ما الفائدة من حمل البالغين و من فاتهم قطار التربية النظامية على ترديد "دبدب" و "فرفر" و "بسبس" إذا كان اكتسابهم للغة سيبويه لن يفيدهم إطلاقا في استجلاء مضمون فواتير "اتصالات المغرب" و تذاكر "المكتب الوطني للسكك الحديدية" وبرامج رحلات "الستيام" و مراسلات "ليديك" و غيرها من المؤسسات المفرنسة ( و ما أكثرها) ؟ لماذا نصر على محاربة الجهل الأبجدي بالعربية إذا كانت جولة سريعة بشوارعنا و فضاءاتنا العمومية أو نظرة خاطفة على العديد من برامجنا التلفزيونية تكفيان للتأكد من أن الجهل باللغة الفرنسية هو عنوان الأمية الحقيقية بهذا الوطن ؟ إن كل من يعاين واقع المجتمع اللغوي من مغاربة وسياح ومقيمين أجانب على حد سواء يستنتج دون كبير عناء بأننا لم نسترجع بعد سيادتنا بالكامل على لغتنا الوطنية على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على استقلالنا وبأننا لا نحن في زمرة العربفونيين و لا نحن في زمرة الفرنكفونيين، بل نحن شعب تائه لم يتمكن بعد من رسم إستراتيجية لغوية مدروسة وواضحة تعكس هويته بالدرجة الأولى وتمكنه ثانيا من تصريف شؤونه اليومية بشكل طبيعي وانسيابي. وإذا كان من المقبول التجاؤنا إلى اللغة الفرنسية في سياقات علمية و مهنية محددة و مغلقة لفهم المستجدات التقنية المرتبطة بالكثير من الإختصاصات العصرية بسبب عدم جاهزيتنا لاستيعابها في الوقت الراهن بلغتنا فإنه لا شيء يبرر إطلاقا استمرار استعمالها في أبسط الأمور من قبيل تحرير التقارير والفواتير و المراسلات المهنية واليافطات و اللافتات والإعلانات الإدارية و الوصلات الإشهارية وإدارة الاجتماعات واللقاءات والمهرجانات وحساب الضرائب وعقد الصفقات التجارية المحلية وإعداد مختلف أنواع المطبوعات وتنشيط البرامج التلفزيونية والإذاعية وإصدار المذكرات الوزارية ... وحتى في التواصل العادي في بعض الأحيان. بل من العار التمادي في اعتماد لغة المستعمر ولو جزئيا في إنجاز الوثائق الإدارية الرسمية وخاصة السيادية منها التي تهم هوية الإنسان المغربي وممتلكاته على أرض وطنه و التي لا يدلى بها في الغالب إلا داخل الحدود أو بالمصالح القنصلية المغربية بالخارج. والطامة العظمى أنه في الوقت الذي عمدت فيه الدولة إلى تعريب التعليم بأقسامه الإبتدائية والإعدادية والثانوية راحت تكرس فيه استعمال اللغة الفرنسية بالتعليم الجامعي وبالحياة العامة مما أفرز حالة من اللاتصنيف اللغوي والحضاري بالبلاد ربما لا مثيل لها بالعالم بأسره ودفع بالعديدين- حتى في صفوف النخبة- إلى الحديث عن فشل سياسة تعريب التعليم عوض الحديث عن غياب نية حقيقية وإستراتيجية واضحة لتعميم استعمال لغتنا الوطنية في مختلف القطاعات الإدارية والإنتاجية و التعليمية. فلماذا إذن نلح على تدريس تلامذتنا الجار والمجرور والمجرد والمزيد واللازم والمتعدي والمفعول المطلق والمفعول لأجله وأخوات "كان" وبنات خال "إن" إذا كانوا سيصطدمون فيما بعد بواقع تمجد فيه لغة الأجانب وتحتقر فيه لغتنا اادستورية؟ ما الفائدة من وجود مكتب الدراسات و الأبحاث للتعريب بالرباط إذا كانت أعمال الباحثين به تظل حبيسة الرفوف وذاكرة الحواسيب ؟ ولماذا تم إحداث مدرسة الملك فهد العليا للترجمة ؟ هل لتكوين طلبتها ثم تصديرهم إلى الخارج أم لإعدادهم للمساهمة في خدمة اللغة والثقافة الوطنيتين و تلبية الحاجيات في مختلف المجالات ؟ والحال أننا نعيش في زمن تتعرض فيه لغتنا الوطنية أي لغة القرآن الكريم و الحضارة الإسلامية لمجزرة رهيبة الهدف من اقترافها هو تحويل هذه اللغة إلى مجرد قطعة من الفولكلور صالحة للاستهلاك الديني لا غير دون أن تكون لها امتدادات ملموسة على مستوى الحياة العامة التي تعطي ملامحها الانطباع بأن الاستلاب الثقافي الفرنسي بالبلاد أمر واقع يلمسه حتى الرضع من أبناء شعبنا، و هو يتكرس يوما بعد يوم على المستويين الرسمي و الشعبي (و طبعا ما كانت الأمور لتتكرس شعبيا لو لم تتكرس رسميا أولا) إلى درجة أننا أصبحنا أكثر فرنكفونية من الفرنسيين أنفسهم و إلى درجة أن مجرد اقتراح استعمال اللغة العربية في بعض المحافل أو القطاعات قد يعرض صاحبه إلى سخرية المتلقين ... المغاربة. وما يحز في النفس أيضا أن حتى التربية على المواطنة تكون في بعض الأحيان بالفرنسية في هذا الزمن الرديء و لا أدل على ذلك من الوصلات التحسيسية التي تبثها بين