تمر العلوم الإنسانية اليوم بأزمة وجودية عبر أنحاء العالم أمام تزايد الطلب على التخصصات العلمية والتكنولوجية التي تلبي حاجيات سوق المعرفة، وهناك قلق متزايد إزاء انتهاء مدة صلاحية هذا الحقل المعرفي في مجتمعات رأسمالية هرولت وراء تخصصات علمية دقيقة و أخرى خدماتية مُمَهننة تلبي حاجيات سوق الشغل كالهندسة وتكنولوجيا المعلومات، فتم اختزال اقتصاد المعرفة في حشو حوصلة أخطبوط الرأسمالية بقوة عاملة فنية مدربة تلبي حاجيات صناعاته ونشاطاته الاقتصادية. و انطلاقا من هذه النقطة بالذات، بدأت تظهر متاعب المجتمع الرأسمالي و تخوفاته من إنتاج أعضاء اجتماعيين لا يستطيعون التفكير خارج نطاق التخصص الضيق، حيث تصاعد قلق اجتماعي في بعض أنحاء العالم حول الهدف الأسمى من التعليم، هل ننتج المعرفة لتحسين أوضاع المجتمع تقنيا و خدماتيا، أم نعلّم الشعوب فلسفة الحياة وأنماطها عبر التاريخ قصد تطوير أساليب الحياة و أنسنة العلم و تخليقه وغرس قيم المواطنة و مبادئها في ذهنية الشعوب؟ أليست المنظومة التعليمية الإنسانية هي الكفيلة وحدها بتحقيق استمرارية المجتمعات وحضاراتها، و إلا فستواجه المجتمعات لا محالة ناشئة معوقة ذهنيا و مغتربة عن تاريخها الثقافي المشترك؟
هذا يذكرنا بنقاش كلاسيكي ساد مجتمعات القرن التاسع عشر حتى سنة 1870، لما هيمنت فكرة إقصاء الأدب من الجامعات و الاكتفاء بمناقشة أعماله في الصالونات و المحافل الأدبية التي دأبت النخب الراقية المتعلمة على تنظميها آنذاك، و ذلك نظرا لارتباط الأدب بملكة الإبداع والخيال التي و جد فيها المفكرون التربويون صعوبة في تعليمها للناشئة بشكل منهجي، ولم يتسنى للأدب ولوج رحاب الجامعة حتى ظهرت الدراسات اللسانية التي أقحمت هذا الحقل المعرفي في تخصصاتها، وهكذا اقترنت الدراسات الأدبية بدراسة اللغة، و عقد الإثنان قرانا كاثوليكيا استمر حتى اليوم دون أن يتساءل المفكرون الحداثيون عن هذا المزج و مدى صلاحية استمراره على الساحة الأكاديمية مع اختلاف الأزمنة والسياقات الثقافية. أضف إلى هذا منهاج التقسيم بين شعب الفلسفة والتاريخ والأدب وعلم الاجتماع الذي اتبعته الجامعات الأوروبية وقلدته الجامعة المغربية في إطار تبعية "ملتزمة" حتى اليوم، بالرغم من اختلاف السياقات التاريخية والثقافية بين الاختيارات النظرية لجيل من المثقفين الإنسانويين قرر الفصل بين هذه التخصصات في الماضي، و جيل من مفكري ما بعد الحداثة سعى إلى تكسير الحدود و تشييد الجسور بين شتى حقول المعرفة.
