من مفارقات التاريخ المعاصر، أن الحركتين القوميتين السياسيتين الأكثر عداء لبعضهما البعض والأكثر اقتتالا وتطاحنا بينهما، هما حركة القومية العربية والحركة الصهيونية اللتان تشتركان في نفس الفكر القومي القائم على العرق والانتماء الإثني، وهو التقارب الفكري والإيديولوجي الذي كان ينبغي أن يجعل من الحركتين أختين شقيقتين لأنهما ترضعان من نفس الثدي للإيديولوجيا العرقية، بدل أن تحارب إحداهما الأخرى في عداء دائم ومستحكم. "" فكيف تتّحد وتتآخى الصهيونية والقومية العربية، على مستوى التوجهات الفكرية والمبادئ الإيديولوجية ذات المضامين العرقية، رغم ما يفرّق بينهما من عداء عجز العالم كله عن وضع حد له، مع كل ما يبذله من مجهود من أجل المصالحة بين العرب واليهود؟ إن ربط الهوية بالعرق، كما تفعل القومية العربية، يجعل هذه الأخيرة صنوة للحركة الصهيونية التي تنبني إيديولوجيتها كاملة على فكرة "العرق اليهودي"، تماما كما تتأسس إيديولوجية القومية العربية هي كذلك على فكرة "العرق العربي". وهذه الوحدة الفكرية والإيديولوجية العرقية للقومية العربية والحركة الصهيونية هي ما أريد توضيحه وتحليله في هذا المقال. ما الذي يميز القومية العربية كحركة سياسية عروبية؟ ما هي خصائصها الرئيسية؟ إذا عرفنا كيف ولماذا نشأت حركة القومية العربية، سيسهل علينا أن نحدد خصائصها ونتعرف على مميزاتها. بدأت نشأة القومية العربية مع بداية القرن الماضي (ابتداء من 1912)، نتيجة اقتناع النخب المثقفة العربية بأن أخص ما يجمع بين العرب هو انتماؤهم إلى أصل إثني واحد هو العرق العربي، مع ما يصاحب ذلك من عناصر مشتركة أخرى كاللغة والثقافة. وهو ما يؤهلهم للتكتل والتوحد بناء على وحدة العرق والدم، لمواجهة تركيا المسلمة التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية. هكذا يكون مفهوم "الوحدة العربية" قد قام، لا على أساس سياسي أو جغرافي أو اقتصادي، مثل "الاتحاد الأوروبي" أو "منظمة الوحدة الإفريقية" (الاتحاد الإفريقي حاليا) أو مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، أو "اتحاد دول جنوب أسيا للتعاون الإقليمي"، أو "السوق المشتركة لدول إفريقيا الجنوبية والشرقية"... بل انبنى منذ بدايته على أساس عرقي وهو وحدة العرق والأصل الإثني. واللافت أن الهدف من هذه "الوحدة العربية" لم يكن هو مقاومة الاستعمار الأوروبي المسيحي، بل مواجهة تركيا المسلمة التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية، كما سبقت الإشارة. وبجانب المفهوم العرقي "للوحدة العربية"، نشأ المفهوم الجغرافي المصاحب له، والذي يعني المجال الترابي الذي تعيش به وتحتله العروبة العرقية. إنه مفهوم "الوطن العربي" الذي توسع وامتد بعد الحرب العالمية الثانية، في أوج غليان القومية العربية، ليشمل كل البلدان التي توجد بها نخب عروبية تنحدر أو تعتقد ذلك أو تدعيه من مهاجرين عرب نزحوا منذ قرون من بلدانهم العربية الأصلية إلى تلك البلدان غير العربية، مثل بلدان تامازغا بشمال إفريقيا، والسودان، والصومال وجيبوتي... هذه النخب عملت، بمساعدة الاستعمار، خصوصا الفرنسي كما في حالة المغرب، على إلحاق تلك البلدان غير العربية بمجموعة الدول العربية وبجامعة الدول العربية التي هي تجمّع للدول ذات الانتماء العرقي العربي. وقد لجأ الحكام العروبيون لهذه البلدان غير العربية، التي لم يكن أحد يشك في انتمائها غير العربي قبل أن تغزوها القومية العربية الصاعدة، إلى سياسة التعريب العنصرية لتحويلها