"عالم اجتماع واحد يساوي كتيبة من الجنود"، لا تزال هذه الجملة عالقة في ذهني من درس الانتروبولوجيا أيام كنت طالبة علم اجتماع، وكنا ندرس الطرق التي اعتمدها المستعمر الفرنسي لفهم ميكانيزمات المجتمع المغربي، والسيطرة عليه بقوى غير عسركية. غادرت فرنسا المغرب كقوة عسكرية، لكن بقيت قواها غير العسكرية في البلاد، وظل حراسها يستميتون في الحفاظ على مصالحها عبرالاقتصاد، اللغة، الثقافة، الفنون، الموضة، وأيضا...الميديا. لم تكن فرنسا الوحيدة التي انتبهت لقوة الإعلام، وأنه أصبح بديلا للقوة العسكرية، وللعلوم الإنسانية، بل سبقتها أمريكا، والتي كانت رائدة في تحويل الميديا من دورها الاخباري إلى الدور التوجيهي والتأثيري، وفي جعل الإعلام قوة غير عسكرية، وخلقت ما بات يعرف ب"الإعلام الدعائي"، أو"الإعلام الموجه". فرنسا 24 في باريس، الحرة وسوا في فيرجينيا، صوت أمريكا في واشنطن، دوتشي فيليه في برلين، روسيا اليوم في موسكو، هنا صوتك في امستردام، وغيرها من الوسائل الإعلامية التي خلقتها وزارات خارجية هذه البلدان وتمولها في إطار "الإعلام الدعائي الموجه"، والذي يختلف عن الإعلام الحكومي، وعن الإعلام الخاص. بمعنى، أن وزارات خارجية هذه الدول أنشأت هذه المؤسسات الإعلامية من أموال دافعي الضرائب لتحافظ على مصالحها في مناطق لها نفوذ بها، أو تدخل ضمن اهتماماتها، وأنه بالأمس دخلت هذه البلدان إلى هذه المناطق مستعمرة وادعت أنها تريد نقلها للحضارة، كما تحاول اليوم الإبقاء على سيطرتها اللاعسركية لهذه المناطق تحت مسمى "نقل الديمقراطية وحقوق الإنسان". إن فهمنا هذا المنطق سوف نفهم لم قناة فرنسا24 الناطقة بالعربية تهتم بشكل كبير بالمغرب، ولم قناة الحرة الأمريكية والناطقة بالعربية تهتم بشكل كبير بالعراق، فلا أحد وخاصة دول الغرب سوف يقتطع من دافعي الضرائب ليمول قناة تنطق بلغتك من أجل نقلك وبلدك إلى ما يعتبره الغرب حضارة...الغرب لا يعطيك إلا حين يعرف أنه سيأخذك منك الكثير. لذلك، تجد الإعلام الموجه يحدثك بلغتك وعن مشاكلك، وعما يحدث ببلدك، لأن بلدك هذا وليس أنت من يهم أجندة هذه المؤسسة الاعلامية الدعائية، والممولة من وزارة الخارجية، ويهمها ان توجه رأيك وتؤثر فيه حول موضوع يحدث في بلدك أنت ويهمك أنت، وذلك بلغتك أنت وبأناس منك أنت وتتحدث عنهم أنت. من هنا نفهم أن فرنسا 24 حين ناقشت قضية كريس كولمان، وقضايا أخرى تتعلق بالمغرب، لم يكن الأمر بداع من اهتمام فرنسا بالمواطن المغربي، وحقه في نقل الخبر، وتحليله ومناقشته، بقدر ما كان الهدف هو فرنسا ذاتها، ومحاولة التأثير في الرأي العام المغربي، والحفاظ على مسامير جحا الفرنسي في البلاد.لنفهم الأمر بشكل أوضح نعود لعراب الإعلام الدعائي...