هل انخرطت الجامعة المغربية في هذا النقاش الأكاديمي؟ هل تبنت الجامعة المغربية هندسة الشعب و الكليات انطلاقا من مقاربات نظرية و اختيارات مُفكَّر فيها أم هو تقليد عشوائي للجارة أوروبا؟ هل يمكن اعتبار الجامعة المغربية ابتكارا محلياً، أم هي مجموعة رواسب أجنبية خلفها الاستعمار الفرنسي سواء عن طريق كوادره الكولونيالية أو عبر انتشار طبقة اجتماعية متعلمة مستلبة استوطنت دروب الجامعة بعد الاستقلال، درس أبناؤها في فرنسا، ثم عادوا في إطار "مغربة" الأطر الجامعية، لكن معظمهم قام بإعادة إنتاج المنظومة الاستعمارية بأقنعة ثقافية و علمية متعددة دون تساؤلات منهجية كبرى؟
لم يعد خفيا على أحد أن الجامعة المغربية تستورد أنماط أكاديمية غربية جاهزة دون أقلمتها ومساءلتها منهجيا وتعميق التفكير فيها. لقد تطرقنا في مقالات سابقة لعدد من المطبات و الأعطاب التي يعاني منها الإصلاح البيداغوجي الجديد، و لا داعي لنكرر الأفكار نفسها، لكن نطرح بعض الأسئلة الجديدة حول هذا الإصلاح حتى نبين مرة أخرى ذلك التقليد الأعمى الذي تنهجه الجامعة المغربية في تأطير طلابها دون نقد ذاتي أو تفكير استباقي فيما تستورده من هندسة بيداغوجية. إن السؤال المطروح على الإصلاح البيداغوجي الجديد في هذا الصدد هو: لماذا تخلت الدولة على أربع سنوات في التكوين لنيل الإجازة واستبدلتها بثلاث سنوات؟ هل هذا الإجراء مُفكّر فيه، أم هو مستوحى آليا من الغرب؟
نحن نعلم أنه في الولاياتالمتحدة مثلا، تتحمل العوائل تكاليف الدراسة الجامعية، مما أدى إلى تصاعد أصوات سياسية تطالب بتخفيض رسوم التسجيل عن طريق المساعدات البنكية والقروض وغيرها من الإجراءات، و من تم جاءت فكرة تركيز برنامج الإجازة الجامعية وتكثيفه في ثلاث سنوات عوض أربع قصد تخفيض تكاليف الدراسة. هل هذا هو السبب نفسه وراء تكثيف الجامعة المغربية لبرنامجها الجامعي كذلك، أم هو تقشف في ميزانية التعليم؟ لا يوجد جواب مبرَّر في هذا الصدد، و يظل هذا الاختزال غير مُفكّر فيه في دولة لا تتوفر على اقتصاد معرفة يشابه نظيره الأمريكي، و ليست لديه نفس الأولويات. نحن نعلم جيدا أن المواطن الأمريكي يتخذ من الدراسة و تحصيل المعرفة أسلوب حياة، حيث قد تجد نادلا في مقهى أو سائق طاكسي يتابع دراسته العليا في الجامعة. إن نظام المعلبات المعرفية المقتضبة يتماشى إلى حد ما مع السياسيات الاقتصادية التي تخططها الولايات والحكومة الفيدرالية في أمريكا، هذا بالرغم من المشاكل التي يطرحها هذا النموذج الأكاديمي، لكن أين نحن من السلوك الثقافي للمواطن الأمريكي؟ كيف نختصر التحصيل الأكاديمي في شهادة جامعية لا يتعدى غلافها الزمني ثلاث سنوات؟ و على مستوى التطبيق، تنبلج مفارقة مدوية حين يجلس الطالب في قاعة الدرس يتفرج على أستاذ عداء يركض و يهرع في تدريس مقدمات و معارف جزئية لا تستغرق سوى 18 شهر في مجملها، و ينتهي الكلام ليتخرج الطالب مُطلٍّقا القراءة والكتابة بالثلاث، ثم تبدأ معاناة البحث عن الرّزق في إطار البلوكاج الوظيفي. هل هذا النظام الاختزالي صالح لثقافة محلية مازالت في حاجة ماسة إلى خطاطات تمرّن المواطن على القراءة و والتعلم مدى الحياة؟ لماذا هذه السرعة في التحصيل؟ إذا كان الطالب سيغادر أسوار الجامعة ليتسكع في الشوارع لمدة سنتين أو ثلاث في بحث "غودوي" عن وظيفة (نسبة إلى غودو)، أليس من الأجدر الاحتفاظ بهذا المتعلم في رحاب الجامعة و تمرينه على المطالعة و البحث حتى يستكمل معارفه و تنضج أفكاره وآراؤه و يستطيع المبادرة و المنافسة و المشاركة الفعالة في الحياة العملية بعد التخرج؟
لماذا أقدمت الجامعة المغربية على اقتضاب المعرفة الأكاديمية في ثلاث سنوات بينما تدعو هونغ كونغ وسنغافورة والصين إلى تمديد البرامج الجامعية لتمكين الطالب من التوسع في تحصيل المعرفة و تطوير مهاراته النقدية والإبداعية، و خير مثال هو حين مددت جامعة هونغ كونغ برامجها الجامعية من ثلاث سنوات إلى أربع، فما يمنع المغرب يا ترى، و هو بلد لازال يحارب التخلف الاجتماعي و الأمية الوظيفية و المعرفية، من أن يمدد شهادته الجامعية إلى خمس سنوات على الأقل؟ لماذا انزلق المغرب نحو الاستجابة الضيقة إلى متطلبات الاقتصاد الدولي مهملا التساؤلات الكبرى حول قضايا المواطنة و تخليق الحياة العامة واحترام القانون والمشاركة السياسية و النقد والتحليل و امتلاك رصيد ثقافي عالِم؟ هل تتقدم الاقتصاديات بالمعارف التقنية فقط، أم بمساهمة الإبداع و التحليل و النقد والالتزام القيمي؟ هل نستطيع بناء مجتمعات بالمفهوم الحديث في غياب مأسسة العلوم الإنسانية؟
