حلت عقارب العالم بتاريخ جديد..جديد في رقمه.. وليس جديدا في عمقه..هو امتداد لعقلية الربح السريع الذي تقوده صناديق سوداء..إننا في عمق المظاهر.. والإشهار.. والقولبة.. وما يواكبها من إفساد..زمن يطغى عليه الذكاء التحايلي.. ذكاء النصب والاحتيال..فضائيات تعطي الانطباع بأن كل شيء متوفر.. كل شيء موجود..وفي العمق، ما هذه إلا بالونات.. حياة مصطنعة.. مظهرية.. شكلية..وتغيب عنها بهجة الأعماق.. سعادة الإنسان..ويغيب العمق الإنساني..وهذا مكمن الخطر.. وإذا لم نتغلب على عقدة المظاهر، ونعد إلى بساطة الحياة، والتفاعل الإيجابي مع الطبيعة، فلن يكون قدوتنا لا علم ولا أخلاق ولا عمل، بل من يكسبون الثروة بدون عمل..وعندها يكون القدوة هو التظاهر بالعمل، وليس العمل..وما أكثرمن يتظاهرون، وهم يكسبون بلاعمل، في زمن السباق الدولي المصطنع.. زمن بيع الأحلام.. وتضليل الناس..زمن فيه كل الشكليات، إلا الأعماق.. فيه كل الواجهات، إلا السعادة..كل الآليات، إلا الإنسان..حضارة تهمش الإنسان، لتتشبث بقشور إنسان..حضارة تبتكر الروبوتات، والفيروسات، وتشعل الحروب، وتقتل الكائنات، والنباتات، وتدمر الهواء والماء، وكل ما هو حياة على الأرض، بل تهدد الأرض نفسها..هذه حضارة مجنونة.. حضارة الانتحار.. وليست حضارة الحياة..وإذا لم نعد إلى الإنسان فينا، والإنسانية في حياتنا المشتركة، فسنبقى مجرد ببغاوات في عالم شكله متحضر، وفي واقعه هو جد متخلف..وسيكون مآلنا مع هذه الببغاوات هو نسف الأرض ومن عليها.. ما الحل؟الحل هو أن يكون الإنسان محور كل سياساتنا العالمية والمحلية، وكل مشاريعنا، وشراكاتنا، وكل ما هو تنمية..من هنا يجب أن نبدأ.. لقد دخلنا في سباق مجانين.. سباق إلى الربح بدون عمل..ومن مدرسة العولمة الطائشة يتعلم أطفالنا كيف يصبحون أثرياء بدون عمل، أي فقط بمعرفة كيفية إدارة أرقام.. ومع المدرسة يأتي المنزل، فالإعلام الجديد، والمؤسسات بكل اشكالها وأنواعها، والأنترنيت والهاتف ومتاجر الحظ واللعب بالأرقام..كلها أدوات تعلم كسب المال بدون عمل..الكل في حلبة السباق إلى الثروة السريعة، بلا عمل..مجتمع جديد في طور التكوين..مجتمع عالمي منحرف لم يسبق له مثيل.. أناني، لا يعير اعتبارا للآخر..ونحن نساهم في صياغته للمستقبل، تحت يافطة التطور..نحن أيضا واقعون في الفخ الذي وضعته لنا سياسة دولية تقودها شركات عملاقة لا يهمها الإنسان، ولا الإنسانية، بل فقط أن يساهم الجميع في تكديس ثرواتها أكثر فأكثر، لكي تستطيع أن تشتري الجميع، وتحول سكان الأرض إلى مجرد خدام مستهلكين.. ونحن انتقلنا من البيت البسيط المفتوح على الأفق، ودخلنا في عالم الصناديق.. وفي هذا السياق يقول الفلاح الفيلسوف الفرنسي ذو الأصل الجزائري (بيير ربحي): النموذج التطوري الحالي أبعدنا عن الطبيعة، وأدخلنا في سلسلة من العلب، من المهد إلى اللحد.. بعيدا عن الإنسان فينا والإنسانية.. انخرطنا، عن وعي أو بلا وعي، في العولبة الدولية للمجتمعات..وعندما نتساءل: من المستفيد؟ نجد المستفيد ذلك اللاهث إلى مزيد من الثروة..وعندما يتدخل النفسانيون، يجدون أن اللاهث نفسه يبتعد عن إنسانيته، ومن يساهم في لعبة الإثراء يفقد إنسانيته ويتحول إلى مساهم في تراكم مزابل الاستهلاك..