أين الإنسان؟وأين الإنسانية؟ وتساؤلات أخرى في حياتنا المشتركة، المفرغة من عمقها الإنساني..وهي مفرغة، رغم أن عصرنا تكنولوجي متطور، تحت ظلال حتمية التعايش.. ومفرغة، رغم أن عالمنا فضاء مفتوح للجوار، والتقارب، والتنقل، والبيع والشراء، وطلب العلم، ومن ثمة قبول الآخر، كما هو.. والجهل بالعمق الإنساني، والقاعدة الإنسانية، تسبب عبر العصور في كوارث للجنس البشري، حيث أن حضارات انقرضت ولم يعد لها وجود إلا في شكل مآثر تاريخية.. والأسباب تتجسد في الكراهية والعنصرية وفي حروب بلا حدود.. وما زالت المصالح تنتج مزيدا من التجاهل، واللاإنسانية، وتهدد الكرة الأرضية بالانفلات من مدارها، بل تهدد كل الحياة بالزوال.. ولم يعد التعايش مجرد مطلب حقوقي، بل هو من أهم ضرورات الحياة.. فإذا لم نغير نحن البشر سلوكنا تجاه أنفسها وتجاه الآخر، بحيث نحترم بعضنا مهما كانت اختلافاتنا، فإننا منزلقون حتما، وجميعا بدون استثناء، إلى زوال مؤكد، لأن الكرة الأرضية لم تعد قادرة على تحمل كل هذا الطيش الدولي الحاصل في كل مناحي حياتنا المشتركة..والطقس يهدد البشرية بالطوفان..والحروب مشتعلة في كل مكان.. وأسلحة الدمار الشامل مكدسة هنا وهناك بدون مبرر معقول.. والدول الكبرى تتدخل في حقوق كل الشعوب.. والسياسة الدولية لا تصنع إلا مزيدا من الخلل االعالمي، على المستوى الاقتصادي والعلمي والاجتماعي وبقية مناحي الحياة... إن التكنولوجيا قد صنعت حضارة قادرة على جعل كل الناس يعيشون حياة مشتركة سوية، وجعل الأجيال تتطور أكثر فأكثر بفضل ما تقدمه العلوم من رؤى مستقبلية للجميع، ومن تنوير للفكر، وفهم لمنطق الحياة..لكن كمشة من أثرياء العالم حرفت مسار هذه الإنجازات العلمية الكبيرة، وأصبحت هي تتحكم في منطق السوق، وبالتالي في مصير ملايير من البشر..ولا يتردد منطق السوق في تحويل أغذية كثيرة فائضة إلى نفايات في البحر، بينما ملايير من البشر يئنون تحت كوابيس الفقر المدقع..ها هي العلوم في قبضة ثلة من البشر.. وفي خدمة مصالح شركات عملاقة..إنه الظلم يطال العمق الإنساني.. ويهدد الكرة الأرضية بالزوال.. السياسة الدولية لا تعتبر الإنسان محورا للحياة، بل مجرد سابح في فلك الاقتصاد..وهذا ينعكس سلبا على سياسات الدول الصغيرة، حيث الضغوط تنتج مشاريع في شكلها تنموي، وفي عمقها قلما تدور حول الإنسان.. الإنسان مجرد آلة في خدمة التنمية، وليست التنمية في خدمة الإنسان..وما دام الإنسان لا يشكل محورا حقيقيا للسياسة، فإن حضارة العصر ليست مضمونة العواقب..وبتعبير آخر، هي مهددة بالزوال..حتما ستنهار.. ستنقرض، كما انقرضت من قبلها حضارات..حضارات انهارت لسبب واحد هو: تجاهلها للإنسان، ومن ثمة للإنسانية..وما وقع لسابقين، يقع لنا أيضا نحن اللاحقون..نحن اليوم بدون عمق إنساني.. والنتيجة أن عالمنا المعاصر في أزمة تواصل بين المرْ ونفسه، وبين الجيران، والأحياء، والشعوب، والدول..كلنا في أزمة تواصلية عالمية.. والإنسان أصبح غريبا في كوكب الإنسان.. تحول إلى مجرد رقم من الأرقام..