سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
معتصم: العالم العربي يعيش حراكا سياسيا يفتقر إلى المشروع النقدي وقد ينعطف به في اتجاهات مختلفة أكد أن الوسط الثقافي في المغرب يحتاج إلى مجهود كبير للم شظاياه والخروج من حالة الركود
لا يرى الناقد الأدبي محمد معتصم أن الناقد اليوم يحتاج إلى جرأة ولا إلى أدوات، ولكنه في حاجة إلى رؤية واضحة وإلى مشروع نقدي وعلمي. وأضاف في حوار له مع «المساء» بأن النقد في المغرب أسس مسارا علميا محترما. كما أنه لم ينف وجود ظاهرة النقد الإخواني. وبخصوص مقولة «الناقد كاتب فاشل» قال معتصم إنها مقولة وقائية، لكن هناك من استسهل الكتابة والنقد، مضيفا بأن النقاد لا يواكبون الحراك السياسي الذي يعرفهم العالم العربي. ويعتقد معتصم بأن الناقد اليوم في حاجة إلى رؤية نقدية واضحة ومشروع نقدي علمي حضاري وإنساني، أما المناهج والأدوات النقدية فهي متوفرة أو مطروحة في الكتب والكتب المدرسية والموسوعات العلمية. - هل استطاع النقد الأدبي في المغرب أن يؤسس لنفسه مسارا علميا خاصا به؟ أم أنه لا يزال يسبح في إطار نقد إخواني؟ النمطان معا موجودان في الساحتين الثقافية المغربية والعربية اليوم. أولا، استطاع النقد المغربي خلق مسار علمي خاص به، أخذ ملامحه من حركة المثاقفة بين المغرب وفرنسا إبان النهضة النقدية والفكرية في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، ويمكن القول بأن المغرب كان وقتها مواكبا للحركة الثقافية التقدمية والجديدة في فرنسا. وعندما نلقي نظرة خاطفة على البحوث الجامعية المغربية والكتب النقدية لتلك الفترة نجدها استلهمت القضايا الفكرية واستوحت المفاهيم النقدية وتبنت النظريات النقدية الرائدة في ذلك الحين، وبدأت تتخلص من أثر القضايا النقدية الموروثة عن «النظرية العربية في النقد» مثل قضايا اللفظ والمعنى، والموازنة، والاهتمام بالشعر كجنس أدبي فريد لغة وصورا وبحورا وأوزانا مركبة ومنبسطة. تظهر هذه الطفرة في الاهتمام المتزايد بالنص السردي الذي أولته الدراسات النقدية الجديدة اهتماما خاصا، بعد اكتشاف منجم الدرس اللساني والبنيوية واقتحامهما للأنواع الأدبية... وتتجلى المكانة الأدبية والعلمية للدرس النقدي المغربي في اعتراف العديد من شهادات الكاتبات والكتاب العرب في المشرق، وهي شهادات تتضمن اعترافات صريحة بتمكن الناقد المغربي من اقتحام مجاهل النصوص الإبداعية، وقد سمعت من يميز النقد المغربي بأسلوبه الخاص الذي يجمع بين الدرس الأدبي والعمق الفكري والدقة في التحليل العلمي. ثانيا، نقد الإخوانيات موجود كذلك، وقد أنتجته ظروف اجتماعية وسياسية ملتبسة ومتنوعة، مثل اللقاءات الثقافية الموسمية، واللقاءات غير العلمية التي رسختها بعض الجمعيات الطارئة، وهي في الأصل مجموعات لا جمعيات، ونقد الإخوانيات من ضرورات لقاءات تقديم الكتب وأصحابها إلى جمهور القراءة في محاولة لتعريف الجمهور بالجديد وتقديم دفعة للكاتب حتى يعلن عن نفسه عبر اجتراح أسلوب يخصه ويميزه. ليس كل نقد الإخوانيات مذموما، لكن المذموم منه الذي يقدم للساحة الثقافية أشباه الكتاب والكتب الفارغة من المواقف والقيم، الكتب الخالية من أي رؤية أصيلة مهما كانت غريبة أو مختلفة، الأهم أن تكون أصيلة ومبنية على قواعد ومنطلقات سليمة ورغبة في توسيع دائرة الاهتمام بالأدب المغربي والعربي والعالمي. - هل تظن أن الناقد في المغرب والعالم العربي في حاجة إلى الجرأة وتحمل المسؤولية؟ أم في حاجة إلى أدوات نقدية علمية حديثة تسهم في خلخلة الكثير من التصورات التقليدية للنقد؟ لا يحتاج الناقد اليوم إلى الجرأة ولا إلى الأدوات لأن هذه من الضروريات أو البدهيات. إنه في حاجة إلى رؤية واضحة وإلى مشروع نقدي وعلمي. هناك الكثير من النقاد اليوم يملكون أدوات، وهي متوفرة ويمكن تعلمها، والجامعة المغربية تقدم هذا النوع من الدروس، في شتى المناهج التي يحتاجها الناقد لتحليل النصوص، بل هناك كتب في اللغة الفرنسية والإنجليزية تقدم نظرة ديداكتيكية لمناهج تحليل النصوص المتخيلة (الأدبية/الإبداعية) وغير المتخيلة (المقالات السياسية والمقابلات الصحافية، والإشهار...)، وتقدم المناهج مرفقة بتمارين مع الحلول، ومنها كتاب أقوم بترجمته حاليا تحت عنوان «مناهج تحليل النصوص». ومن المناهج والأدوات التي يقدمها: المستوى التداولي، والمستوى الموضوعاتي، والمستوى الدلالي، والمستوى التركيبي، والمستوى الإيديولوجي... لكن هذه المناهج العلمية (الإنسانية) وأدوات تحليل النصوص المتخيلة وغيرها عندما يمتلكها ناقد (باحث) بدون رؤية واضحة للمجتمع والعالم والذات ولغاية النقد وأهدافه تصبح النصوص والكتب التي ينتجها صاحبها مجرد «إنشاء» فضفاض، وهنا يأتي الحديث عن «المشروع النقدي»، فالرؤية النقدية تقود إلى المشروع لأنها توجه المجهود النقدي نحو أهداف محددة. يعيش العالم العربي اليوم حراكا سياسيا قد ينعطف به في اتجاهات مختلفة، لأنه يفتقر إلى الرؤية النقدية وإلى المشروع النقدي، ويفسر ذلك انطوائية المبدع والناقد، وتراجعهما إلى الخلف تاركين المجال للأحداث تسبقهم وتقودهم حيث تشاء. لذلك أرى أن الناقد اليوم في حاجة إلى رؤية نقدية واضحة ومشروع نقدي علمي حضاري وإنساني، أما المناهج والأدوات النقدية فهي متوفرة أو أنها مطروحة في الكتب والكتب المدرسية والموسوعات العلمية. - كلما تحدثنا عن الناقد تبادر إلى أذهاننا قولهم إن «الناقد كاتب فاشل». في رأيك هل تظن أن الأمر كذلك؟ أم أن ذلك فقط نوع من الأسلحة التي استخدمها الكتاب لاتقاء «شر» الناقد؟ هي عبارة وقائية، لكن يوجد ما يؤكدها في الواقع، هناك من حاول كغيره كتابة الشعر فقدم نماذج بسيطة، مجرد لعب بالألفاظ وتراكيب مسكوكة ومحتويات عاطفية باردة وخالية من العمق الإنساني والجمالي والفكري والقيمي، ولا تجد فيها الصورة المبتدعة، وهم كثر، خاصة في عصرنا الحاضر، الذي سمحت فيه المواقع الإلكترونية والاجتماعية والمدونات بتداول «الكتابة» بيسر وسهولة، أي أن وظيفة الكتابة لم تعد هي ذاتها التي نتحدث عنها ونلبسها تلك الهالة من القدسية. الكتابة اليوم مجرد «تواصل» كلامي وليست «إبداعًا» فنيا في عمومها، لكن الكثيرين يعتقدون أنهم أصبحوا كتابا حقيقيين، وهم لم يقدموا آثارا باقية مؤثرة وفيها إبداع ورؤية تحليلية ونقدية