وما كان الثراء عيبا لو لم يبتعد عن الإنسان..العيب في تهميش الإنسان وتحويله إلى مجرد منتج للنفايات.. هنا يكمن العيب.. ويجثم الخطر على الحياة..وهذا هو السبب الأساس في جعل الكرة الأرضية لا تزداد إلا تلوثا، والإنسانية لا تزداد إلا تقهقرا، والتكالب على الثروة السريعة لا يزداد إلا انتشارا في أوساط كل الفئات، بدون استثناء..في حين يستطيع العالم أن يعيش بسلام، وأن يعيش كل الناس بمدخول لائق، وفي كرامة إنسانية..الكرة الأرضية قادرة على إعالة الجميع..وليس العيب في الطبيعة، فالطبيعة تجدد نفسها بنفسها، وتستطيع أن تحافظ على نفسها..العيب في من استحوذوا على ثروات العالم، وأفقروا الناس، وطوقوا الطبقة المتوسطة، وتمكنوا من تحويل المجتمعات إلى فئتين لا ثالث لهما: فقيرة وغنية..وهذه الحالة لم يسبق لها مثيل بهذه البشاعة، في حياة الطبيعة على الأرض.. لماذا؟ لأن التفقير تحول إلى استراتيجية دولية ممنهجة.. استراتيجية التضليل، ونهب الثروات، واغتيال البيئة الطبيعية، ونشر ثقافة الكسب السريع..والكسب السريع جعل الثروة المنهوبة هي القدوة..هذه ظاهرة غير طبيعية.. حالة مرضية مزمنة..حالة فيروسية حاضرة في أحلامنا، من المهد إلى اللحد..ولم تعد الأخلاق تقود الأمم.. أصبحت الأوراق في المقدمة..ونتج عن هذه الحالة كون الناس لم يعودوا يعرفون بهجة الحياة، كما كان الآباء والأجداد، بل كما كان الإنسان البدائي الأول..وفي شوارع العولمة، قليلون من يبتسمون..وحتى من يملكون ثروة غير طبيعية، لا يعرفون سعادة حقيقية..وإذا استطاعوا شراء أي شيء، فحتما لا يستطيعون شراء سعادة الأعماق، لأن هذه ليست سلعة قابلة للبيع والشراء..السعادة الحقيقية لا تعطيها الأوراق البنكية، تعطيها الطبيعة: أمنا الأرض.. والعودة إلى الحياة الطبيعية، مع إدماج الإنسان في كل السياسات، وحدها قادرة على إعادة الابتسامة للحياة..إن كل السياسات تتحدث عن التنمية، والتطور، ولا تعبأ بالإنسان، رغم أن الأصل في الحياة الاجتماعية هو الإنسان.. ومن أجل سعادة الإنسان تستطيع الأمم أن تنهض نهضة يشعر فيها الجميع بالاعتزاز..السياسات لا تعترف بالإنسان..تعترف فقط بالحديد والإسمنت والشركات العابرة للقارات..وهذه العقلية مدمرة للعمق الإنساني، وبالتالي لا تصنع سلاما على الأرض، بدليل أن الحروب لا تزداد إلا انتشارا في كل القارات، والأسلحة تتسرب إليها من هنا وهناك..وباعة الأسلحة العالمية معروفون.. وأصلا، ما فائدة الاسلحة؟هي قاتلة.. تحرق الأخضر واليابس.. ومن المستفيد؟هو نفسه من يقولب الناس في كل أرجاء العالم..ومن يبتكر الاحتياج لكي يبيع أكثر..وهو نفسه من يحول الناس إلى مجرد خدم..هذه العقلية تجعل التطور لا يخدم الإنسان، بل يخدم فقط صناديق سوداء..إن الحاجة ماسة لرؤية جديدة للحياة، بحيث لا يكون الإنسان مجرد فرع، بل يكون الإنسان هو الجذع.. هو الأساس..وهذه العودة إلى الإنسان، وبالتالي إلى إنسانية الإنسان، تستطيع أن تنقذ الكرة الأرضية من دمار شامل.. ولم تعد أمام العالم إلا فرصة واحدة، هي العودة إلى الإنسان.. [email protected]