إلى بلدان عربية "حقيقية". وسياسة التعريب هذه، ليست إلا صيغة قومية عروبية لسياسة التهويد الصهيونية التي تنهجها إسرائيل بفلسطين، وهو ما يبرز وحدة الفكر العرقي العنصري، الذي تغرف منه كل من إيديولوجية القومية العربية والحركة الصهيونة. فسياسة التهويد الصهيونية ترمي إلى جعل فلسطين أرضا يهودية، إنسانا وهوية ولغة وثقافة وتاريخا... وهو نفس الشيء تمارسه سياسة التعريب العروبية التي ترمي إلى جعل المغرب الأمازيغي بلدا عربيا، إنسانا وهوية ولغة وثقافة وتاريخا... هكذا تكون فكرة "الوحدة العربية" قد انطلقت من أساس عرقي لتتوسع جغرافيا، ولكن دائما بمبرر عرقي وإثني. فأصبحت الهوية، في إطار هذه الدول "العربية"، لا تتحدد بالأرض التي تنتمي إليها تلك الدول، كما في كل بلدان العالم، بل بالعرق العربي الذي ينتمي أو يعتقدون أو يدعون ذلك إليه حكام هذه الدول، ولو أن هذه الأخيرة توجد في أراضٍ بعيدة عن الأراضي العربية بآلاف الكيلومترات. هذه النظرية التي تجعل العرق، وليس الموطن، هو المحدد للهوية، هي نفس النظرية التي قامت عليها الحركة الصهيونية. لنشرح ذلك بشيء من التفصيل. لقد ظل اليهود متفرقين في العالم، خصوصا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا ، منذ آلاف السنين، كمواطنين تابعين لتلك البلدان التي كانوا مستقرين ويعيشون بها بصفة دائمة وقارة ونهائية. فاليهود بالمغرب، مثلا، كانوا ذوي انتماء أمازيغي تبعا للبلد الأمازيغي الذي كانوا يعيشون فيه. وهكذا كانوا أمازيغيين هوياتيا، ولم تكن صفة "يهودي" تعني الانتماء إلى أرض أخرى غير الوطن الأمازيغي الذي يعيشون فيه، بل كان يعني اعتناقهم للديانية اليهودية كدين وليس كهوية كما حصل بعد قيام الحركة الصهيونية التي سبق كذلك للكثير من الأمازيغيين الأصليين أن اعتنقوها قبل الإسلام كما تبين ذلك حالة الملكة الأمازيغية "ديهيا" (الكاهنة) التي كانت يهودية الديانة. وكذلك كان اليهود في كل البلدان الأخرى التي كانوا يعيشون بها: في فرنسا، بولونيا، ألمانيا، تركيا، مصر، الإمبراطورية الرومانية القديمة... فكانوا ذوي هوية فرنسية أو بولونية أو ألمانية أو تركية أو مصرية أو رومانية حسب هوية البلد الذي اندمجوا فيه واستقروا به، بجانب ممارستهم لشعائرهم الدينية اليهودية التي تميزهم عن معتنقي ديانات أخرى كالإسلام والمسيحية، مع اشتراك الجميع من مسلمين ومسيحيين ويهود في الانتماء إلى نفس الهوية التي هي هوية الموطن الجغرافي الذي يعيشون جميعا فيه. هكذا كان الأمر منذ عشرات القرون بالنسبة لليهود، إلى أن ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر الحركة الصهيونية، والتي جاءت بنظرية عرقية مفادها أن هوية اليهودي لا تحددها الأرض التي ينتمي إليها ويعيش فوقها، في إطار تعددية دينية تسمح له بممارسة دينه بجانب الأديان الأخرى، بل يحددها الدم "اليهودي" الذي يسري في عروقه، والذي يجعل منه شخصا ذا هوية "يهودية" مهما كانت هوية البلد الذي ولد به ويعيش فيه كحفيد لأجداد عاشوا بنفس البلد منذ زمن بعيد. فالمحدد إذن للهوية بالنسبة للحركة الصهيونية، هو الأصل العرقي والإثني المشترك الذي ينحدر منه اليهود، هذا الأصل الذي يرجع إلى الأجداد الأوائل لليهود، والذين عاشوا في فلسطين منذ آلاف السنين. فالشخص الحامل للهوية اليهودية هو ذلك الذي يجري في عروقه الدم الذي انتقل إليه من هؤلاء الأجداد. كل شيء في الهوية يفسر إذن، في إطار الحركة الصهيونية، بالدم والعرق والجينات، تماما كما رأينا في