للمرحلة التي نعيشها. هؤلاء هم الذين استسهلوا النقد وكتبوا فيه من منطلق أن النقد هو تقديم ملاحظات عامة أو تجريب بعض الأدوات أو بعض المناهج على النصوص أو إنشاء مقالات صحافية تستهلك في حينها أو تهمل غالبا. يكذب الواقع هذه «المقولة» لأن هناك نقادا كتبوا في الشعر والرواية والقصة القصيرة وأجادوا وتفوقوا على كثير ممن يحسبون على الإبداع. لذلك أقول إن النقد إبداع وفكر وتجربة مركبة من الحياة والثقافة، وأن الإبداع تجربة مركبة من الفكر واللغة والذات والحياة، والناقد الحق والمبدع الحق من يترك أثرا في المتلقي ويسهم في توسيع دائرة مجال كتابته. الرغبة لا تكفي؛ أي لا يمكنها أن تنشئ ناقدا أو مبدعا، إذ هما يحتاجان إلى الموهبة (الاستعداد الذاتي والفكري والنفسي) للانخراط في التجربة «بصوفية» وإخلاص وتفان حتى يكتسب الناقد رؤيته الخاصة والمبدع أسلوبه ولغته الخاصة. فكرة «التطهير» هذه متجاوزة في عصرنا الحديث الذي يشهد تداخلا بين الأنواع الأدبية، من الممكن أن يكون الناقد مبدعا ناجحا، كما يمكن للمبدع أن يكون ناقدا ناجحا وفق الشروط التي ذكرناها أعلاه. - كثير من الكتاب، بل دور النشر كانت تستخدم «جوقة» من النقاد من أجل الترويج وصنع الأسماء. كيف تناقش هذه «الظاهرة»؟ المهم في هذا السؤال من حيث الأولوية هو لفت الانتباه إلى دور «دور النشر» في بناء تصور مشاريع ثقافية آنية (قصيرة المدى) تعالج مشاكل النشر وصناعة الكتاب وصناعة الأفكار الجديدة وتوجيهها نحو القضايا الراهنة والحساسة والأساسية، وتساهم في تنشيط الحياة الثقافية والوقوف إلى جانب الوزارة الوصية على القطاع لا كمستفيد يبحث عن تحقيق مكاسب خاصة ومحدودة تعود على دار النشر وصاحبها كبيع الكتب والحصول على دعم مالي أو آخر على منشوراتها والحصول على امتيازات صغيرة تخص المعارض الدولية والمحلية ومعرض الكتاب الدولي بالدار البيضاء، بل كمساهم في وضع البرامج والتصورات واقتراح خطط جديدة للعمل تسهم في حل قضايا كبرى، وهو ما يندرج ضمن المشاريع الكبرى؛ المستقبلية (بعيدة المدى) كأزمة القراءة والعزوف عنها والانخراط في خلق فضاءات جديدة للقراءة توافق اهتمامات وقدرات القارئ الجديد، الذي يعاصر الثورة التقنية بأدواتها الجديدة، التي لا شك تؤثر كثيرا في طرائق الحصول على المعرفة، وأقصد العمل على تشجيع نشر الكتب الإلكترونية وتطوير وتفعيل القوانين الخاصة بحماية حقوق المؤلِّف والمؤلَّف والناشر، والتخلص من خطاب الأزمة والتشكي والانتظارية... ليس عيبا اعتماد دور النشر على نقاد للتعريف بمنشوراتها، واختيار الكتب المعروضة للنشر، لأن صاحب دار النشر قد لا تكون له أي علاقة بالثقافة كمحتوى، بل هو صاحب رأسمال يستثمر في الكتاب، أو أنه مجرد تاجر يبيع الكتب. إن الكتاب اليوم صناعة حقيقية، ومشروع ضخم يحرك آليات مالية واقتصادية وفئات اجتماعية (عمال طباعة وتوزيع وعرض، صحافيون محررون ومصححون ونقاد وفنانون ومصممون فنيون...). صناعة الكتاب اليوم مؤسسة ضخمة لم تعد تقبل بالحلول الفجائية والارتجالية، وهذا ما يعاب على دور النشر، فهي لا تختلف عن كثير من المؤسسات التقليدية تعمل كملكية خاصة (محل بقالة في حي شعبي مثلا) تختار نقادا ممن يقترحون عليها باسم الصداقة أو العلاقات القريبة، والأخطر غياب رؤية واضحة لطبيعة العمل الذي تقوم به ثقافيا وحضاريا واقتصاديا. من الضروري اعتماد دور النشر على نقاد لقراءة الأعمال المقترحة عليها للنشر وللتعريف بمنشوراتها حتى تصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء، بل تكون مطالبة بتنظيم ندوات ولقاءات ثقافية ومقابلات وحوارات صحافية وتلفزيونية لأنها تشارك في بناء وعي القارئ وتثقيفه، وللناقد المثقف والواعي دور محوري في العملية. - بناء على ذلك ما المواصفات التي يجب توفرها في الناقد النزيه، الذي يتحول إلى مؤسسة تبني عوض أن تكون معولا يهدم أو بوقا لا يدرك ما يفعل؟ لا يمكنني الحديث في المغرب أو البلاد العربية عن «مؤسسة نقدية» لأن شروطها غير متوفرة، وهي شروط «البحث العلمي». وأنا أرى النقد بحثا علميا يحتاج إلى كثير من الجهد وإلى كثير من الفاعلين، لذلك أكتفي بما قلته سلفا: امتلاك الناقد رؤية واضحة للمحيط الذي يوجد فيه، امتلاك الموهبة والقدرة والكفاية على الإنصات إلى النصوص الإبداعية، امتلاك خبرة وتجربة في ممارسة الاشتغال اليومي على النصوص الإبداعية، خاصة المميزة، والتي يبدع فيها أصحابها رؤاهم الشخصية، امتلاك غيرة على لغته وفكرته وأسلوبه دون تعصب و»أصولية» مفرطة لا تقبل الرأي الآخر العلمي، الهادف والمتفاعل إيجابا أو سلبا. لا أقصد السباب والهدم والتسفيه، امتلاك رؤية واضحة يقود إلى امتلاك مشروع للاشتغال، تتم تنميته وتطوير أفكاره حسب مستجدات العصر والمرحلة، امتلاك أسلوب خاص في التحليل، أسلوب شخصي يحمل بصمة صاحبه.... لا يمكن قطع أرزاق الناس، لذلك سيبقى دائما هناك نقاد الإخوانيات ونقاد المناسبات. وإذا كان من الواجب تحفيز النقاد الجادين ومساندتهم في عزلتهم التي تضيق حولهم الآن، فلا يمكن التخلص نهائيا من الأشباه لأن المرحلة تتطلب ذلك، فكثرة قنوات التواصل، اليوم، تشبه فكرة تعميم التعليم دون جودة، في غياب البنيات والقواعد والأسس الصلبة، وفي غياب انفتاح الآفاق والضمانات على الجهود، وستقود هي بدورها إلى ظهور دعوة «هدر النقاد والمبدعين» لأن المعيار في المرحلة هو الكثرة لا الجودة. - منذ زمان وأنت تشتغل على المتن المغربي، وخاصة السردي منه، فما هي الخلاصات التي استنتجتها؟ وهل ترى أنه لا يزال فيه من القوة التي تجعله مستقبلا يؤسس خاصيته المغربية ذات البعد الإنساني كما هو الحال مثلا مع أدب أمريكا اللاتينية؟ مشكلة الأدب المغربي اليوم متعددة. أولا هناك كتاب بميزة الكاتب العالمي، الذي يمتاز أدبه بالعمق الإنساني، وكثير منهم مات وبعضهم سكت مضطرا أو بحكم السن أو بحكم العزلة المضروبة عليه إعلاميا، وبعضهم نادر يقاوم، كسمكة في بركة ماء محدودة الأفق. ثانيا، هناك تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية مالية سريعة جدا، ومن الصعب التحكم فيها لأنها تحتاج إلى المبدع «الرائي» الذي يستطيع النفاذ إلى عمق التحولات وفلسفاتها. الرائي ليس بمعنى المستقبل، بل تحليل الوضع الراهن. نحتاج إلى المبدع الذي يستطيع القبض على هذه