إن واقع العلوم الإنسانية في الجامعة المغربية اليوم يدل على مأزق وجودي تتخبط فيه تخصصات عدة من التاريخ والجغرافية إلى اللغات والفلسفة و علم الاجتماع، حيث تعتبر هذه الشعب مستودعا لبطالة مثقفة، نظرا لما يشاع عنها بداية من عدم قدرتها على مسخ برامجها إلى معلبات تسويقية تلائم حاجيات سوق الشغل، و نهاية إلى غموض طرق تدريسها. هكذا، كلما أُنجزت دراسة حول الجامعة المغربية أو وُجهت انتقادات إليها، تحتل كليات العلوم الإنسانية مركز الصدارة في الملامة و النقد جراء مشاكلها المتراكمة حول مآل الخريجين وتنافر مناهج التدريس و تفككها بمجموعة من الشعب الأدبية، وهنا تُطرح عدة أسئلة عن مآل التخصصات الإنسانية التي يقال بأن دورها يقتصر على تجييش عطالة المجتمع، بل هناك أصوات سياسية تنادي بإقفال كليات العلوم الإنسانية لعدم جدواها في سوق الشغل وتفاديا لاعتصامات المعطلين، و قد يحترف هذا التفكير "الخبزي" عدد من الفاعلين السياسيين الذين لم يسعفهم الحظ في استكمال دروسهم والالتحاق بالجامعة.
كيف يعقل أن تمنح الجامعة المغربية شواهد جامعية في العلوم الحقة والهندسة والطب َوالاقتصاد والحقوق وتخصصات أخرى دون تعبئة هؤلاء الخريجين أخلاقيا ومعنويا للقيام بواجبهم الوطني، و دون فهمهم للنسيج الاجتماعي و التراث الثقافي؟ فهل يستطيع العلم و التكنولوجيا أن يجيبا على التساؤلات المعنوية والأخلاقية؟ هل يستطيعان أن يدلا المواطن على أسلوب و فلسفة حياة يسعى إلى تحقيقها؟ نحن نعيش في عالم يهدده الإرهاب والاحتباس الحراري و التلوث و الهجرة والفقر و الصراعات السياسة والإقليمية، فكيف سنُعدّ أجيالا تؤمن بالسلم الاجتماعي والحريات الفردية، وهي تجهل أسس العلوم الإنسانية وآليات اشتغالها؟ و نقصد بالعلوم الإنسانية الآداب والفلسفة والتاريخ و العلوم الاجتماعية، حيث تمرّن العضو الاجتماعي على الجدل و تنسيب الحقائق و الابتعاد عن الفكر الوثوقي الدغمائي، كما تقي مجتمعنا من السقوط في براثن الفكر الظلامي المتطرف. حين يَدْرُس الطبيب و القاضي والمهندس العلوم الإنسانية والاجتماعية، سوف يضع أسئلة فلسفية حول قضايا دينية وسياسية واقتصادية، و لن يتعامل مع المواطنين دون إلمام منهجي بأوضاعهم الاجتماعية والسياقات الثقافية التي ينتمون إليها.
ما تعيشه الجامعة المغربية الآن من عزلة بين تخصصاتها يحيلنا على تاريخ مرير من العزلة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية التي تسبب فيها إنشاء جدار برلين بين غرب ألمانيا وشرقها، و في السياق نفسه، توجد كلية العلوم الإنسانية بجوار كلية العلوم الحقة، لكن بينهما بُني جدار فاصل يرمز إلى قطيعة ابستمولوجية تفصل بين التخصصات، و هي فلذات كبد علم واحد، و توجد شٌعَب في نفس البناية ينعدم التواصل المؤسساتي فيما بينها، و لا هي تؤثر في البيئة والمجتمع المحيط بها، هذا عبث بيداغوجي تعاني منه الجامعة المغربية. كيف لطالب أو أستاذ جامعي يتخصص في الرياضيات أو الفيزياء وهو يجهل الأسس الابستمولوجية لهذا العلم، و لا يحطم جدار برلين ليلتحق بقسم الفلسفة لدراسة الأسس الابستمولوجية لهذه العلوم؟ هذه هي الحقيقة المرّة التي تتخبط فيها الجامعة المغربية، حيث تقوم بتكوين أطباء ومهندسين ورجال قانون لا علم لهم بالفلسفة وعلم النفس والاجتماع، و تُكوّن علماء اجتماع و مؤرخين غير قادرين على تحليل رواية أو تفكيك صورة، نظرا لافتقارهم إلى مناهج دراسة الخطاب والسيميائيات الثقافية و علم السرديات و الشعرية الأدبية و غيرها من المناهج و المقاربات الأدبية و اللسانية في التحليل (لكن تجدر الإشارة في هذا الباب إلى وجود أساتذة يجتهدون بشكل فردي في اقتحام مجالات بحثية للاستفادة من نظرياتها و أدواتها المنهجية). إنها مأساة جدار برلين العازل للشعب والكليات، و نستفيض في التساؤل حول جدوى وجود كليات بمعزل عن أخرى، ألا يجدر بنا مأسسة العلوم الإنسانية في جميع التخصصات العلمية، و إعادة النظر في هندسة الشعب الإنسانية، و دمج الكليات الإنسانية والعلمية حتى يستفيد الطلبة والأساتذة من فرص الالتقاء والمناقشة و تبادل الآراء و التأثير في بعضهم البعض؟ لماذا هذه الأسوار العازلة بين الكليات بدعوى التخصص؟ ما معنى أن تتواجد كلية الحقوق في معزل عن كلية الآداب في معزل عن كلية الطب؟ و كل هذه الكليات في حاجة إلى علوم إنسانية لصقل معارفها وتخليق علومها وتعبئة فاعليتها.