وفي هذه المعادلة، أصبحت الدولة العصرية لا ترى في الإنسان إلا أداة انتخابية، وأداة استهلاكية، وأداة استغلالية..هذا هو المنطق السائد حاليا في كل أرجاء العالم، بسبب غطرسة السياسة الدولية..إنها عولمة الاستهتار..استهتار بكل ما هو إنسان.. وإنساني..عولمة تكرس للإنسانية مفهوما آخر: هو مفهوم الصدقة.. التظاهر بالرحمة والشفقة وغيرها من المظاهر، علما بأن الإنسانية ذات مدلول أوسع، يتضمن الحقوق والواجبات، وأيضا عدالة ونزاهة الدولة من حيث حماية الإنسان في الإنسان، والإنسان من الإنسان، والتربية والتعليم على الإنسانية، والعمل في مناخ إنساني، والحياة في سعادة إنسانية.. فأين هي حقوق الإنسان في السعادة؟إن الناس في كل مكان من كوكبنا متوترون.. قلما يبتسمون.. وترى التلفزات تقوم بالإضحاك الاصطناعي.. وقد يضحك المتفرج.. ولكنه يفتقد ضحكة الأعماق..الناس لا يضحكون من الأعماق..الناس غير مرتاحين لمسار حياتنا المشتركة..والسبب هو أن الإنسان مغيب من سياسات التنمية..العولمة صنعت في المجتمعات فراغا نفسيا.. فراغا في القلب والعقل والروح.. وهذا أنتج واقعا خاليا من العمق الإنساني المطلوب..ونحن مجرد تابعين للعولمة الصماء البكماء.. نأتمر بأمرها.. ونسلمها كل المفاتيح..ونيابة عنها نؤدي كل الفواتير.. وأبواقها تكذب علينا بالليل والنهار..ونحن اليوم في صلب مجتمع المعلومات.. مجتمع يستيقظ على الكذب.. ويقضي النهار في ترداد معلومات وأخبار كاذبة..هو يقفز من كذب إلى كذب.. ويكذب حتى على نفسه، ويصدق كذبته..ثم يعود المجتمع إلى فراش النوم، وقد استهلك كل سموم التضليل..وهذا ما ركز عليه المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي الذي حدد 10 استراتيجيات للتحكم في المجتمعات، ومنها الإلهاء، أي تحويل انتباه الرأي العام عن مشاكله الحقيقية، وشغله بمعلومات تافهة..وهذه بالذات هي عقلية العولمة.. عقلية تجعل المرء في أقطار كثيرة، يقضي أياما تلو أخرى، وشهورا وأعواما، وعقودا، وهو يجتر كل شيء.. وقد يعرف الكثير.. وفي نفس الوقت لا يعرف أمرا أساسيا: هو الإنسان.. فهو لا يبحث.. لا ينتج.. لا يبتكر.. لا يخترع.. هو مجرد تابع.. مجرد مستهلك.. وإذن، أين الإنسان في هذا المستهلك؟ أين الإنسانية فينا؟ - لا بد لنا جميعا من قواعد جديدة.. علينا بالتفكير سويا في حضارة جديدة قوامها الإنسانية.. سياستها تدور حول الإنسان، لا حول استغلال الإنسان.. والاستهتار بعقل الإنسان.. وذوق الإنسان..يجب التفكير بجدية، قبل فوات الأوان، في بناء الإنسان فينا.. إنسان حقيقي.. لا شبه إنسان..إنسان يكون هو محور التنمية.. أية تنمية..وأن يكون حاضرا، كمفهوم إنساني، في كل سياسات الدولة، أية دولة..أما العولمة بالمفهوم الذي يسوقونه لنا، فهذه تنمية بلا إنسانية.. تنمية يذهب حصادها إلى شركات عملاقة.. ونبقى نحن مجرد متفرجين: أدوات استهلاك وابتزاز واستغلال.. وعندما نمرض أو حتى نموت، لا يعبأون بنا.. يأتون بغيرنا ليشغل مهمة شبه إنسان..وهكذا تتلاحق الأعمار.. وفيها مجرد أشباه.. أشباه إنسان.. في تنمية اللاإنسانية.. [email protected]