نخصص هذا المقال لبسط المعالم الكبرى للمشروع الفكري الذي نظر له الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في العشرات من مؤلفاته، وسعى إلى تنزيله في الواقع طيلة مسيرة عقود في مجال التربية والدعوة والسياسة، حتى يعلم الجميع طبيعة هذا المشروع وخطوطه العريضة. ولابد من الإشارة، ابتداء، إلى صعوبة الاختصار دون الإخلال بالمعنى، إذ لا يعقل اختزال عشرات الكتب، ومئات الصفحات، ومسيرة ربع قرن من الكتابة بما تحمله من عمق في التحليل وشمولية في الرؤية في مقال، ولكن حسبنا التحسيس والإثارة، لعل القارئ يحس بأهمية هذا المشروع فينكب عليه من أصوله متجاوزا تلك الأحكام الجاهزة والقراءات السطحية المغرضة التي حاصرت هذا الفكر وعتمت على بعده التجديدي والتنويري. كرس الإمام رحمه الله حياته لإعادة اكتشاف المنهاج النبوي انطلاقا من اقتناع بأن الأمة حادت عنه منذ قرون بسبب عوامل متعددة كان أهمها انتقاض عروة الحكم وما تلاها من نقض باقي العرى. فما هو هذا المنهاج؟ يعرف الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله هذا المنهاج بأنه فهم وعلم وطريق يؤدي بالمؤمن إلى نيل الدرجات العلى عند الله عز وجل بالجهاد والاستشهاد – بعد جهاد النفس – وجهاد وسط الأمة، والمنهاج النبوي طريق حزب الله لإقامة دولة الإسلام على طريق الجهاد وبالجهاد .ولذلك فهو حريص على استعمال عبارة منهاج عوض منهج لأنه حريص على ربط العلم بالعمل، وهنا تبرز قوة هذا المشروع لأنه لا يقتصر على إعطاء تصورات نظرية ولكنه "جسر علمي بين الحق في كتاب الله وبين الواقع" وهو أيضا "علم وعمل، منهجية وسلوك" و "آلة للعلم ومرشد للعمل" وهو "الكيفية العملية لفهم الدين، هو الترتيب الفعلي لإعداد القوة وقيادة الجهاد"، ولعل هذا ما جعل الحصار والتشويه والتعتيم يطاله لأنه يهدد فعلا مصالح المترفين والمستكبرين بسعيه الحثيث واقتراحاته العملية وبربطه بين العلم والعمل، ولأنه يسعى إلى اكتشاف المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما هي إذن خصائص هذا الفكر؟ الوضوح: وهو مما خصص له الأستاذ رحمه الله حيزا كبيرا من كتاباته وجهدا معتبرا في تواصله، وفي هذا الصدد يقول: "فهل نكتم أساليبنا في التربية والتنظيم مخافة أن يطلع عليها الأعداء فيكون الانكفاء الذي يريدونه لنا ... أما نحن فننشر مساهمتنا في علم التربية الإسلامية والتنظيم لما نعلم يقينا أن قبول عملية التهميش التي تفرض علينا تخنق العمل الإسلامي من حيث لا تستطيع المؤامرات خنقه". الأصالة: إن هذا المشروع الفكري أصيل لأنه اجتهاد على ضوء الكتاب والسنة ويسعى إلى فهمها انطلاقا من واقع المسلمين، ولكنه حريص في كل كتاباته على فهم الأصالة من خلال ربط اجتهاده بكتاب الله وكتاب العالم لاقتناع تام بأن إسلام المرء لا يخرجه من إنسانيته وأن الحكمة ضالة المومن أنى وجدها فهو أحق بها، ولذلك يكتشف الدارس لهذا المشروع الفكري تعمقا في دراسة تجارب كثيرة ومذاهب شتى، سواء التجربة الصينية أو السوفياتية أو الإيرانية أو الألبانية أو الحركة الوطنية أو القومية العربية. الشمولية: وهو مشروع شامل لأنه يهتم بالتاريخ والحاضر والمستقبل، ويهتم بالفرد والجماعة والأمة والإنسانية من خلال حديثه عن الخلاص الفردي والجماعي، ويهتم بالمصير الدنيوي والأخروي، ويهتم بمجالات التربية والفكر