التحولات، لكن الأهم أن يكون قادرا على خلق أسلوب أدبي يقول التحولات جماليا، نحتاج إلى مبدع قادر على تحويل الوضع الراهن إلى «معادلة رياضية» تروى أدبيا، وهناك من استطاع ذلك فعلا وكتبت رأيي في تجربته، لكن للأسف توقفت التجربة في نقطة معينة لتصبح عنده «كتابة» تصارع من أجل الحفاظ على صفة «كاتب». ليس من طبعي التشاؤم، لذلك أقول إن هناك فعلا تجربة إبداعية مغربية تستحق الانتباه والدعم والتشجيع، حتى تستطيع الاستمرار ومقاومة الكتابات البسيطة التي تجاري المرحلة ولا تقاومها. - كنت قد تحدثت عن «رؤية فجائعية في الرواية العربية» في الكتاب الذي حصلت به على جائزة المغرب للكتاب 2005، فهل هذه الرؤية لا تزال حاضرة أم أن هناك رؤية جديدة ظهرت مع ما عرفه العالم العربي من حراك؟ للأسف ما تزال موجودة، بل عمقتها المرحلة. الإنسان الأعزل تحت سماء عارية هو إنسان نهاية قرن وبداية آخر، لكن بعد العقد الأول من الألفية الثالثة أصبح الإنسان العاري الذي يقاوم وحيدا تحت سماء عارية إنسانا مسالما مستهلكا وقد تخلص من مقاومته. لقد ظل عاريا ووحيدا لكن بلا مقاومة. ما شهده العالم العربي من حراك سياسي يصيبني بالخيبة عندما رفع رواده وأتباعهم شعارات ضد الثقافة والفكر والإبداع، وقد قدمت سابقا في سياق آخر مثالا مستشهدا بالثورة الفرنسية. ويمكننا القياس على ثورات أخرى أثرت في الشعوب وفي مجرى التاريخ، وأكدت على أنها لم تقم كردة فعل، بل كانت مدعومة بثورة فكرية شاملة، أي أنها أثرت على الشعر والرواية والقصة والتشكيل والمسرح، وهكذا أثرت في أوعاء الناس وأدخلتهم في سياق الحاجة إلى التغيير... ما تزال الرؤية المهيمنة فجائعية، لكن في صورتها السالبة، بخلق ما يسمى «الإنسان الأخير»، ذلك المشدوه الذي يتفرج على العالم وكأنه ليس منه. للأسف الشديد، محزن، ومفجع ما يحدث الآن. - كثيرا ما نتحدث عن أدب نسائي ورجالي، فهل أنت مع هذا التمييز؟ أم أن لك رؤية أخرى تنبني على خصوصيات محددة؟ تفرض علينا وجهة النظر العلمية والموضوعية التمييز -عند التحليل- بين الأدب الذي تكتبه المرأة والأدب الذي يكتبه الرجل. لا يمكننا تجاهل الاختلاف العضوي والنفسي للنوعين معا، وأيضا لا يمكننا تجاهل التربية التي تتحكم في وعي كل نوع على حدة. في المجتمعات العربية تتلقى المرأة المغربية والعربية تربية مختلفة عن تربية الرجل، وهذا الاختلاف تكتبه المرأة ويكتبه الرجل المناصر لوجهة نظر المرأة. يستشف مما ذكرته أعلاه أن هناك اختلافا بين ما تكتبه المرأة وما يكتبه الرجل. لا أتحدث عن المواقف، لأن الموقف من قضايا المجتمع وقضايا الإنسان المعاصر في صراعه التاريخي من أجل تحقيق وجوده ومن أجل العيش الكريم والمطالب العامة هي مواقف مشتركة، لكنني أتحدث عن الرؤية الجمالية والموضوعات ذات الخصوصية النوعية، فهناك قضايا تخص المرأة دون الرجل، لأنها ترتبط بطبيعة المرأة الفيزيولوجية (الحمل، الإنجاب والحيض والنفاس...) وأخرى اجتماعية وسياسية ومالية... شخصيا أميز بين نوعين من كتابة المرأة: - الكتابة النسائية: وهي الكتابة التي تتعلق بقضايا المرأة وقضايا مجتمعها، أو هي كتابة تخص وجهة نظر