أمريكا. في 1942، وخلال الحرب العالمية الثانية، أنشأت واشنطن إذاعة صوت أمريكا، وكانت الإذاعة الرسمية للحكومة الأمريكية، تبث من خلالها أنباء الحرب، وبرامج موجهة بشكل خاص لأوروبا وشمال إفريقيا وألمانيا النازية. حين انتهت الحرب العالمية الثانية في 1947، لم تقفل المحطة، بل غيرت اتجاهها نحو عدو جديد هو الاتحاد السوفياتي، وفي 1950، أنشأت المحطة قسما ناطقا بالعربية، يخاطب أعداء السوفيات، ويحاول جعلهم أصدقاء لأمريكا. يقول نيكولا كيل، أستاذ الإعلام والدبلوماسية العمومية بجامعة جنوب كاليفورنيا"كانت صوت أمريكا العربية تفتتح ساعتها الإخبارية بتلاوة لبعض الايات القرانية لتظهر للمسلمين أن أمريكا متسامحة دينيا أكثر من أولئك الشيوعيين الملحدين من السوفيات". الغريب في السياسة الأمريكية على مستوى الإعلام الدعائي، أنه ممنوع من البث داخل الأراضي الأمريكية، حين كنت أعمل صحفية في القسم الرقمي لراديو سوا وقناة الحرة، كان أصعب سؤال يستعصي علي الرد عليه حين يسألني مواطن أمريكي"أين تعملين؟"، لأني إن قلت له إني أعمل في مؤسسة ام بي ان، او راديو سوا، او قناة الحرة، فسيجهل عماذا أتحدث، لأن هذه المؤسسات الإعلامية ممنوعة من البث داخل أمريكا، وبموجب قانون سميث موندت. في 1948، بث في هذا القانون بعد أن وضع للنظر فيه سنة 1945، وبموجبه تمنع كل مؤسسة إعلامية دعائية ممولة من الخارجية الامريكية من البث داخل أمريكا، باعتبارها تدخل في إطار الخدمات الدبلوماسية غير العسكرية، وتعني كلا من راديو سوا، قناة الحرة، الموجهان للشرق الاوسط وشمال افريقيا، راديو فريدا الموجه لإيران، راديو اسيا حرة الموجه للصين ودول اخرى، راديو اوروبا حرة، راديو وتلفزيون مارتي والموجهان لكوبا. في 2001، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ستتعرض صوت امريكا لانتقادات شديدة، بسبب عجز المحطة عن استقطاب فئة الشباب في العالم العربي، وسيتم إقفال قسمها العربي، وخلق محطة إذاعية عربية جديدة حملت اسم "سوا"، وعجت بالأخبار الخفيفة، والموسيقى العربية والانجليزية، أملا في الوصول إلى عقول شباب العرب، في حين أن بوش أنشأها استباقا لدخول العراق. في تقرير للواشنطن بوست نشر سنة 2008 بعنوان"الاستثمار المكلف للسيطرة على القلوب والعقول"، جاء فيه أن"الدعاية أصبحت الجبهة الأولى للحرب ضد الإرهاب في شخص تنظيم القاعدة"، وأضاف أن هدف أمريكا هو"السيطرة على القلوب والعقول من خلال موجات الاثير". لقي راديو سوا صدى بين العراقيين المعادين لصدام، وكان الراديو منتقدا لاذعا للرئيس العراقي، وفي الوقت الذي كانت الكتائب الأمريكية تحتل العراق، كانت نسبة الاستماع تتزايد عند العراقيين، ليتم القرار بإنشاء قسم سوا العراق خاص بالاخبار العاجلة. تصور أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة، أن مشروعهم المضمون النجاح في العراق وافغانستان، سيتكفل نجاحه بصناعة الدعاية له، وأن جميع وسائل الاعلام الاخرى ستروج لهذا المشروع، وانها ليست بحاجة الى إعلام تلفزيوني مباشر يتبنى الدعاية له، لكن سرعان ما اضطرت الادارة الاميركية الى اعادة حساباتها والتفكير في أن الراديو ليس