العروبة العرقية. وتشترك الحركتان كذلك، الصهيونية والقومية العربية، في أن كلتيهما تتبنيان مفهوم "وطن قومي" يكون هو الموطن المشترك والجامع والموحّد للعرب (بالنسبة للقومية العربية) ولليهود (بالنسبة للحركة الصهيونية). هذا "الوطن القومي" هو "الوطن العربي" الذي يمتد من "المحيط إلى الخليج" بالنسبة للقومية العربية، و"إسرائيل الكبرى" التي تمتد من " الفرات إلى النيل" بالنسبة للحركة الصهيونية. ومما يجمع بين الحركتين العروبية والصهيوينة كذلك، استعمالهما للدين لتبرير نزعتهما العرقية وإعطائها السند الديني للإقناع بها، بعد تأويل الدين، طبعا، وتكييفه مع متطلبات هذه النزعة. فالصهيونية، كما يعرف الجميع، تستند إلى نصوص مختارة ومحرّفة من التوراة والتراث الديني اليهودي لإقناع اليهود بالعودة إلى "أرض الميعاد"، التي هي أرض الأصل العرقي حسب الحركة الصهيونية الذي ينتمي إليه وينحدر منه اليهود الحاليون، والإسهام في إقامة "إسرائيل الكبرى" وحمايتها والدفاع عنها. أما القومية العربية، فرغم أنها حركة علمانية في الأصل كما أن مؤسسيها الأوائل كانوا مسيحيين، إلا أنها لا تتردد في استعمال واستغلال الإسلام من خلال الخلط المغلوط والمقصود بين العروبة والإسلام حيث يصبح الدفاع عن العروبة، بمعناها العرقي، يعني الدفاع عن الإسلام، ومعارضة العروبة العرقية يعني معارضة الإسلام. وهكذا تمارس القومية العربية الابتزاز باسم الدين على خصومها ومعارضيها: فمن لا يدافع عن العروبة يتهمه القوميون بمعاداة الإسلام، "مستدلين" على ذلك، وبشكل خبيث لا يخلو من سوء نية، أن النبي محمدا عربي وأن القرآن عربي. هذا الاستعمال للإسلام من طرف نزعة عرقية جاء الإسلام ليحاربها ويضع حدا لها، هو ما يفسر التقارب الأخير بين القومية العربية والاتجاهات الإسلامية، كما يدل على ذلك تحول "المؤتمر القومي العربي" إلى "المؤتمر العربي الإسلامي" كتنظيم يسمح للقومية العربية باستغلال الدين لتبرير أهدافها العرقية والعنصرية التي هي أصلا مخالفة لمبادئ الإسلام. لقد بقيت النظرية الصهيونية، ذات المضمون العرقي، منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر، دون تأثير يذكر على عموم اليهود الذين كانوا مندمجين في البلدان التي يعيشون بها، كما في البلدان العربية التي كانت تحت الحكم العثماني، بما في ذلك فلسطين نفسها. لكن هذه النظرية، بعد أن ظلت "نائمة" لمدة ودون كبير تأثير في الأوساط اليهودية، سيصبح لها شأن كبير بعد ثلاثينيات القرن الماضي؟ لماذا؟ لا يرجع ذلك إلى ظهور النازية ومعاداتها لليهود، حسب التفسير الجاهز والشائع، بل سبب تحول الصهيونية إلى عقيدة جديدة لليهود في العالم، هو ظهور وانتشار إيديولوجية القومية العربية، بمضمونها العرقي هي أيضا، والمعادية هي كذلك لليهود، بالبلدان العربية التي استقلت عن تركيا التي أصبحت جمهورية علمانية ابتداء من 1923، هذه الإيديولوجية القومية العربية، التي تحولت بدورها، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى عقيدة جديدة للعرب. وهو ما أنعش الفكر الصهيوني وأعطاه قوة وسندا ومشروعية. فما العلاقة بين صعود القومية العربية وصعود الحركة الصهيونية؟ لقد رأينا أن القومية العربية حركة عرقية ترمي إلى توحيد العرب على أساس اشتراكهم في نفس العرق والانتماء إلى نفس الأصل الإثني. وقد أفرزت وقوّت هذه الإيديولوجيةُ العرقيةُ العداءَ لليهود كإثنية غير مرغوب فيها بالبلدان العربية لأنها من عرق غير عربي، وبالتالي يجب على اليهود أن يرحلوا من البلاد العربية التي هي أرض خاصة بالعرق العربي. وهكذا وجد اليهود العرب، بما فيهم المغاربيون بعد أن أصبح المغرب "عربيا"، أنفسهم عرضة للاضطهاد العنصري العروبي، بعد أن لم تعد تحميهم الدولة العثمانية التي كانوا يعيشون في كنفها كجزء من رعاياها مثلهم مثل العرب أنفسهم. وقد تنامى هذا العداء العربي لليهود بشكل كبير وخطير مع بروز مشكل فلسطين ابتداء من 1948، ليتجاوز هذا العداءُ مرحلة التحقير والسباب والتشهير والتحريض الإعلامي ضد اليهود إلى مرحلة الطرد والاعتداء ومصادرة الممتلكات. وهذا ما استغله قادة الحركة الصهيونية لإقناع اليهود، وخصوصا العرب منهم، بضرورة مغادرة أوطانهم بالبلدان العربية والرحيل إلى فلسطين، "أرض الميعاد"، لإنشاء دولة بأرض الأجداد والأصل العرقي لليهود، تجمعهم وتحميهم من الإيديولوجيات العنصرية التي تستهدفهم مثل النازية والقومية العربية. وأمام اشتداد الحملات العنصرية المعادية لليهود بالبلدان العربية بما فيها شمال إفريقيا طبعا ، لم يجد اليهود العرب، والمغاربة على الخصوص، بدا من الرحيل إلى إسرائيل كما كان يرغب في ذلك قادة الحركة الصهيونية. وهؤلاء اليهود الذين هاجروا من أوطانهم العربية والمغاربية هربا من الاضطهاد القومي العنصري العربي، الذي تؤججه النزعة العرقية الرافضة للآخر وللمختلف، هم المؤسسون الحقيقيون لدولة إسرائيل، وذلك: لأنهم زودوها بالعنصر البشري والديموغرافي الضروري للاستيطان، بفضل هجرة أزيد من مليوني يهودي من البلدان العربية، بما فيها حوالي نصف مليون من المغرب وحده، علما أن عدد سكان إسرائيل لا يتجاوز اليوم ثلاثة ملايين إلا بقليل. لأن منهم تشكل الجيش الضروري لحماية إسرائيل من تهديدات القوميين العرب بإبادتها والقضاء النهائي عليها. هكذا تكون دولة إسرائيل، ليست من خلق الإمبريالية الغربية وأعداء العروبة والإسلام، حسب الخطاب القومي المعروف، بل هي من خلق القومية العربية ذات النزعة العرقية، وما تنطوي عليه من كراهية وعداء عنصري لليهود، وهو ما اضطر معه هؤلاء إلى النزوح بالملايين فرارا من الاضطهاد بالبلدان العربية والاستقرار بفلسطين حيث أقاموا دولة ذات أسس عرقية هي أيضا لمواجهة العرقية العربية التي يعلن زعماؤها العرب صباح مساء بأنهم سيبيدون اليهود وسيلقون بهم في البحر كما كان يكرر ذلك جمال عبد الناصر على أمواج راديو القاهرة. ولهذا فإن غالبية الزعماء السياسيين الإسرائيليين وقادتها العسكريين هم من أصول عربية، وخصوصا من المغرب الذي لا زالوا يحنّون إليه بكثير من الصدق والمحبة. إسرائيل التي يحاربها العرب اليوم، هي إذن من صنع العرب أنفسهم كنتيجة لإيديولوجيا العروبة العرقية القائمة على تمجيد العرق العربي واحتقار الأعراق الأخرى مثل اليهود والأكراد والأمازيغ والأقباط... بالإضافة إلى مساهمة القومية العربية في نشأة دولة إسرائيل، فإنها أعطت كذلك دفعة قوية للحركة الصهيونية التي أصبح اليهود يعتنقون مبادئها العرقية لمواجهة العرقية العربية التي تتهدد وجودهم، كما سبقت الإشارة، بعد أن كانت الحركة الصهيونية مجرد أفكار تبشر بها نخبة محدودة من اليهود دون أن يكون لها أي صدى في الواقع. أما اليوم، فلمواجهة تهديدات العروبة العرقية التي تتوعد اليهود بالإبادة، فإن كل اليهود أصبحوا صهاينة، بل حتى جزء من العالم أصبح "صهيونيا" تضامنا مع اليهود الذين لا تعترف العروبة العرقية بوجودهم السياسي ككيان ودولة وشعب. هكذا تكون القومية العربية، كإيديولوجيا عرقية وعنصرية، قد قدمت