسياسية مثقفون ومفكرون مغاربة أفذاذ، يدين لهم الجميع بإسهاماتهم الفكرية العظيمة، هامات فكرية دالة على النبوغ المغربي، قدمت مشاريع فكرية تقوم على نقد الماضي وتفكيك أسس النزوع التراثاني المهيمن على العقول، وتسعى، بعقلانية، إلى التأسيس لفضاء إبستيمي جديد يسمح لمجتمعاتنا بالالتحاق بركب العالم المتقدم. صحيح أن التجربة قد فشلت في تحقيق المراد، لكني لا أرد ذلك إلى مشكلة في مضمون الخطاب الذي أنتجه هؤلاء، أو إلى القيم التي سعوا إلى تكريسها، بل إلى متغيرات سوسيولوجية أخرى ساهمت في كبح عجلة التحديث التي نادى بها مثقفونا العقلانيون، من هذه المتغيرات مثلا ارتفاع نسبة الأمية في المغرب، وتأخر مبادرات تعميم التمدرس، وضعف نسب الالتحاق بالجامعات إلخ..، وهذه أمور تتعلق طبعا بطبيعة السياسة الثقافية والتعليمية التي سنتها الدولة آنذاك، وبتراتبية الأولويات التي تحكمت في خياراتها الإستراتيجية. إذا كان حال الإنتاج الثقافي آنذاك على هذا النحو الذي أبسطه، فكيف هو حاله اليوم؟ وهل يجوز الحديث عن حصول تراكم مطرد في هذا المجال؟ يبدو أن زمان المثقف بالمعنى الذي ساد آنذاك قد ولى، ونحن نعيش فعلا أزمة ثقافة حقيقية، لكنها أزمة تمس العالم بأسره، ولا تخص دول الجنوب فقط، ويمكن أن تستشعر ذلك من خلال خفوت صوت المثقفين في الإعلام، وانتصار صوت "الخبرة" و"الاحتراف"، كما يمكن أن تتلمسه أيضا من خلال الحضور اللافت للتقنوقراط في مجال التدبير السياسي، سواء كفاعلين مباشرين، أم كمستشارين لغيرهم من الفاعلين السياسيين. أما الجانب الثاني، وأعني التصور الحكومي لعمليات الإصلاح، فأرى أنه قد ظل حبيس مقاربة تجزيئية محكومة بمنطق التوازنات الاجتماعية والسياسية، أعني أن الجميع يتحدث عن ربط الجامعة بالمحيط السوسيومهني، وكأنها المشكلة الوحيدة التي تعيش الجامعة المغربية على إيقاعها، لا أحد يسائل الغايات الكبرى التي ينبغي أن تؤطر مشاريع الإصلاح، من قبيل القيم والكفايات الإستراتيجية والثقافية، وأعني غرس قيم: الإبداعية، والمبادرة، والديموقراطية، والمساواة بين الجنسين، وقبول الاختلاف... وقليل فقط ممن يسيرون إلى أبعد من مضامين العروض التكوينية التي توفرها المؤسسات الجامعية، فيضعون الأصبع على مكامن الداء في الجسد التعليمي، ويوصون بمباشرة إصلاح عميق يبدأ بالتعليم الأولي والأساسي، ويضع مؤسسات التكوين المهني في قلب عملية الإصلاح، ويدفع بالجامعة إلى مباشرة مهامها التكوينية انطلاقا من مُدْخلات تتوفر فيها شروط ولوج الجامعة، مما سيسهل عملية البحث والتكوين، وسيمكن البلد من الانتقال إلى المغرب الممكن، حيث يساهم المواطنون جميعا في خلق التنمية الاجتماعية، ويستفيدون، في الآن نفسه، من نتائجها. أزمة الجامعة المغربية أزمة "إبداعية" أقصد بهذه الأزمة ذيوع فكرة التقليد، والتهيب من المجهول والجديد. والاكتفاء بما تتيحه الشروط التاريخية لكل فرد، وهذه حقيقة لا تقبل النقاش، في تقديري. إذ يمكن أن يلاحظ الباحث في شؤون المحتوى الدراسي الذي يتم تلقينه (مع أن المطلوب ليس هو التلقين بل القيام بدور الوساطة بين الطالب والمعرفة) في كثير من المواد المدرسة بالجامعات المغربية وجود حرص شديد على اجترار المعرفة نفسها لسنوات طويلة، قد تصل لعقود، بل وتقديمها بنفس الحلة والشكل والطريقة والترتيب. وهذه معضلة تتنافى مع أبسط شروط التعلم الحديثة، لأنها تلجم جموح الإبداعية في من أوتي منها في سنوات تعليمه المدرسي (وهم قلة طبعا)، وتمنعها عن الذين لم يتح لهم النهل منها قبل دخول