في أعقاب أحداث ال11 من أيلول (سبتمبر) دخل أحد رواد صناعة المشاريع الإعلامية في أميركا نورمان باتيز على فريق من إدارة الرئيس السابق جورج بوش وهو يحمل في يده شريط فيديو لمشاهد قام بانتقائها من عدد من القنوات العربية، تظهر عدداً من التظاهرات المناهضة للولايات المتحدة، ويظهر فيها شبان عرب وهم يحرقون العلم الأميركي ويضربون تمثالاً للرئيس بوش، ثم علَّق باتيز للمجتمعين بأن «هذا ما ستراه عن أميركا على شاشات التلفزة العربية». هذه هي القصة التي ألهمت إدارة الرئيس بوش لتأسيس قناة الحرة التي يشرف على دعمها مجلس أمناء البث الإذاعي والتلفزيوني في الكونغرس، وبلغ ما صُرف عليها وأخواتها من مشروع أميركا الإعلامي في المنطقة حتى اليوم أكثر من بليون دولار بمحصلة نسبة مشاهدة وصلت في أفضل أحوالها بحسب التقارير المستقلة إلى 2 في المئة. وبحسب ما صرح به وكيل وزارة الخارجية للديبلوماسية العامة الأسبق جيمس جلاسمان في لقاء له بالصحافيين الأجانب - من ضمنهم كاتب هذه السطور - صيف 2008 بمركز الصحافة الدولي في العاصمة واشنطن دي سي، فإن أكثر من 100 مليون دولار يتم صرفها كموازنة سنوية ل«قناة الحرة» ومعها «راديو سوا»، على رغم أن تقارير أخرى أشارت لاحقاً إلى أن موازنة قناة الحرة وحدها قفزت لتبلغ خلال عامي 2010 و2011 إلى ما يقارب 110 ملايين دولار سنوياً. مبالغ هائلة ظلت تُضخ على مدار عقد من الزمان على قناة الحرة التي كان أهم نشاط يمكن ملاحظة أنه ظل يشغل القائمين على خطابها الإعلامي، هو انشغالهم بمناقضة الأوصاف اللغوية لدى منافسيهم والانهماك في حرب الدعاية الدلالية، فالوجود الأميركي في العراق ليس احتلالاً بل تحرير، والقوات الأميركية هي قوات تحرير وليست قوات احتلال، والمفجرون هم انتحاريون وليسوا شهداء، والمستهدفون هم مسلحون وليسوا مدنيين.. إلخ، إلا أن رقعة السباق مع المنافسين لم تتسع كثيراً لتشمل نشاطات أخرى. ولفهم حجم الإخفاق الذي وقعت فيه قناة الحرة يجب فهم ما يمثله هذا المشروع من أهمية بالنظر إلى تاريخ تعاطي الحكومات الأميركية مع هذا النوع من النشاطات خلال الأزمات والحروب التي خاضتها في الماضي. في هذا السياق، يمكن وصف قناة الحرة وراديو سوا الموجهين إلى الجمهور العربي بأنهما أكبر مشاريع الاتصال والدعاية الأجنبية التي بذلتها الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية مروراً بالحرب الباردة وحتى يومنا هذا. وصف تقرير للصحافية آلِن مكارثي قناة الحرة بُعيد إطلاقها بأشهر في صحيفة واشنطن بوست، نشر في ال15 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2004 بعنوان: «القناة العربية الممولة أميركياً تجد صوتها»، ب«أنها أكبر مشروع قامت به الحكومة الأميركية لاستمالة الرأي الأجنبي منذ تأسيس صوت أميركا في 1942». نصيب الحرة من المشاهد العربي وعلى رغم أن هذا المشروع هو الأكثر تمويلاً في تاريخ كل مشاريع صوت أميركا VOA، إلا أنه يمكن القول، بالنظر إلى ما تدعمه الأرقام المتواترة من عدد من المراكز البحثية المستقلة، إنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف المنوطة به، بل إن استطلاعات تم إنجازها بعد إطلاق الحرة وراديو