المرأة الكاتبة في استقلال تام عن المجموعات النسوية التي تنطلق من رؤية سياسية وحقوقية ونوعية (جنسية). - الكتابة النسوية: وهي الكتابة المنخرطة سياسيا في تصور وموقف مسبق عن المجتمع والذات والرجل وكل ما يشكل في وعيها عائقا أمام تطورها التاريخي وتحقيق ذاتها ونيل استحقاقاتها السياسية والحقوقية كالمساهمة في مؤسسات الدولة من أحزاب سياسية وهيئات نقابية وجماعات محلية؛ حضرية وقروية، ودخول قبة البرلمان... أما الخصوصية الجمالية والأدبية فقد حددت الكثير من الخصائص المميزة للأدب (الكتابة) النسائي والنسوي، وهي إضافات أثرت الأدب (الكتابة) المغربي المعاصر، خاصة أننا لم نعد نتحدث عن اسم أو اسمين فقط، بل غزت المرأة الكاتبة الساحة الثقافية بإسهاماتها المتنوعة، شعرا وقصة ورواية ومسرحية ونقدا وبحثا علميا. مسألة التمييز بين كتابة المرأة والرجل لا علاقة لها بالميز النوعي (أو العنصري)، كما يشير إلى ذلك معارضو هذا التفريق في المصطلح. كما أنه ينبغي الانتباه إلى فكرة ثاوية مضمرة في رأي المعارضين، رجالا ونساء، وهي أن نفي مصطلح كتابة المرأة يتضمن نفيا وإقصاء للنوع، ومحاولة طمس ملامحه وتذويب قضاياه في القضايا العامة. - كتابة المرأة في المغرب يقول عنها البعض إنها لم تقدر أن تطرح الأسئلة الحقيقية في مجتمع «ذكوري» لا يقبل أن ترفع فيه صوتها. فهل ترى في ذلك موضوعية ما أم أنه فقط نابع من مرجعيات تقليدية؟ الحقيقة أن المسألة مرتبطة بالمرأة ذاتها وبوعيها بقضاياها الحقيقية وبجمالية ما تقترحه من إبداع. كيف تتشكل المجتمعات الذكورية؟ تتشكل بفرض الرجل نمطا من الوعي الذكوري المسنود بلغة وأدب موجَّهٍ لخدمة بناء مجتمع الذكور. من ثمة على المرأة (النساء جميعا) أن تعي بأن الدفاع عن وعيها واختلاف كتابتها، جماليا وأسلوبا وموضوعات، هو ما يمكنه تحقيق وجودها، والمستفيد من هذا الحراك هو الأدب المغربي المعاصر. - وماذا عن الدراسات النقدية في الجامعة المغربية؟ كيف ترى حالها وأفقها؟ لتلافي الوقوع في المشكلة التي تعاني منها البحوث الجامعية في العالم؛ أي التكرار والتشابه، أقترح اعتماد «الإبداع» في البحث، وهو ما يجعله أولا منسجما مع فلسفة وغاية «البحث العلمي»، وثانيا، يجعل منه بحثا «أصيلا». وبهذه الطريقة نتجاوز مشكلة تراكم البحوث في الرفوف وأيضا خفوت المجهودات التي تبذلها الجامعة المغربية جراء ذلك، وهنا تبرز أهمية التعاقد بين الجامعة المغربية ودور النشر المغربية المحلية والوطنية. وينبغي للجامعة تخصيص ميزانية قارة لنشر البحوث المقدمة لنيل الشواهد العلمية، المميزة والمنوه بها. إن للجامعة المغربية دورا هاما في بناء النهضة الثقافية والحضارية، بل لها دور مركزي وأساسي في ذلك، ولنتذكر ما قامت به الجامعة المغربية نهاية وبداية السبعينيات عندما انخرطت في بناء الحراك الثقافي والنقاش السياسي والجمالي. للبحوث الجامعية ليست فقط شهادات تخول للباحث الترقي في عمله أو ولوج ميدان العمل، إنها دليل على الدور الثقافي والعلمي والحضاري للجامعة المغربية. لذلك ينبغي إعادة التفكير في طبيعة البحوث المنجزة والأهداف المتوخاة منها.
