أحد الجوانب الأكثر مأساوية في الانفجار الحالي لما يسمى بتنظيم "الدولة الإسلامية" هو التطهير العرقي الديني الذي ترتكبه هذه الطائفة السنية التي نصبت نفسها خليفة. هذا بالإضافة إلى أحداث القمع الأخيرة التي عاشها المسيحيون الأقباط في مصر، والتراجع المتزايد في صفوف الأقليات الدينية في سوريا، بما في ذلك المسيحيين والدروز. الحقيقة أن هناك الكثير من الأقليات الدينية في الشرق الأوسط شاهدة على حقيقة أن على الرغم من العداوات الطويلة الأمد، فالجماعات العرقية والطوائف الدينية التي لا تعد ولا تحصى عاشت في سلام، بل حتى ازدهرت في هذه المنطقة خلال 1500 سنة من هيمنة الوجود الإسلامي في المنطقة. ثراء الثقافة يبرز حيث تكثر الطوائف القديمة واللغات الغامضة، التي تظل على قيد الحياة في كثير من الأحيان في المجتمعات المحلية الصغيرة للغاية ، التي سبقت المسيحية والإسلام واليهودية، والتي ليس لها مثيل في أوروبا. الديانة الإيزيدية، على سبيل المثال، التي تنتمي إلى بلاد ما بين النهرين، ثم الآرامية لغة السيد المسيح التي لا تزال حية بالقرب من القرى القريبة من دمشق. هذا لا يعني أن الشرق الأوسط الإسلامي قد كان مكاناً حيث ينتشر التسامح، فتاريخه لا يخلو من اندلاع العنف العرقي الديني، ولكن على العموم، كانت هذه الأشياء نادرة الحصول. فقد تزاوج السنة والشيعة وتداخلوا لألف سنة بصرف النظر عن بعض الأحداث القليلة التي تأتي بنوبات من القمع، كما ازدهرت اليهودية في الشرق الأوسط المسلم، وكان للمسيحية تواجد لا مثيل له في أي مكان آخر. في أوروبا الغربية الحديثة، حيث تراجعت فكرة القومية وظهرت الديمقراطية الشعبية، التي تأسست على فكرة أن كل دولة لها لغة واحدة، شعب واحد ودين واحد. راهن الحكام الأوروبيين على مطالبتهم بالسلطة الأخلاقية العالمية والعقيدة الدينية، واعْتُبر كل التابعين للكنيسة الأرثوذكسية مشتبها فيهم، وقد اضطهدوا أحيانا، وفي بعض الحالات تمّ القضاء عليهم. واستُهدفت الجاليات المسلمة واليهودية كثيراً، كما تم القضاء على الجماعات المسيحية. وأدى الانقسام البروتستانتي الكاثوليكي إلى سلسلة من الحروب الدموية، وحتى الأيديولوجيات العلمانية التي ظهرت في القرن الماضي، مثل الستالينية والفاشية، لم تكن أكثر تسامحاً. في منطقة الشرق الأوسط وغرب المتوسط، منذ فترة طويلة تمّ اعتماد التنوع الديني كجزء من ثقافة المنطقة باعتبارها ضرورة عملية. الدولة هنا هي تصور تقليدي باعتبارها مجموع الطوائف العرقية والدينية المتميزة، مع مجموعة واحدة مهيمنة وأخرى تابعة رسميا. تاريخيا، كانت الأقليات أو المجتمعات المحلية "المحمية"، ذات حقوق منصوص عليها في القانون، ونُظمها الخاصة موازية للعدالة. وكمثال، فإن المسيحيين الأقباط في مصر لم ينجوا في الإبقاء على تواجدهم فحسب، بل حافظوا على التماسك وعلى هويتهم وحتى نفوذهم في قطاعات إدارية ومالية، حتى يومنا هذا. وهذا يعكس نموذجا مختلفا تماما عن تسوية سياسية كتلك التي وضعت في الغرب، كما أنه قد يبدو رجعيا بالنسبة لنا. لكنه نموذج عمل بشكل فعال لمدة 14 قرنا. انهيار التسامح الديني والتعددية في الشرق الأوسط اليوم ليس مظهرا من مظاهر الهمجية الإسلامية أو دليل على العودة إلى العصور الوسطى، كما أن محفزات هذا التراجع ليست دينية، بل لعله من أعراض ما نسميه التحديث الذي يدخل في إطار القومية. فاليوم، يبدو أننا نشهد عملية إعادة القومية في باقي دول الشرق الأوسط، وإذا كان هذا هو الحال، فيمكننا أن نتوقع المزيد، خاصة في ظل احتمال عودة "بربرية القرون الوسطى" على الأقل خلال المدى المتوسط. ولكن ما هو البديل؟ أيجب علينا دعم الأنظمة الاستبدادية التي تعتبر في حد ذاتها قمعية؟ وهل نريد أن يصبح الشرق الأوسط مستعمرة من قبل النخب الوهابية؟ الدروس من ماضينا ليست مشجعة، فقد استغرق الأمر في أوروبا 500 سنة (والعد مستمر) من أجل وضع حدود للبربرية، فنصف الألفية مرّت على شكل حرب وإبادة جماعية. وحتى الآن، وباستمرار كراهية الأجانب والعنصرية ومعاداة السامية وكراهية الإسلام، تبيّن أن مجتمعاتنا لم تنجح بالكامل من خلال تحديات التنوع. والواضح أن الشر الذي يسكن قلب "الدولة الإسلامية" هو الشر نفسه الذي تربص ويتربص بقلوب البشرية جمعاء.