علاقة الأدب بالجامعة - في المغرب والوطن العربي عامة - ظلت دائما منسوجة بروابط حميمة وساخنة.. علاقة فاعلة وذات منحى تصاعدي، تبادل فيها الإنسان (الأستاذ والطالب) والمؤسسة دور المنتج والمستفيد، ودور المؤثر والمتأثر.. لكن هذه العلاقة إن كانت قديما قد أسست لفضاء من التعاون والأخد والرد، فإنها اليوم – وخصوصا على الصعيد المغربي والعربي – فقدت سلطتها لفائدة حالات من الإلتباس والغموض والسلبية.. حيث عجزت الجامعة عن لعب دور المختبر في تحليل دماء الأدب بمختلف أجناسه، وفي فحص مستويات تحولاته البيولو أدبية والسوسيو ثقافية والجيو سياسية.. كما عجز الأستاذ والطالب معا في ربط الجامعة - كمؤسسة فاعلة ومتحركة - بالحياة في عمقها وتغيراتها ومآلاتها الفردوسية أو الكارثية، وهو ما أثار ويثير اليوم سؤال ضرورة إعادة دور الجامعة في إنتاج النص الأدبي من جهة، وفي صناعة الواقع الإنساني بحمولاته المتناقضة من جهة ثانية. إنه سؤال يحضر بمختلف صوره في الحوار التالي الذي أجرته مجلة «طنجة الأدبية» مع الناقد والشاعر والأستاذ الجامعي الدكتور محمد عدناني. *بداية أين تكمن أهمية الجامعة في مجتمع تخترقه نسب مرتفعة من الأمية والهدر المدرسي والفقر والمرض والجريمة؟ للجامعة أدوار متعددة لكنها تلتقي في أهداف واحدة هي خلق مجتمع يسمو فوق الأوصاف التي أَسْنَدْتَها لهذا المجتمع الذي يحيط بها. ولكن إلى أي حد وُفِّقَتْ هذه الجامعة في هذا المسعى؟ يؤسفني أن أقول إن الجامعة اخْتُرِقَتْ من قِبَلِ المجتمع بالمظاهر التي تَفَضَّلْتَ بذكرها، فأصبحت في وضع المُتأثر لا المُؤَثِّرِ، وهذا تحول خطير جدا في طبيعة العلاقة بين الجامعة والمجتمع، لاحظ معي التحول النوعي والكمي في شخص الطالب والأستاذ، فلا الأول يعي حجم الصفة التي يحملها ولا الثاني يحس بالوضع الاعتباري الذي تعطيه الجامعة. المشكلة الكبيرة الآن هي أن الجامعة أصبحت تنخرط بشكل فعلي في مسلسل استمرار محو الأمية في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تؤهل الناس ليصبحوا فاعلين ومُنْتِجين في المجتمع كُلٌّ وِفْقَ تخصصه. أقصد أن نسبة مهمة من الطلبة تعاني من أمية مُقَنَّعَةٍ بفعل الكتابة والقراءة، وتجليات هذه الأمية متعددة لا سبيل إلى التفصيل فيها، وأن نسبة كبيرة من الأساتذة أيضا اختزلوا دورهم، في علاقتهم بالطالب والمؤسسة الجامعية، في جانب واحد هو التدريس، فتحول من باحث بإشعاع كبير إلى مُدَرِّسٍ قد لا يختلف عن غيره. إنه الانحدار الكبير نحو تقويض دور الجامعة نهائيا. والكل يتحمل المسؤولية. فالإصلاحات التي أُريدَ منها تطوير أداء الجامعة لم تُؤَدِّ إلا إلى انتكاسة مُضاعفة، وهذا وضع عام لا اختلاف فيه بين مستويات التعليم ومؤسساته عموما. * تشكل الجامعة في الدول المتقدمة مختبرا حقيقيا لإنتاج العلم والمعرفة وتنمية الإنسان، بينما لا تنتج في حالتنا المغربية إلا أذهانا محشوة باليابس والأخضر.. هل تتفقون مع هذا الرأي القاسي الذي يحتمي به كثير من رجال التعليم قبل غيرهم؟ هذا السؤال يمنحني الفرصة لتفصيل ما أجملته في الجواب السابق، ولتوضيح ما قد يبدو غائما أيضا. لا يمكن أن نتبنى هذا الحكم بإطلاقه حتى نكون كمن ينسف الجهد بِجهالَة أو حقد، فالأهداف التي وُضِعَتْ من أجلها الجامعة المغربية هي نفسها التي وُضعت من أجلها الجامعة في دول أخرى متقدمة. الاختلاف كامن في رغبة القَيِّمِينَ على شؤون التعليم في تحقيق هذه الأهداف. كما أن العلم والمعرفة اللذين أشرت إليهما مفهومان كبيران ولهما تجليات متعددة. فالجامعة مُهَيَّأَةٌ، على الأقل في المستوى النظري، لإنتاج كل العلوم والمعارف، ولكن أي علم وأي معرفة نحتاج ونسعى لإدركهما؟. إن الدول المتقدمة ركزت على العلوم الحقة وَوَفَّرَتْ لها البنيات الأساسية والضرورية سواء بالجامعة أو في محيطها الممتد خارجها. ونحن كذلك كان لنا الهدف نفسه لكنه لم يتجاوز مستوى الطموح وبقي رغبة تراوح مكانها، أنظر إلى لوازم تدريس العلوم الحقة عندنا، فإن وُجِدَتِ المختبرات فلن تجد أبسط الآليات اللازمة للاشتغال. فمن أين لنا بهذه العلوم إذن؟. لا أتفق بالمطلق مع القول إن الجامعة تُنتج اليأس، أنتجت عباقرة وتنتجهم وستنتج ولكن أين هم؟ إنهم هنالك حيث ظروف الاشتغال ملائمة، إنهم يصنعون مجد أُمَمٍ لم تصنعهم، ولا ذنب لهم في ذلك، فالذنب بأكمله واقع على من فَرَّطَ فيهم. اليابس والأخضر ليس صناعة مغربية صِرْفاً، هي صناعة كل المؤسسات وعلى المتعلم أن يختار بينهما. إن الكثير ممن ولجوا الجامعة لم يأتوها حبا، وإنما مَلْأً لفراغٍ وتَجْزِيَةً لِوَقْتٍ، فلم يكونوا مُوفَّقين في اختيارٍ أو راغبين في مَعرفةٍ، فكيف تصنع الجامعة من هؤلاء قوما واعيا وقد ساقتهم أقدامهم إلى حيث لا يفهمون. أعتقد جازما أن كل من ولج ميدانا بحب ورغبة وأخلص العمل لن يجد نفسه على هامش الحياة، إن هؤلاء الذين يَتَحَجَّجونَ بِهُزال المعرفة في الجامعة إنما يعبرون عن موت حملوه إليها للأسف الشديد، ورغم مقاومتها الشديدة لهم فقد اخْتُرِقَتْ كما قلتُ. إن ما أصاب الجامعة اليوم من تراجع إنما يأتي في سياق تراجع الرهان على التعليم كخيار استراتيجي باعتباره قاطرة التنمية، وأنا أعي جيدا ما أقول. إن غزو المنطق المادي الاقتصادي للأذهان، ولو بدون استحقاق، كان وراء هذا التردي. أُجْمِلُ القول، في هذه المسألة، في خلاصة مفادها: إننا نحتاج إلى تغيير ما بأنفسنا وأَلَّا نسعى إلى مصالح ذاتية ضيقة، فمسار العلم ليس بهذه السهولة التي يتوقعها الناس، وحصد النتائج يأتي بعد بذل الجهد. نحن نريد قطف ثمارِ ما لم نزرع وما لم نَسْقِ وما لم نَرْعَ، فأي منطق هذا الذي نتحدث به؟! * هل تعتقدون أن الحاجة ما تزال قائمة لدراسة الشعر قديمه وحديثه، والنثر بسجعه وبديعه بالجامعة المغربية، في الوقت الذي تضيق فيه دائرة الشغل في وجه من يتلقى هذا النوع من المعرفة؟ ما هو وجه الحكمة في استحضار إبداعات النابغة والحارث بن حلزة والفرزدق وبديع الزمان الهمذاني وابن المقفع.. ووو في أروقة الجامعة؟ دعني أصحح مغالطة كبيرة جدا استسلم لنتائجها الكثير من الناس، وهي أن الشعبة الأدبية تنتج البطالة أكثر مما تنتجها الشعبة العلمية، وهذا باطل باطل باطل. أريد به ضرب الأدب وقد ضُرِبَ فعلا لأن أغلب من يلج هذه الشعب ممن ضاقت حيلتهم وسُدَّتْ في وجههم الأبواب، والنتيجة معروفة. إن استيعاب مؤسسات الدولة لِخِرِّيجي الشُّعب الأدبية أكثر بكثير من استيعابها لخريجي الشُّعب العلمية، الفرق في قدرة المؤسسات الخاصة على لعب الدور نفسه، حيث تميل الكفة هنا لصالح الشعبة العلمية. أنظر إلى حاملي الشواهد العليا وعلى صدورهم إشعار المواد، ترى أفواجا من مختلف المواد العلمية وأخرى من المواد الأدبية، والعِبْرة هنا ليست في الكم، وإنما في قيمة المنتوج وطبيعة التخصص. إن وجود ربع المعطلين من تخصص الفيزياء النووية أو علوم الحياة والأرض أو الرياضيات أو الهندسة أمر مُسْتَهْجَنٌ في بلاد تسعى إلى الارتقاء الذي لم تُدْرِكْهُ وقد جَرَّبَتْ كل شيء. أضف إلى ذلك أن وجود هذه النسبة إذا نظرنا إليه بمنطق العمليات الرياضية الحسابية يعد أعلى من نسبة الأدبيين بحكم وفرت خريجي الأدب، فمئة خريج من الأدب تكافئ ثلاثين من العلميين، ووجودهم في ساحة المعطلين يعني أن المشكلة عامة غير محكومة بمنطق التخصص. دعني أصحح مغالطة أخرى لا تقل فَداحة عن الأولى، وهي اتهام الأدب القديم بالجمود وأن من يتوجه إليه أقل حظا ممن توجه إلى غيره. أقول بكل اعتزاز ويقينية: ماذا كنا سنقرأ لو لم يخلف لنا القدماء ما خلفوه؟ منذ أزمنة «النهضة العربية» إلى الآن ما نسبة الجيد في إنتاجها الأدبي مقارنة بزمن قصير من الإبداع في الزمن القديم؟. ألا يَدْرُسُ طلبة الجامعات في الدول المتقدمة الأدب قديمه وحديثه؟ أَيَتَسَكَّعُ خِرِّيجوا هذا التكوين في الطروقات؟. الأمر لا يُطْرَحُ بهذ الصيغة بقدر ما يُناقَشُ في سياقه العام. هنا أستحضر مسألة غريبة ونحن نقارن بين المواد أو الشُّعَبِ أو اللغات الأرقى والأكثر فاعلية في ضمان وظيفة أو تطور. لقد قيل إن اللغات الأجنبية تجعلنا نرتقي ونتحضر ونصبح في مصاف الدول الراقية.... طَيِّب، نِصْفُنا أو أكثر يُتْقِنُ هذه اللغات أكثر مما يتقنها غيرنا، وهم في موقع المسؤولية، فأين النتائج؟. أعود لإلى موضوعنا