كافيا، وان امجاد راديو اوروبا حرة لن تعود، وان اطلاق قناة تلفزيونية أمر ضروري خاصة بوجود قناة عربية وبتمويل عربي وتستحوذ على 80في المائة من المشاهدة العربية، هي قناة الجزيرة. انطلقت قناة الحرة في 2004، عندما كانت القوات الاميركية في العراق تتعرض الى هجمات عنيفة وغير متوقعة من قبل المقاومين العراقيين، وتم تخصيص قناة خاصة اسمها الحرة عراق، لتروج للعملية السياسية، وللوجود الاميركي في العراق، وتصور الجندي الأمريكي هو ذاك البطل القادم من وراء البحار لينقذ المواطن العراقي المسكين من قبضة الديكتاتور صدام حسين، ويحول العراق إلى جنة الديمقراطية وحقوق الإنسان. تقرير الواشنطن بوست تحدث عن كيف تنافست شركات إعلامية أمريكية في تلقي عقود من وزارة الدفاع من أجل تقديم عمليات نفسية ومعلومات في شكل "خدمات إعلامية"، عبارة عن قصص إخبارية، وبرامج ترفيهية، وأفلام وثائقية، ومواضيع رياضية واقتصادية. خلال تحقيق للكونغرس عام 2005 في نشاطات المؤسسة القائمة على تسيير قناة الحرة، قال مستشار علاقات عامة ذو خبرة في قطاع الاستخبارات الخاصة لصحيفة انديباندنت الانكليزية "منهجيا، هذا كله جزء مما يسميه العسكر التوفق بالمعلومات. وهذا جزء من خطة لما يسمونه السيطرة الكاملة...الحقيقة هي أن هذا مجرد بروباغندا لطالما كانت متواجدة في الحروب. وهذه حرب...". أمس كان الراديو سلاح الأقوياء في الدفاع عن مصالحهم، تحول السلاح إلى تلفزيون، ثم انتقل الى انترنت والذي كانت وزارة الدفاع الأمريكية وراء اختراعه، والان ها هو يتحول إلى فيسبوك ويوتيوب وتويتر، تويتر الذي كان على وشك إعلان إفلاسه قبل أن تتدخل وزارة الدفاع الأمريكية وتقوم بتمويله إبان احداث الثورة الخضراء في إيران ليصبح اليوم مستعملا من كبار رؤساء العالم وشخصيات عامة وازنة ويتحول بدوره إلى مصدر للمعلومة، لا يهم ان كانت صحيحة او كاذبة ولكن الأهم أنها سلاح إعلامي يحقق لصانع القرار مبتغاه في التأثير على الرأي العام. من هو الرأي العام؟ أنت القارئ جزء منه، لذلك قبل أن تتفاعل مع أي خبر ات إليك من منصة إعلامية اسأل نفسك "من يمول هذه المنصة؟ ولماذا الاهتمام بهذا الخبر بالذات دون غيره من أخبار العالم؟"، وبعده اذهب وتحر حقيقة الخبر من منصات إعلامية عديدة ومختلفة التوجه، وفي الأخير كون رأيك الخاص وموقفك الخاص من هذا الخبر، ودع نسبة شك منه، فلا وجود لحقيقة مطلقة. قد تستصعب الأمر، لكن تصور أنك في ملعب به كبار يلعبون وقد يستعملون كل شيء للفوز بما فيهم أنت، لذلك إن لم تكن قادرا على اللعب، فعلى الأقل كن متفرجا يقظا، ولا تكن اللعبة ذاتها. -مستشارة منظمات دولية في التدريب الإعلامي [4] كانت القناة من بنات أفكار الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك المشهور بدفاعه عن اللغة الفرنسية في العالم من أجل منافسة هيمنة اللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام. سبتمبر 2006 في عهد ساركوزي