طفيليات موجودة في أشخاص أو في «مختبرات»
- ظهرت في الساحة مجموعة من المختبرات السردية، فهل ترى أن ذلك يمكن أن يؤسس لقراءات جديدة ويفتح آفاقا مستقبلية قوية تغلق الأبواب في وجه المتطفلين؟ كل مختبر أو جمعية أو صالون أو ناد أنظر إليه كضرورة علمية وثقافية وحضارية بحكم أن المرحلة التي نمر بها في حاجة إلى مجهود كل الطاقات الفاعلة والحية والغيورة والوطنية لتجاوز الركود وحالة الهيض والتشتت التي تعيشها الثقافة اليوم، لكن للأسف لا يمكنها أن تحد من تنامي الطفيليات من أشخاص أو مختبرات أو جمعيات أو صالونات أو أندية مفبركة تنهب المال العام دون أن تكون مالكة لمشروع ثقافي واضح المعالم يخدم الثقافة المغربية محليا ويسهم في نقلها عبر الترجمة إلى العالم ويساعد على حل الأزمات والقضايا الكبرى للثقافة المغربية، وهي ظاهرة المرحلة، كثرة في الجمعيات، لكنها ارتجالية تحتفي بصديق أو رفيق أو ب»ولي نعمة» أو من ترجى «شفاعته» إلى منصب أو خدمة... إنها ضرورة ما دامت تحمل مشروعا ثقافيا وحضاريا وطنيا وإنسانيا، عدا ذلك فهي عائق أمام تحقيق التطور في الثقافة المغربية. النباتات الطفيلية لا تحتاج إلى جذور ولا إلى امتداد، إنها تتضخم وتنهب جهود الآخرين وتضيق الخناق على النباتات الأصيلة العطرة والنافعة. - أمام انفتاح بوابات الإنترنيت للنشر، تدفقت الكتابة وكثر الكتاب لدرجة أن المتابعين رأوا في ذلك خطرا يهدد الإبداع بمختلف أجناسه وأنواعه. كيف ترى ذلك؟ باختصار شديد على كتاب الإنترنيت العمل على إبداع أدب يناسب القنوات التقنية التي تنتجه، وإلا سيظل خاضعا لقوانين الذوق الورقي «التقليدي» من وجهة نظره. إن ما يكتب على الإنترنيت يستجيب لفلسفة القناة الموصلة. فمثلا ما ينشر في المواقع الاجتماعية يتحكم في طبيعة ما ينشر بها، وما ينشر على جدران ال»فيسبوك» تتحكم فيه فلسفة «الدردشة» و»البوح» و»المكاشفة الذاتية» و»التأمل اللحظي» والفكرة المبتدعة والفكرة السطحية في آن، وما ينشر ب»تويتر» تتحكم فيه فكرة «الخبر» من اختزال وتواصل فوري وإعلام الآخرين... وهذه كلها ليست إبداعا في جوهرها، هي كتابة، لكن ما ينشر على ال»فيسبوك» خاصة هو خرق لفلسفة الموقع، وهي عموما كتابة إلكترونية لما كتب ورقيا. لذلك نجد من كتب على جداره مثلا وخاصة إذا كان «امرأة»:»حبك يهتكني حيائي!!!» يقرأ العبارة أزيد من مائة شخص في ثوان معدودات ومن كتب مقالة عن أحمد بوزفور أو محمد زفزاف أو عبد الله العروي يقرؤها أقل من عشرة في أقصى تقدير. إذن، للإنترنيت قراؤه وفلسفته الإبداعية وأسلوبه في الكتابة؛ فيها الإبداع الحق والكتابة السطحية. - في زمن الصور التي باتت تكتسح كل البيوت، هل يمكن أن نقول إن القراءة والكتابة في طريقهما إلى الإفلاس وأن ذلك سيبقى فقط من ذكريات الماضي؟ ما يقضي على القراءة والكتابة ليس الصورة، لأنها كانت دائما موجودة، وأول الكتابة كان تصويرا، لكن الذي يقضي على القراءة والكتابة، حقيقة، الجهل والأمية والفقر الروحي ونضوب الخيال. - أخيرا هل هناك جديد؟ آمل ذلك. هناك دائما الجديد رغم بطء الحركة، لكنه سيصل يوما بفعل إرادي وواعي أو بالحتمية؛ حتمية التطور.