الفينة و الأخرى مختلف وسائلنا الإعلامية و التي تحث المواطنين على اجتناب التسبب في نشوب الحرائق بغاباتنا أو الإسراع بالتسجيل باللوائح الانتخابية أو احترام قوانين السير إلخ علما بأنه لا يوجد بيننا نحن المغاربة المسلمين من يحمل اسم ميشال أو موريس أو نيكول أو إيزابيل... و الله أعلم. و طبعا من خطرت بباله هذه الوصلات و أعطى تعليماته لإخراجها إلى الوجود لا يمكن إلا أن يكون مقتنعا بأن بناء مغرب اليوم و الغد ممكن بالفرنسية فقط و ليس بلغة الزمخشري و ابن خلكان التي أضحت بالنسبة للكثيرين بمثابة عضو متعفن من الجسد المغربي وجب بتره. وحتى لو افترضنا أني أسبح ضد التيار أو أن ثمة أسبابا و دواع منطقية لا يمكن القفز عليها و لا يمكن إلا أن تكرس الوضع اللغوي القائم، ألا يجدر بدولتنا أن تتحلى بالشجاعة و تبادر بالتالي إلى دسترة اللغة الفرنسية على غرار ما فعلته السنغال و الطوغو و مالي وغيرها من المستعمرات الفرنسية السابقة بإفريقيا التي يبدو أننا وجدنا فيها نموذجا لما يجب أن يكون عليه التخطيط في مجال اللغة على الأقل لرفع التناقض القائم بين ما ينص عليه دستورنا و ما ينطق به الواقع بخصوص هويتنا اللغوية الرسمية حتى يصبح تصنيفنا واضحا و حتى نضفي مسحة من المشروعية على كل ما تتفوه به أفواهنا و تخطه أقلامنا و تنتجه حواسيبنا و مطابعنا من نصوص فرنسية ؟ إني أعترف بما أسدته ولازالت تسديه لنا اللغة الفرنسية من خدمات قيمة. فبفضلها أصبح لنا موطئ قدم في عالم التكنولوجيا المعاصرة، و بواسطتها ربطنا علاقات متميزة مع جزء مهم من العالم المحيط بنا وخاصة دول وشعوب إفريقيا الفرنكفونية وبعض الأقطار الأوروبية. كما تمكنا بفعل دراستها من اكتشاف مختلف أنواع الفنون الفرنسية و العالمية من خلال أعمال خالدة أهلتها قيمتها الفنية والتاريخية والجمالية وبعدها الإنساني لتصبح ملكا للإنسانية جمعاء. الأكثر من هذا و ذاك، نحن فخورون بمستوى الصداقة التي تجمع بين المغرب و فرنسا على المستويين الشعبي و الرسمي ومسرورون بمختلف أشكال التعاون القائم بين البلدين . لكن، أن تتحول علاقتنا بلغة موليير إلى علاقة حب شاذة إلى درجة أن كل من يتعلمها أو يوظفها في عمله (و خاصة في صفوف النساء) ينزلها منزلة لغته الأولى و واجهة حضارته الجديدة، و إلى درجة أن التفكير لا يتم إلا بها في العديد من المواقع، و إلى درجة أن الإرتقاء الاجتماعي يكاد يكون مشروطا باكتسابها، وإلى درجة أن استعمال لغتنا يكاد يكون ممنوعا بالعديد من المحافل، و إلى درجة أن الكثير من فنانينا وعلمائنا ومفكرينا ومسؤولينا بل وحتى بعض وزرائنا لا يواجهون الجمهور باعتماد لغته، و إلى درجة أن جل فضاءاتنا المفتوحة أصبحت "ملطخة" بالحرف اللا تيني على حساب الحرف العربي، و إلى درجة أن ولوج قطاعات واسعة من سوق الشغل مستحيل على كل من لا يجيد ترديد ميغسي و بونجوغ و بونسواغ ...فهذا أمر بقدر ما يثير الضحك فإنه يستدر الدموع أيضا ويدفعنا من جديد إلى طرح سؤال الإستقلال اللغوي بالبلاد بإلحاح. وبناء على ما سبق أظن بأنه من الضروري تذكير أصحاب القرار على اختلاف درجاتهم و مواقعهم بأن الإهتمام الفعلي بلغتنا الوطنية وتكريس استعمالها في الحياة اليومية والعمل على تطويرها والإرتقاء بها وإقامة إطار قانوني يحكم استعمالها وتربية النشء الصاعد على الاعتزاز بها هو واجب وطني لا يقبل المناقشة وخطوة أساسية على درب إعادة الإعتبار لواحد من ثوابت الأمة وإجراء ضروري للمساهمة وبشكل ملموس في تلميع صورة المواطنة بالبلاد ، أما الاكتفاء بوضع حروفنا العربية على لوحات تسجيل سياراتنا فهذا مجرد ذر للرماد في العيون و محاولة فولكلورية يائسة لتأكيد هويتنا اللغوية الرسمية. المسألة إذن مسألة منطق و دعوة إلى ركوب نواميس الطبيعة. فالكلاب لا تموء و القطط لا تنبح والعصافير لا تزأر و الأسود لا تزقزق . وفي انتظار غد أكثر تصنيفا، و إلى حين اقتناع الجميع بأن انسجام المجتمع مستحيل في ظل وجود أكثر من لغة رسمية واحدة تتطور مع الزمن و تستجيب لحاجيات المواطن المعيشية و المعرفية و الترفيهية، و إلى حين اقتناع الجميع أيضا حكومة و شعبا بأن التعبير عن حب الوطن لا يكون إلا بلغته و ليس بلغة الأجنبي الغريب، ما على المستفيدين من دروس محو الأمية سوى مواصلة ترديد "دبدب" و "فرفر" و "بسبس"... و من سار على الدرب قد يصل و قد لا يصل.