فأرى أن إقحامك للأدب الحديث هنا ما هو إلا لإخفاء موقف سلبي من القديم وتدريسه، أو للتخفيف منه لا غير، ومُسَوِّغُ هذه النتيجة كامن في السؤال الرديف لسؤالك الأول حيث التساؤل على وجه الحِكْمَةِ من تدريس شعر ونثر القدماء، والإنصاف يقتضي تعميم السؤال ليشمل تدريس شعر ونثر المُحْدَثِينَ أيضا. لنفكر بطريقة تعكس السؤال: ماذا سنربح من حذف هذا الإبداع؟. أقول بكل أمانة: إننا سنخسر ذاكرة ووجدانا وهُوية وذوقا، سنخسر قِيَمًا، هذا إذا لم نكن قد خسرناها فعلا، لو كنا نملك الشجاعة الكافية لصنفنا ما نقوم به تُّجاه ذاكرتنا الآن في خانة الجرائم.... فما الإنسان دون هذه الاعتبارات؟! إننا نُحَمِّلُ جَريرة انتكاساتنا وتخاذلنا لإبداعنا، ونتناسى أو نتجاهل طبيعتنا البشرية بِبُعْدَيْها الأساسين: الروحي الوجداني، والعقلاني الفكري. يتمثل الأول في الإبداع والثاني في العلوم الحقة. ألا يَدْرُسُ اليابانيون والفرنسيون والإنجليز... إبداعهم القديم والحديث؟. أم أن تقدهم كان نتيجةً لقطيعة ابستمولوجية مع الماضي؟. هذا افتراء على منطق الأشياء. إننا نبحث بكل وضوح عن مَخْرَجٍ لحرجنا تماما كما تبحث النساء عن ضريح لتلقي عليه بِدَعَهَا وشَعْوَذَتَها، وقد يكون ذلك بإيعاز من الرجل ومُباركة منه. إنني أتصور أن التخلي عن الأدب «قديمه وحديثه» هو تَخلٍّ عن أحد بُعْدَيْ الإنسان، بل أكثر: أي التخلي عن كل العاطفة وعن كثير من العقل. إننا لن نستطيع إدراك فداحة ما يدعو إليه البعض إلا بتصور مشهد جريمة شنعاء يقترفها مجرم لا يملك عاطفة ولا عقلا في حق بريئ، بل فاضل دون جُرْمٍ. آنذاك ُندرك أننا فرطنا في قِيَمٍ لن يُعادَ إنتاجها لأننا أطلقنا يد هذا المجرم لِيَعِيث في الأرض فسادا. سأكون أكثر جرأة وأقول: إننا في أمس الحاجة الآن لإعادة تأمل تراثنا بوعي في ظل أزمات الحداثة المعطوبة كما سماها منظروها والمتحمسون لها. إني لا أتحدث هنا مدفوعا بمنطق المتعة التي تنتج من قراءة الماضي بكل مقوماته، وإنما بمنطق الفائدة لأنني أعلم أن الإحساس بالمتعة الآن أصبح شبه معدوم، أو هو إحساس آخر لم تعد اللغة الراقية قادرة على خلقه، بقدر ما تحققه لغة الإسفاف والابتذال. وهذه مصيبة يستطيبها المتلقي ويَتَسَتَّرُ عليها مُنْتِجُ الخطاب أو يزكيها بالخضوع لرغبة هذا المتلقي. أختم هذا النقاش بسؤال محير: هل فعلا درسنا أدب القدماء، وهل ندرسه حتى ندعو إلى القطيعة معه، أم هي لافتة كلافتات الشعارات المحمولة عند الإحساس بالضيق أو الفرح؟. * كثير من الأدباء والكتاب العرب والمغاربة أبدعوا في شتى مجالات الفكر والثقافة والأدب دون أن يمروا من الجامعة عموما أو من كلية الآداب والعلوم الإنسانية على وجه الخصوص.. أليس في الأمر نوع من الغرابة ؟ أم أن التلقين بالجامعة ليس شرطا ضروريا لولوج عالم الإبداع؟ لا غرابة في الأمر، فإنتاج الإبداع ليس من شواغل الجامعة. وليس شرطا من شروط الإبداع والمبدع المرور منها أو التخصص في شعبها. إن الجامعة تشتغل على إبداع مبدعين ليس من الضروري أن يكونوا قد انتموا إليها. صحيح أن التلقين في الجامعة يُنَمِّي الموهبة ويُوَجِّهُها التوجه الأسلم، ولكن غيابه لا يُعَدُّ نَقيصَةً تُزْرِي بالمبدع وإبداعه. إلا أن وجها آخر يُطِلُّ مُشِعّاً ونحن نتحدث عن الإبداع والجامعة، وهو أن الكثير من المبدعين مَرُّوا من الجامعة طلبة ومؤطرين فأبدعوا في القمة. المسألة إذن موهبة ورغبة في تطويرها وصقلها لا غير، وإن كان المرور من الجامعة يحقق الإضافة. الجامعة تتجه نحو تدريس الإبداع ونقده أكثر مما تهتم بتأطير المبدعين وليس البحث في آليات صنع مبدع كبير إلا ما جاء عرضا أثناء الحديث في الأسس النقدية للإبداع. * يلاحظ أن الجامعة المغربية أقل حركية في مواكبة تطورات الحياة المجتمعية، بدليل أنها لا تنفتح على الواقع (بصورة مكثفة) من خلال تنظيم ندوات وأيام دراسية واستقدام ضيوف من خارج أسوارها.. إلى ماذا تعزون هذه الملاحظة؟ هذه ملاحظة وجيهة جدا، من المؤسف حقا هذا التراجع المثير لدور الجامعة، لا أعرف جامعة مغربية تسطر برنامجا ثقافيا شهريا، أو حتى سنويا، على الأقل، وتلتزم به. هناك فقر مُقذع في هذا الجانب، وهذا أحد أوجه تراجع دور الجامعة في الإشعاع الثقافي. المصيبة أن من بداخل الجامعة نفسها لا يلتقون على مائدة... ولذلك أسباب لا يسمح المقام بمناقشتها. إن إقامة الأنشطة الثقافية آخر ما يُفَكَّرُ فيه، وإن تم التفكير فيه فبحسابات لا تقوم على اعتبارات ثقافية خالصة. وَضْعٌ مؤسف حقا، والمؤسف أكثر أن لا مبررات معقولة لهذا التجاهل للأنشطة التي تتجاوز هدف التسويق والإشهار. * كيف يمكن للجامعة المغربية أن تساهم في إثراء الواقع الأدبي والفكري المغربي والعربي؟ بامتلاك إرادة صادقة تهدف إعادة الجامعة إلى الواجهة. لَسْتُ من الذين يتحججون بغياب الدعم المادي، بالعكس الدعم المادي موجود، ولكن تدبيره يتخذ أشكالا لا تعود بالنفع على الجامعة من جهة تزكية دورها الريادي المفترض. لا ينبغي أن نُخْضِعَ الإشعاع إلى حسابات التدبير المادي، وهو ما يُكَبِّلُ دور الجامعة الآن. إن الأمر في آخر المطاف رهين الإرادة السياسية العامة للبلاد ورهين امتلاك القيمين المباشرين على شؤونها رؤية تؤمن بدور الجامعة عندنا. وفي غياب هذين العنصرين ما أعتقد الجامعة قادرة على استعادة ما فَرَّطَ فيه أناسها بحسابات ضيقة أحيانا وبِتَجاهُلٍ أو يَأْسٍ أو تَعَبٍ أحيانا أخرى. * ما يؤسف له هو أن أغلب الممارسين للتدريس بالجامعة المغربية لا ينتجون ولا يبدعون سواء في مجالات تخصصهم أو في غيرها؟ بل ما يحز في النفس أن كثيرا منهم يحيل ويغترف في تدريسه من مراجع تجاوزها الزمن ومات أصحابها منذ عقود طويلة. أليست مفارقة محزنة؟ ثم كيف السبيل لوضع حد لها؟ مبدئيا أوافقك الرأي، ولكن لا بد من توضيح المسألة لا سيما مقام الأستاذ في الجامعة. الدور الأول للأستاذ في الجامعة هو التدريس وتلقين الطلبة مبادئ البحث وأدبياته وتكوينهم أيضا بتقريب الفكرة وتوضيحها وتدليل المنهج المتبع لإدراكها، ثم تأتي بعد ذلك عملية البحث العلمي التي أقصد بها التأليف في إطار مشاريع شخصية أو جماعية، وهي عملية اختيارية على الرغم من أن الدولة حاولت أن تجعل هذا التوجه من اهتمامات الأستاذ من خلال إدراجها للبحوث والمؤلفات والإشعاع الثقافي للأستاذ داخل وخارج الجامعة كمعيار من معايير الترقية والتدرج في سُلَّمِ الوظيفة، ولكن الأمر في آخر المطاف لم يُعْطِ أكله لأن ما وُضِعَ لأجله هذا المعيار قد تتحكم فيه أشياء أخرى. التدريس والطالب يحتاج مدرسا جيدا أكثر مما يحتاج باحثا جيدا، والجمع بين الأمرين جمع بين حسنيين لا يدركهما جُلُّ الأساتذة وهذا أمر طبيعي. أتفق معك وأزكي ما تقول من خلال التقرير الذي أنجزه قبل سنتين أو ثلاثٍ عالم الاجتماع محمد الشرقاوي حول وضعية البحث العلمي في المغرب ونسبة مساهمة الأساتذة الجامعيين فيه، فخلص إلى نتائج مرعبة جدا، وهي ذات مصداقية على كل حال. إن مزاولة الأستاذ للمهنة لمدة ثلاثين عاما أو أكثر لا يمكن أن تكون كلها إبداعا، فمن الطبيعي أن يُصيب الأستاذُ الفتورَ والإعياءَ والملل خصوصا في ظل غياب مشاريع كبرى تدفع الناس إلى تجديد ومواصلة البحث. ويبدو أن تََلَقُّفَ الأساتذة الجامعيين ل «مائدة السماء الثانية» المغادرة الطوعية أكبر تشخيص لما أسوقه الآن. مع ما تركته هذه المغادر من فراغ مهول، لأن الخَلَفَ غير جاهز، أو لا نية في تمكينه من تحمل المسؤولية. لكن هذا لا يعني أن الجامعة توجد تحت رحمة التقليد والاجترار بالمطلق، فهناك أساتذة أجلاء يحاولوا الاجتهاد كثيرا وهم يقومون بمهامهم أو يُنْجِزُونَ مشاريعهم العلمية الخاصة. ويُشْهَدُ لهم بالكفاءة العالية داخل وخارج الوطن، والأمثلة كثيرة جدا، أقتصر على من أعرف في تخصصي، ويمكن سحب هذا الحكم على باقي التخصصات. أُنظرإلى اعتلاء أساتذة الجامعة منصات التتويج بأرقى الجوائز العالمية. وأقتصر، اختزالا، على جائزة الملك فيصل العالمية التي تعد أول جائزة بعد نوبل من حيث القيمة العلمية والمادية إذا لم أكن مخطئا. لقد فاز بها خمسة مغاربة في تخصص الأدب، وهم على التوالي: محمد بنشريفة وعلي الصقلي وسعيد علوش وعبد القادر الفاسي الفهري ومحمد العمري. وهذا أمر ليس بالهين وليس طفرة في فراغ. فهؤلاء أفرغوا جهدهم في