لقد حان الوقت الآن لتكسير جدار الجهل و القطيعة بين العلوم، و البحث عن نقط التقاء مفترضة بينها لتوسيع نطاق الإبداع العلمي، و تكوين شباب قادر على التحليل والنقد واتخاذ القرار الأخلاقي المسؤول في خدمة المجتمع والوطن، و هذا لن يتأتى دون نقد انعكاسي للذات و صياغة إصلاح للعلوم الإنسانية في ارتباطها بعلوم أخرى، فما العيب في ظهور كلية الهندسة و العلوم الإنسانية، حيث يلتقي الطالب المهندس والطالب الأدبي في الساحة الجامعية للنقاش وتبادل الآراء في قضايا ثقافية مختلفة، و يلتقيان في أقسام جذع مشترك لدراسة مواد في العلوم الإنسانية بمختلف اللغات، تمكنهم من الاستفادة من بعضهم البعض؟
سيظل التاريخ شاهد إثبات على الدور الإيجابي الذي قامت به العلوم الإنسانية والاجتماعية في صناعة نسيج المجتمعات و أنساقها الفكرية حتى الماضي القريب، و تعبئة فاعليتها السياسية و تجنيد أفرادها للدفاع عن الحقوق و الحريات. إن جدار برلين يعتبر بدعة ظهرت بعد تراجع العلوم الإنسانية أمام قوة رغيف الخبز الذي يبيعه تعليم سوق الرأسمالية، حيث اهتم بتكوين تِقنيّين و خبراء و مهندسين و أطباء و علماء مهادنين مذعنين خاضعين للهيمنة الاقتصادية السائدة. إن اقتصاد المعرفة الرأسمالي لا يهتم بتعبئة المجتمع و توعيته و تخليقه بقدر ما يسعى إلى مغنطة الجماهير وتنويمها من خلال الفرجة والاستهلاك. إن الجُدُر البرلينية التي يشيدها الأخطبوط العملاق، قد توفر لناشئتنا ظِلّ وظيفة و أجرة، لكنها لن تصنع لنا مجتمعا، و هي تختزل العلم والثقافة في معرفة خدماتية تقنية مبتورة من أنساقها الفكرية وأسسها الابستمولوجية. هذه ليست سوى معارف جزئية خالية من القيم و المبادئ و المواقف التضامنية والإيديولوجيات المناهضة للهيمنة. و بهذا التفريط و الإهمال في الهندسة البيداغوجية للعلوم، ترتكب الجامعة المغربية جريمة رمزية في حق المجتمع بإسكات البعد القيمي والأخلاقي للمعرفة.
و أخيرا، نعتقد جازمين أن منطق العلوم الإنسانية هو الكفيل الوحيد بتخليص المجتمع من طبيب أو محامي أو مهندس أو تقني متمذهب، قد ينزلق في أي لحظة إلى فكر غيبي متطرف. لا سبيل أمامنا إذن، سوى تحطيم جدار برلين و التعامل مع الجامعة ليس بوصفها مجرد محرك للاقتصاد الوطني فقط، بل باعتبارها مركزا لتلقين المعارف والفلسفات النظرية و المطبقة و استبدال الوصفات المقتضبة بتعليم مُتمهّل يَطبُخ المعرفة في "طواجين" مغربية تضيء منار الفكر والإبداع، وتعزز دور العلوم الإنسانية في ترسيخ قيم المجتمع ومبادئه النبيلة من أجل تقوية أواصر الترابط الاجتماعي و التصدي للاضطهاد السياسي و مشاكل الهجرة والتلوث البيئي، و إلا فسينهار المجتمع من جراء الهزات الرأسمالية المتكررة و "الفوضى الخلاقة" الملازمة لها.