الجامعة. بهذا المعنى فأزمة "الإبداعية" ليست طارئة على الجامعة والمجتمع، ولكنها متجذرة في الوعي الجمعي المغربي، مستمسكة بدعامات نظامنا التربوي، الذي لم يقطع بعد مثلا مع الطرائق التقليدية التي يتم اعتمادها إلى حدود اليوم في المدارس العتيقة، في تدريس اللغة العربية والعلوم الشرعية. وهي أزمة ممتدة في الزمان، وعلامة من علامات تخلف المجتمع عن ركب الحضارة. أما بخصوص السبيل إلى تجاوز هذه الأزمة في الجامعة، على الأقل، فأرى أن الطريق إلى ذلك يمر، ضرورة، عبر تعميم شعبة البيداغوجيا وتخصصاتها المختلفة في كل الجامعات المغربية، وإخضاع محتويات التدريس الجامعي لدفتر تحملات منهجي متجدد، مع خلق آليات لتحفيز الأساتذة على تطوير أدائهم المهني، وطرق لتحفيز الأطر المسؤولة عن التسيير الإداري لحثها على مضاعفة الشراكات مع الجامعات الدولية ذات الصيت والإشعاع والجاذبية، للاستفادة من تجاربها في مجال صيغ تقديم عروضها التكوينية. أما السبيل إلى استنباتها في كل المؤسسات الاجتماعية فعملية عويصة ومعقدة، لأن مثل هذا الأمر مرتبط ارتباطا شديدا بتراث فقهي مستمسك بالعقول، ومتحكم في السلوك، يقضي بإعادة إنتاج خطاب "الأزمة" بشكل مستمر، وهذا أمر يتجاوز الجامعة ويفوق إمكانياتها بالنظر إلى ما هو متاح لها في الوقت الراهن. مساهمة الإبداع الأدبي والفني في تمرير قيم "الإبداعية" وغرسها في نفوس الطلبة. من المؤكد أن للأدب وغيره من الفنون والعلوم الإنسانية دورا حاسما في إشاعة القيم الإيجابية على نحو عام، فهذه الأشكال من التعبير والمعرفة لا تكف تسائل الماضي، وتسعى إلى تجاوز أخطائه ومنزلقاته، وهي أيضا لا تكف عن تخليق البحث وأنسنة مُدخلاته ومُخرجاته، وتطيف النقاشات من حَرّ اليقينيات والإجابات القطعية الحاسمة. إن طبيبا غير مطلع على حد أدنى من المعرفة الأنثروبولوجية، وعلى نصيب من الخصوصيات الثقافية التي تميز المجتمع الذي يمارس عمله في رحابه، لن ينجح في مهمته بكل تأكيد، حاله سيكون شبيها بحال طبيب الأطفال الأعزب. وهذا ليس سوى غيض من فيض أمثلة كثيرة يمكن أن أسوقها لبيان حاجة المشتغلين في مجالات العلوم الدقيقة إلى الانفتاح على عالم الأدب والفنون والعلوم الإنسانية. وضعية العرض التكويني في تخصص الآداب والدراسات اللغوية. هذا موضوع شائك بدوره، ويصعب الخوض فيه دون استحضار التجربة الفردية، بمعنى أنه سؤال يكاد يتعذر فيه الحديث الموضوعي. والحقيقة أني أرى أن واقع هذه التخصصات الجامعية ليس على ما يرام، بل وأستطيع القول أن حالها يزيد انحدارا، وأن المناخ العلمي الذي يجري فيه تقديم هذا العرض ينذر بخريف أدبي غائم. دعنا نبدأ أولا من سؤال التوجيه والميولات، فهو سؤال شديد الارتباط بما نتحدث عنه، بل هو عصب الإشكال في عموميته. إن النسبة الغالبة من الطلبة الذين يتوجهون إلى شعب الآداب واللغات والعلوم الإنسانية (منذ بروز بوادر عطالة خريجي هذه الشعب)، هم من فئة التلاميذ الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن اختيار الشعبة العلمية في السنة النهائية من التعليم الإعدادي، أي أنهم كانوا أمام خيار وحيد أوحد، أما زملاؤهم الذين اختاروا شعبة العلوم، فكثير منهم ساقته إغراءات آفاق المحيط السوسيومهني بالدرجة الأولى، أي أن منهم من يملك من الكفايات والميولات ما يسمح له باقتحام عالم الآداب والعلوم الإنسانية بكثير من الرغبة والإقدام والحماس. إنه اختلال بنيوي كبير لا تملك الجامعة أمامه حلا سوى أن تغض الطرف عن موضوع الميولات، والتعامل مع مُدخلاتها