سوا لمعرفة أثرهما في صورة أميركا بين العرب أظهرت أن صورة أميركا باتت أسوأ من ذي قبل! ففي دراسة له عن الديبلوماسية الأميركية العامة في العالم العربي أظهر استطلاع قام به الباحث المتخصص في دراسات الصحافة والاتصال الدكتور محمد النووي من كلية الاتصال في جامعة كوينز بولاية كاولاينا الشمالية عن صدقية ما يقدمه كل من راديو سوا وقناة الحرة بين أوساط تلاميذ عرب من خمس دول عربية، أظهر الاستطلاع أن نظرتهم ساءت تجاه سياسة أميركا الخارجية منذ أن بدأوا في الاستماع إلى راديو سوا ومشاهدة قناة الحرة. ليس هذا وحسب، إذ قامت جامعة مريلاند بالتعاون مع مركز زغبي الدولي للأبحاث باستطلاع حول نسب المشاهدة بين القنوات العربية خلال العامين 2008 و 2009. وأظهر الاستطلاع أن قناة الحرة لم تحظَ في 2008 بأكثر من 2 في المئة من نسب المشاهدة، وفي 2009 انخفض هذا الرقم لأقل من واحد في المئة، وهي الأرقام التي ظل مجلس أمناء البث الإذاعي والتلفزيوني في الكونغرس يصر على رفضها بحجة أن لديهم أرقاماً أخرى تدعم رضاهم عن القناة. وبحسب مراقبين فإنه على رغم إلحاح مجلس أمناء البث الإذاعي والتلفزيوني في الكونغرس على رفض أرقام المراكز البحثية المستقلة كما حدث مع جامعة مريلاند ومركز زغبي بحجة قناعتهم أن القناة تملك حضوراً جيداً بين نظيراتها من وسائل الإعلام العربية، إلا أن أوباما بُعيد انتخابه تجاهل قناة الحرة عندما اختار مخاطبة الجمهور العربي حول سياساته في المنطقة ليختار الظهور بدلاً من ذلك على قناة العربية. كان هناك إدراك باكر بفشل قناة الحرة في الأوساط البحثية الأميركية المستقلة التي كانت دائماً ما تناقض في تقاريرها البحثية الصارمة ما كانت تروجه الحكومة حول نجاحات مشاريعها الإعلامية في المنطقة، إذ نشرت مؤسسة بروببليكا غير الربحية والمتخصصة في الصحافة الاستقصائية على موقعها الإلكتروني في 29 أيار (مايو) 2009 تقريراً بعنوان: «استطلاع يكشف: الحرة تعاني نزيفاً في المشاهدين والتمويل يزداد»، تحدث عن قيام مجلس أمناء البث الإذاعي والتلفزيوني نفسه بالطلب من مركز دراسات الديبلوماسية العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا القيام بإنجاز تقرير حول أداء القناة، وخلُص الباحثون في تقريرهم إلى أن القناة تعاني مشكلات كبيرة بحسب وصفهم، إذ فشلت في الوفاء بأبسط المعايير المهنية، وتعاني فقراً في محتوى البرامج، كما تعاني من انحياز واضح في تغطياتها. ولم يرضَ مسيّرو القناة من الجانب الحكومي بما خلص إليه التقرير بل حاولوا حجب نتائج التقرير عن الظهور إلى العموم غير أن الكونغرس أرغمهم على نشره. ولفهم الأسباب التي أدت إلى فشل المشروع الإعلامي الأميركي في المنطقة ممثلاً في قناة الحرة وراديو سوا في تحقيق ولو الحد الأدنى من الغايات التي تم إنشاؤهما من أجلها، يجب التنويه إلى عدد من الأمور التي ربما أسهمت في هذا الفشل. أولاً: التوقيت والظروف التي أحاطت بفكرة تأسيس قناة الحرة وإطلاقها لم تكن في أحسن أحوالها، ولم يكن مهيأ لها الكثير من ظروف النجاح، لاسيما وأنها أتت على خلفية شن الولاياتالمتحدة لحربين شرستين على بلدين إسلاميين هما أفغانستانوالعراق، كما أن الفترة منذ ال11 من سبتمبر وحتى إطلاق قناة الحرة في 2004 شهدت واحدة من أصعب اللحظات التي تم فيها نحت الكثير من الشعارات الجديدة حول علاقة الغرب بالشرق، وبناء تصورات جديدة حول علاقة الإسلام بمفاهيم كالعنف والسلام والديموقراطية، وظهور علاقة متوجسة تجتهد في البحث عن إجابات لأسئلة من نوع: لماذا يكرهوننا؟ مثلما تساءل في أعقاب أحداث سبتمبر الكاتب الأميركي فريد زكريا في مقالته الشهيرة. كان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أحد أهم مجترحي هذه الشعارات، فهو أول من استخدم عبارات مثل «حرب صليبية» و«من لم يكن معي فهو ضدي» وعبارة «محور الشر».. إلخ. ثانياً: طريقة الإعلان والدعاية التي لازمت التعريف بقناة الحرة أو راديو سوا - يشمل ذلك تصريحات المستوى الرسمي بما في ذلك الرئيس بوش - كانت دائماً ما تقترن بالإلحاح على حقيقة أن إنشاءهما إنما يهدف إلى تحسين صورة أميركا، في إيحاء ضمني بأن الهدف ليس تقديم صحافة مسؤولة بممارسة جديدة، بل إن الإصرار على أن هدفهما تحسين صورة أميركا جعلهما يبدوان أشبه بحملة علاقات عامة تمولها الحكومة الأميركية، الأمر الذي جعل أهدافهما موضع مساءلة في شكل دائم. حتى عندما تتناول الصحافة الأميركية موضوع جدوى قناة الحرة، فإن السؤال الرئيس غالباً ما سيدور حول ما الذي يمكن أن تقدمه قناة الحرة لأميركا في المنطقة. إنه سؤال نشاط علاقات عامة بامتياز، ليس من مهمة الصحافة تحسين صورة أحد فالصحافة معنية بإيصال الحقيقة إلى الجمهور بكل جوانبها، والجمهور هو من يقرر بناء على هذه الحقائق هل الصورة التي رآها حسنة أم أنها غير ذلك. عزوف الكفاءات الصحافية عن العمل في القناة إحدى العقبات التي أحاطت بتأسيس القناة رفض كثير من الصحافيين العرب ذوي الخبرة قبول العروض التي قدمت لهم للعمل في القناة لأنهم - حسب ما رأى بعضهم - يرفضون أن يكونوا جزءاً من الدعاية الأميركية في المنطقة، كما أنهم اعتقدوا أنها لن تكون مستقلة وهي تعتمد على تمويلها من الحكومة الأميركية. لقد بدا باكراً في الصحافة العربية الطرح المناوئ للقناة حتى قبل إطلاقها، فهاجمها رجال دين وتوعد سياسيون بمقاطعتها وانتقدها صحافيون. يقول رئيس أخبار القناة والمكلف بجلب الكوادر للعمل في القناة موفق حرب في حديثه إلى واشنطن بوست في التقرير السابق «معظم الصحافيين الذين استقطبناهم كانوا يتشككون في البداية». كان أثر عزوف الكفاءات الصحافية العربية عن العمل في القناة واضحاً بالنظر إلى نوع وجودة الكوادر التي تم جلبها للعمل في الحرة، إذ لم تكن معظم الوجوه التي ظهرت على القناة مألوفة لدى المشاهد العربي، عدا واحد أو اثنين من قراء النشرات من الإعلاميين اللبنانيين الذين في أحسن أحوالهم كانوا معروفين على مستوى جمهور المحطات المحلية التي جاؤوا منها فقط. ففي الخليج على سبيل المثال، استقدمت القناة محمد الجاسم من الكويت ونادين البدير من السعودية وأخيراً سليمان الهتلان من السعودية، وكل هؤلاء لم يكن أي منهم معروفاً تلفزيونياً لدى المشاهد الخليجي فضلاً عن العربي، كما لم يكن لأي منهم أي سابق خبرة في العمل التلفزيوني، وهو ما يشير إلى أحد التحديات التي عانتها القناة في جلب الكوادر.