خدمة جليلة: أولا للحركة الصهيونية لأنها قدمت المبرر المقنع للمترددين من يهود العالم لاعتناق الأفكار العرقية للحركة الصهيونية التي كانت غالبيتهم ترفضها قبل تعرض اليهود العرب للطرد وللاضطهاد عندما كانوا يعيشون في البلدان العربية التي استقر أجدادهم بها قبل العرب أنفسهم كما في المغرب ومصر؛ وثانيا للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، عندما أصبحت إسرائيل تسوّغ هذا الاحتلال بنفس المبادئ العرقية التي تتبناها وتدافع عنها القومية العربية نفسها. لنشرح هذه النقطة بمزيد من التحليل: فبما أن الانتماء الهوياتي حسب النظرية العرقية للقومية العربية وللحركة الصهيوينة يتأسس على الأصل العرقي الذي يمثله الأجداد الأوائل الذين ينحدر منهم شخص ما، فإن هوية هذا الأخير لا تتحدد إذن فقط بالأصل العرقي لهؤلاء الأجداد، بل أيضا بموطنهم الأصلي الذي ينتمون إليه تاريخيا. وهكذا يكون الإنسان ذو الهوية العربية هو ذلك الشخص الذي: ينحدر أولا من أجداد عرب من الناحية العرقية؛ ويقطن ثانيا بأرض هؤلاء الأجداد، أي بشبه الجزيرة العربية دون غيرها باعتبارها الموطن الأصلي التاريخي للعرب. ونفس الشيء فيما يتعلق بتحديد الهوية اليهودية: فاليهودي الهوية هو ذلك الشخص الذي: ينحدر أولا من أجداد يهود من الناحية العرقية؛ ويقطن ثانيا بأرض هؤلاء الأجداد، أي بفلسطين دون غيرها باعتبارها الموطن الأصلي التاريخي لليهود. وهذا التحديد "الأصلوي" (من الأصل: الأصل العرقي والأصل الجغرافي للأجداد) للهوية هو ما تطبقه الحركة الصهيونية بفلسطين: فبما أن الفلسطينيين ذوو هوية عربية، أي ينحدرون من أصول عرقية عربية حسب نظرية القومية العربية، فينبغي إذن على الفلسطينيين، انسجاما مع هويتهم العربية، أن يعودوا إلى أرض أجدادهم الذين ينحدرون منهم في الجزيرة العربية كأرض أصلية وتاريخية للعرق العربي وللهوية العربية وللشعب العربي. كما أن على اليهود، انسجاما كذلك مع هويتهم اليهودية، أن يعودوا، في أي بلد كانوا في العالم، إلى الموطن التاريخي الأول لأجدادهم الذين يحملون دماءهم وينحدرون من أصولهم العرقية. هذا الموطن الأول والأصلي للهوية اليهودية هو أرض فلسطين. وبناء على هذا الاستدلال العرقي "الأصلوي" المحدد للهوية، كما تتضمنه القومية العربية، تفهم الحركة الصهيونية "حق العودة" الذي يعني لديها عودتين في اتجاهين معاكسين: حق اليهود في العودة إلى الموطن الأصلي لأصولهم العرقية، الذي هو أرض فلسطين. حق الفلسطينيين في العودة إلى الموطن الأصلي لأصولهم العرقية، الذي هو الأرض العربية بالجزيرة العربية. وهكذا تتكامل نظرية القومية العربية والنظرية الصهيونية لتبرير احتلال فلسطين وطرد الفلسطينيين منها واستيطانها من طرف اليهود. فكما نلاحظ، تكاد تكون إيديولوجية القومية العربية والإيديولوجية الصهيونية شيئين مترادفين إلى درجة يمكن القول معها إن القومية العربية حركة صهيونية معرّبة، والحركة الصهيونية قومية عربية مهوّدة. لهذا قد نضحك عندما نسمع بعض القوميين العروبيين يتهمون الحركة الأمازيغية بأنها حركة "صهيونية" لأن أحد المنتمين إليها زار إسرائيل. مع أن الأمر عند القوميين العروبيين لا يقتصر على زيارة أرض "الصهاينة" أو التطبيع معهم، بل يتعدّاه إلى تبنّي نفس الإيديولوجية الصهيونية القائمة على العرق والعنصرية. إنهم يمارسون الصهيونية نفسها بصيغة عربية ومعربة. الفرق الوحيد بين الإيديولوجيتين العرقيتين، الصهيونية والقومية العربية، هو أن الصهيونية، لأنها