وكأنّه يُريدُ ألّا يَمضي العامودُ الصحفي الذي ينشره كل خميس في زاوية الصفحة الأخيرة من صحيفة "المساء"، معنون ب"البلادُ التي"، ارْتأى جمال بودومة، الصحافي والكاتبُ والشاعر، أنْ يجعلَ عاموده شاهدا على جُزء من تاريخ المغرب الحديث، فَلمْلم مقالاته المكتوبة بلغة ساخرة، وصّففها بين دفْتيْ كتابٍ وسمه بعنوان "باسم جيل ضائع". بودومة أرادَ لمقالاته أنْ تكونَ شاهدةً على انكسارات وإحباطاتِ جيلٍ مغربيّ كانَ يمتطي قطاراً يقُوده أشخاصٌ، وكانَ يُمنّي النفسَ أنْ ينتهي مسير القطار إلى محَطّة الكرامة والحداثة والحريّة، غيرَ أنّ سائقيه سلَكوا به مسارا آخر غيْر المسار الذي كانَ يحلم به رُكّابه، كما قالَ مؤرّخ المملكة السابق حسن أوريد، في لقاء لتقديم كتاب بودومة. يقول أوْريد "حينما نزلَ جمال وأشباهه من القطار، قيل لهم إنّ الأشخاص الذين قادوه ذهبوا إلى حفل عشاء لاستلام السلطة"، وتابَع مؤرخ المملكة في الماضي والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، أنّ جمالَ وأمثاله من "الجيل الضائع" لم يتبقَّ لهم، بعدَ أن خذلهم سائقو القطار، غيْر أن يُخرْبشوا بأقلام رصاصٍ تسيلُ أمَلا، للتعبير عن أحْلام مهدورة وأمانيَ مُجهضة. غيْرَ أنّ "حالَة الضياع" التي عاش جمالُ ومثاله تحتَ وطأتها، وعانوا من ويْلاتها، لا يجبُ أن تستمرّ –يقول أوريد- مُوضحا أنّ السؤال الذي ينبغي طرْحه هو: هلْ يجبُ أن يظلّ "الجيل الضائع يُخربش بأقلام الرصاص، أمْ عليْه أنْ ينتقل إلى قيَادة القطار الذي منّى النفسَ ذاتَ يوم أن يقودَه إلى الكرامة والحرّية، ويحُلّ محلّ الذين قادوه إلى وجْهة أخرى وخذلوا ركّابه؟". وأجابَ أوريد عن هذا السؤال بالقول إنّ الأجيال القادمة لا يجبُ أن تُتْرك بدون بوْصلة، وتُتْركَ لتعُبّ من كأس المأساة التي عبّ منها "الجيل الضائع"، وتابع "لا فائدة من كتابِ "باسم جيلٍ ضائع"، الذي قالَ إنّه كتابٌ جدير بالقراءة، إنْ لم يكنْ هذا النّوع من الكتابة التي تمتَحُ من المعاناة والآلام حافزاً لأجْل طرْح الأسئلة الحارقة والسعي إلى إيجادِ الحلول لها". وتحدّثُ أوريدُ عن كتاب "باسم جيل ضائع"، وهو ثاني كتابٍ لجمال بودومة بعد كتاب "كيف تصبح فرنسيا في خمسة أيام"، قائلا إنّ قلَمَ جمالَ يغمِسُ من محبرة أمَلٍ تفيضُ سخرية، وكتابه يُعتبر تأريخا لمرحلة مفصلية من تاريخ المغرب، ورسالة إلى الجيل الجديد حتى لا تتكرّر مأساة "الجيل الضائع"؛ وزادَ "نريد جيلا ببوصلة، ولنْ يتحقّق هذا إلا بِقِيَمٍ جامعة تقودها نُخبٌ واعية ومسؤولة". وحمّل أوريدُ مسؤولية "الضياع" الذي عانى منْه جيل بودومة للنّخبة، بمختلف مشاربها، قائلا "حينَ تنْكَبُ النخب السياسية والثقافية عن دوْرها، تصير الأجيالُ ضائعة. وانطلقَ الصحافي سليمان الريسوني في قراءته لكتاب "باسم جيل ضائع"، خلال لقاء تقديم الكتاب بالمكتبة الوطنية بالرباط، من ثلاثة مداخل، هي الجيل والهوية والسخرية، فأمّا الجيل –يقول الريسوني- فقد جاء كتابُ بودومة بعد سنوات من كتاب "جيل الدمار" لمؤلّفه محمد عزبز الحبابي، قائلا إنّ مفهوم الجيل عند بودومة له معنى آخر، غيْر المعنى الذي أسبغه عليه الحبابي. واعَتبرَ الريسوني في قراءته للهوية في كتاب "باسم جيل ضائع"، أنّ الجيلَ الذي سبق "الجيل الضائع"، أيْ جيلُ ما قبْل الاستقلال، "كانَ يلعبُ بالسياسة، بيْنما حصلَ العكس ل"جيل الضياع"، الذي لعبتْ به السياسة بَدلَ أن يلعبَ بها، وأضاف أنّ الجيلَ الأوّل كان "جيلَ دمار"، كما وصفه محمد عز الدين الحبابي، بينما الجيلُ الجديد "هو جيلُ التقنيّة، يلعبُ بها وتلْعبُ به". وخصّ الريسوني المدخلَ الثالث في قراءته لكتاب "باسم جيل ضائع"، للسخرية، التي اعتمدَها بودومة للتعبير عن الواقع المغربي، وقال إنّ الكتابة الساخرة ليْست عربيّة، كما قالَ بودومة، وأشار الريسوني إلى أنّ الواقع المغربي لا يقبل الاختلاف، "لذلك وجدْنا أنفسنا أمام كتاباتٍ ساخرة أقْربَ إلى الهجو". وتوقّفَ مُؤلف الكتاب عن الدوافع التي جعلتْه يفكّر في لململة مقالات عامود "البلاد التي" بيْن دفّتيْ كتاب، قائلا إنّ العامودَ الصحفي يكون سجاليّا في مضمونه لحْظة نشره، غيْر أنّه قد لا يصيرُ له مبرّر بعد مُضيّ وقْتٍ، وهو ما دفع به إلى طرْح سؤال "هل جميع المقالات صالحة للنشر أم لا؟"، قبْل أن يعمَد إلى تقسيمها إلى أربعة محاور، تبعا لمضمون كل عامود. واعتبرَ بودومة أنّ كتابة العامود الصحافي تختلف عن تأليف كتاب، "فقد تؤدّي الجرأة أحيانا إلى الإساءة إلى أشخاص في لحظة"، يقول بودومة، مضيفا أنّ إعادة نشر المقالات في كتابِ يتيح الفرصة للكاتب لتنقيحها. وتحدث بودومة عن الكتابة الساخرة قائلا إنّها تحارَب كثيرا في مجتمعات كالمغرب، وأضاف أن الكاتب يفقد أحيانا القدرة على السخرية بتوالي الاصطدامات مع السلطة.