بكثير من التعامي عن شبكة التعثرات المعرفية والمنهجية والتوجيهية، والحرص على تقبل معطيات الواقع القاهرة. إلى جانب هذا الاختلال المشار إليه ثمة مشاكل أخرى عويصة تحول دون اضطلاع كليات الآداب بدورها المنوط بها، منها الاكتظاظ، والهدر الجامعي والتكرار، وضعف إيقاع الأنشطة الجامعية الموازية (مسرح، سينما، رسم، رياضة...). وهذه مشاكل يرتهن حلها بمشروع إصلاحي شامل ينظر إلى الجامعة بوصفها مشتلا للتمهير وزرع القيم. صعوبات في استيعاب مضامين الأدب وفروع البلاغة والعروض والنحو القديمة، والعلوم الشرعية. من المؤكد أن الخوض في خبايا الأدب العربي القديم وما يدور في فلكه من علوم ومعارف أمر قائم على صعوبات كثيرة، هو أمر طبيعي في جانب منه، بل ومطلوب في كل معرفة تقدم في رحاب الجامعة، لكنه غير طبيعي من زاوية ثانية، بل وقد يقف أحيانا حجر عثرة أمام تطوير البحث العلمي. دعنا نبدأ بما أراه طبيعيا في المسألة، إن الطالب المغربي الذي اختار متابعة دراسته الجامعية في هذه التخصصات، مطالب بالاطلاع على نصوص أدبية وفكرية يتجاوز زمن إبداعها أحيانا خمسة عشر قرنا، بنفس اللغة التي أبدعت بها عهد ذاك، وهي لغة غير مألوفة وغير متداولة اليوم، لاعتبارات التحول الذي يلازم كل اللغات، ومثل هذه الوضعية-المشكلة لا يتعرض لها الطالب الجامعي الفرنسي الذي يتابع دراسة الأدب الفرنسي مثلا، إذ ليس مطالبا بالاطلاع على الأدب اللاتيني القديم بلغته الأصلية، بل يتناوله مترجما إلى اللغة الفرنسية. هذا منشأ الصعوبة الأول، أما منشأ الصعوبة الثاني، فلربما يأتي من التضخم الاصطلاحي الذي يميز علوم اللغة العربية، وإلى جانبها العلوم الشرعية، وشيوع ثقافة السماع والذاكرة في تحديد التسميات والاصطلاحات. وهو ما يستدعي بذل مجهود فكري كبير في الحفظ والتذكر. لكني أعتقد أنها صعوبات مقدور على تجاوزها بقليل من الجهد والصبر والأناة، والطالب الذي يختار طريق الدراسات العربية مطلوب منه تمثل هذه القيم أولا، مثلما يطلب منه أيضا التمكن من الفضاء اللغوي، والمتخيل الأدبي القديمين. أما الجانب السلبي في المسألة فهو في حرص بعض الأساتذة والدارسين على تحنيط اللغة العربية، ورفض الانفتاح على مستجدات العلوم اللغوية والإنسانية الحديثة، بمبرر عدم الحاجة إليها، أو لأنها نتاج علوم غربية بيننا وبين أصحابها عداء حضاري. وهؤلاء موجودون وإن لم يجاهروا بذلك، ويكفي لاستجلاء هذا النزوع التقليداني تتبع الدراسات والبحوث العلمية التي ينشرها هؤلاء أو يشرفون عليها. مستقبل الدراسات الأدبية واللغوية العربية بالمغرب لا يبشر بالخير. في انتظار التقرير الاستراتيجي للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أن يقدم بعض الإجابات على ما أوردناه من إشكالات واختلالات، لكن في كل الأحوال لا بد من قيام جبهة وطنية تعيد إلى المثقف حظوته ومكانته، ولا مناص من توشيح الآداب والعلوم الإنسانية بالجاذبية المطلوبة، ليس لذاتها، ولكن لفائدتها المعرفية والقيمية العميمة، مثلما يتوجب أيضا التفكير في تأسيس "تجربة جامعية نموذجية" في تخصص الدراسات العربية والإسلامية تقوم على محاورة الموروث المعرفي ونقده نقدا علميا رصينا يكشف هناته، ويوضح مكامن قصوره عن تقديم الإجابات العلمية لمشاكل العصر، وجديد الخطاب، وانشغالات المجتمعات. إني أراه حلا وسطا يسمح للمترددين في دخول تجربة التجديد بتتبع مسار تجربة نموذجية حية، وتقييمها، عوض الاكتفاء بالخوض النظري في الموضوع، طالما أن كل طرف مقتنع برأيه فرح بما لديه.