تربط الهوية اليهودية بدم الأجداد وأرضهم الأصلية، فإنها تعتبر كل من هو ذو أصل عرقي يهودي، فهو بالتعريف يهودي الهوية ولو أنه يستقر ويعيش بأرض أخرى حيث عاش جزء من أجداده منذ قرون وأصبح بذلك مواطنا أميركيا أو فرنسيا أو مغربيا أو روسيا أو إيرانيا، منتميا لذلك البلد الذي يعيش فيه خارج فلسطين وبعيدا عنها. بالنسبة للصهيونية العرقية، هذا المواطن الأميركي أو الفرنسي أو المغربي أو الروسي أو الإيراني... ذو الأصول العرقية اليهودية، هو مواطن إسرائيلي يحمل هوية يهودية، وعليه أن يعود، انسجاما مع هويته اليهودية وحفاظا عليها، إلى أرض أصوله العرقية التي هي فلسطين التي ينتمي إليها أجداده. أما العروبة العرقية، فرغم أنها تربط الهوية بالعرق، إلا أنها لا تدعو كل عربي، في أي بلد يوجد خارج الجزيرة العربية، إلى العودة إلى الموطن الأصلي لأصوله العرقية انسجاما مع هويته العربية وحفاظا عليها. بل تدعو هؤلاء العرب الذين يعيشون خارج الجزيرة العربية وببلدان غير عربية أصلا، إلى تحويل تلك البلدان، غير العربية، إلى بلدان عربية وبانتماء عربي، يغرسون فيها الهوية العربية لتصبح امتدادا هوياتيا للجزيرة العربية. وهذا ما تقوم به وترمي إليه سياسة التعريب المتبعة في بلدان غير عربية، بهدف مسخ هويتها الأصلية وتحويلها قسرا إلى هوية عربية، فقط لأن بعض أبناء المهاجرين العرب يعيشون بتلك البلدان. فعلى عكس الحركة الصهيونية التي لا تطالب إلا بحقها التاريخي، نلاحظ أن العروبة العرقية ذات طبيعة توسعية تعمل على ضم أراضي الغير إلى ملكها الهوياتي عن طريق تعريبها وإلحاقها بالهوية العربية كما في الأقطار الأمازيغية بشمال إفريقيا. إن الإيديولوجيات العرقية كانت دائما سببا للحروب والاقتتال، ومبررا لانتهاك حقوق الإنسان والشعوب، كما فعلت النازية، وتفعل اليوم القومية العربية وصنوتها الصهيونية. ولهذا فليس صدفة أن الشعبين الأكثر اقتتالا وتطاحنا بينهما هما الشعب العربي الذي تحركه العروبة العرقية والعنصرية التي ترفض الآخر وتحتقره ولا تعترف به؛ والشعب اليهودي الذي توجهه الصهيونية العرقية كذلك كرد على العرقية العربية المعادية لليهود. إن ربط الهوية بالعرق والدم لا يؤدي إلا إلى إراقة مزيد من الدم، كما يشهد على ذلك التاريخ. ولهذا، تجاوز اليوم العالمُ المتحضر المفهومَ البيولوجي والعرقي للهوية التي أصبحت ذات مضمون ترابي ينبع من الأرض التي يعيش فوقها الإنسان على وجه الدوام والاستقرار، بغض النظر عن أصوله العرقية والإثنية. فالمواطن الذي يعيش بالأرض الأمازيغية بالمغرب، هو إذن ذو انتماء هوياتي أمازيغي سواء كانت أصوله العرقية عربية أو يهودية أو أندلسية أو رومانية أو فينيقية... وهذا التحديد الترابي للهوية هو وحده القادر على تجاوز النزاعات العرقية التي تحركها النزعات العرقية، وتوحيد المغاربة هوياتيا في إطار الانتماء إلى أرض واحدة هي الأرض الأمازيغية التي تمنحهم هويتهم الأمازيغية بالرغم من تعدد الأصول العرقية المكونة لسكان المغرب الأمازيغي الهوية. أما الاستمرار في الاستناد إلى العروبة العرقية لحديد هوية المغرب كدولة عربية، فهو ممارسة صهيونية بصيغة قومية عربية كما سبقت الإشارة. فإذا كان العروبيون بالمغرب يحاربون حقا الصهيونية المحتلةلفلسطين، فعليهم أن يقطعوا مع القومية العربية ويعلنوا الحرب عليها لأنها لا تختلف في مبادئها ومضمونها وأصولها الفكرية عن الصهيونية، ويطالبوا بالاعتراف بأمازيغية الدولة المغربية كهوية منبثقة من الأرض الأمازيغية.