تكون أجيال من طلبة العلم بعضهم سار على الدرب والبعض الآخر يتلمس طريقه. وجيل آخر ليس أقل عطاء وإنتاجا كأحمد المعداوي ( المجاطي) رحمة الله عليه ومحمد مفتاح وحميد لحميداني ومحمد الولي ومحمد برادة وأحمد اليابوري ومحمد الدغمومي ونجيب العوفي وسعيد بنكراد ومحمد بنيس، وغيرهم ممن يستحقون التحية والاعتذار لسقوط أسمائهم سهوا لا تجاهلا، وسعيد يقطين الذي أهنئه على انتخابه رئيسا لاتحاد كتاب الإنترنت العرب، وهو أهل لأن يشغل أي منصب سامٍ في مجال الثقافة لما يُعْرَفُ عنه من جدية ونزاهة وعمق فكري، إنه مكتبة لوحده في عالم السرديات. وهو لا يزال يُدَرِّسُ في الجامعة. صحيح، على الأستاذ أن يبدع ويطور من معلوماته ومناهج تدريسه وتكييف مواضيعه مع مستجدات العصر، لكن بانتقاء المفيد. ولكن دعنا نستحضر الكثير من الإكراهات التي أصبحت تحد من عملية الإبداع الآن، ولا أَسوقها هنا تبريرا، ولكن باعتبارها واقعا لا يُنْكَرُ. إن الإصلاح الجديد الذي فتحت له الجامعة أبوابها لم يُعْطِ أي نتيجة ما عدا انشغال الأستاذ والطالب بمقرر معين في فترة زمنية قصيرة، إذ يجد الأستاذ نفسه ملزما بمحاضرات قصيرة تعقبها مراقبات مستمرة، وكل هذا في أجل أقصاه ثلاثة أشهر. فعن أي إبداع يمكن الحديث في ظل هذه الظروف. كما أن دائرة الإبداع ضاقت بغياب الموضوع، لاحظ معي أن النصف الأخير من القرن الماضي عرف نقاشا أثيرا حول المناهج والمدارس النقدية والصورة بشكل عام والحداثة بأشكالها المختلفة وتجلياتها المتعددة، ونقاشا حول الرواية كنوع أدبي جدي، إضافة إلى تحيق التراث والاهتمام بالترجمة. دون أن نغفل الخلفية المعرفية لأغلب الأساتذة الجامعيين خصوصا تلك المرتبطة بالمناخ السياسي لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن نفسه. الآن لا موضوع يستهوي الناس لمناقشة جادة. اسْتُهْلِكَتِ المناهج، عزف أغلب الأكاديميين عن السياسة انتصارا لهُوية المثقف أو فَشَلا في تحقيق أهداف معينة. «اسْتُهْلِكَ» التراث دون أن نعطيه حقه طبعا ككل مقاربة نقوم بها. ما يوجد الآن هو الأدب في حَضْرَةِ الرقميات، لكن حَضَرَتِ الرقميات وغاب الأدب فأخذ الباحثون يُقَلِّبون أكفهم علهم يقعون على مواضيع غير مُتَفَلِّتَةٍ. صحيح هناك بروز أنواع أدبية من رَحِمِ أجناس كبرى كهيمنة قصيدة النثر وتصاعد القصة والقصة القصيرة والقصيرة جدا...، إلا أنها مواضيع أنتجت مواقف أكثر من أن تُنْتِجَ دراسات. ومع كل هذا فالأستاذ مطالب بأن يَنْحَتَ من نفسه ليدافع عن هُوِيَةٍ لا يملكها غيره، ولو أدى ذلك إلى حد التلاشي. وإني لمتفائل، على الرغم من كل المعوقات، بأن الجامعة ستعود خصوصا إذا تسلمتها طاقات شابة تكون قد أنصتت جيدا للقدماء واستفادت منهم، وبوادر ما آمل بادية.