والحركة، "فالمنهاج النبوي يطلب العلم لينحو به المنحى العملي الإجرائي، ويطلب الإنسان ليوضح له الطريق ويحفزه على العمل، ويطلب العمل ليبرمجه ويمرحله، ويطلب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتخطيط مرامي العمل ومقاصده، ويطلب الأهداف الدنيوية والغاية الأخروية ليضعها على خط واحد لا تتناقض ولا تتنافر، ويطلب المجموع لتنسيق الجهود وتوجيهها". المستقبلية: وهو مشروع مستقبلي لأنه لا يغرق في قراءة التاريخ والواقع، ولكنه يتطرق إلى كل ذلك برؤية استشرافية مستقبلية. "المنهاج النبوي يفتح لنا آفاقا تجعلنا لا على مستوى العصر الذي تتحكم فيه الجاهلية وقيمها، بل على مستوى مستقبل نقترحه نحن على التاريخ، ونصنعه، ونخترعه على هدى من الله وبإذنه". الإجرائية: وهو مشروع إجرائي لحرصه على العمل وتحويل الأفكار إلى إنجاز. "إن نظرتنا للإسلام ليست حنينا إلى الماضي ولا قعودا مع الأحلام، إنما هي إعداد بالتربية للبناء، بناء غد الإسلام، غد الخلافة على منهاج النبوة". 1- قراءة في تاريخ المسلمين: صدمتان قاسيتان اهتم الإمام رحمه الله بدراسة تاريخ المسلمين للوقوف على لحظة الانكسار فيه، والبحث عن أسباب ذلك، لأن واقع اليوم نتيجة لتراكم مآسي الأمس. "سيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسارنا التاريخي". ويجعل حديث الخلافة على منهاج النبوة دليلا في ذلك. "نتخذ هذا الحديث الجليل وأمثاله دليلا لمعرفة الانحراف التاريخي الذي حول مجرى حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا". وهذا الكلام يجعلنا نقف وقفة لنستنبط الضوابط التي يقترحها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لدراسة التاريخ حتى نصل المبتغى، وهو فهم الواقع والتخطيط للمستقبل، حيث يركز على أن يكون الباعث هو التقرب إلى الله عز وجل حتى لا يتيه الدارس وسط الركام، ويكون عمله أفقيا يخسر فيه آخرته. والآخرة خير وأبقى.. ولابد أن يكون الهدف من الدراسة الجمع والتوحيد لا إثارة الخلافات والأحقاد.. ولابد من التتلمذ المباشر من الوحي، والوقوف على لحظة الانكسار التاريخي. فما هي خلاصة هذه الدراسة؟ يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله "تاريخ المسلمين حافل، ربما أكثر من تاريخ أية أمة، بالاصطدامات والحروب الداخلية والنكبات ... لكن صدمتين في تاريخنا كان لهما الأثر البالغ في نفوس المسلمين توارثه الأجيال... أما الصدمة الأولى فانكسار الوحدة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وما نتج عن تلك الفتنة المؤلمة من قتال بين الصحابة وما تلا ذلك من تمزق الجماعة ... أما الصدمة الثانية ... فهي الاستعمار الغربي ". فماهي نتائج هاتين الصدمتين؟ الصدمة الأولى قلبت الخلافة الراشدة الشورية العادلة إلى ملك عاض مستبد، انفرطت فيه وحدة المسلمين، وغيبت فيه الشورى والعدل وحل محلهما الظلم والاستبداد. والصدمة الثانية أذهبت وحدة دار الإسلام وأنشأت التجزئة السياسية في أقطاره، وأدت إلى نشوء التيارات التغريبية وظهور الملك الجبري. 2- قراءة لواقع المسلمين: الفتنة بعد تحديد أسباب الانكسار التاريخي، ينتقل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لدراسة الواقع لأنه الأرضية التي ينطلق منها العمل، وأي خطأ في التعامل معه، أو خلل في تصوره يؤدي إلى وجهة غير الوجهة المرسومة، وهكذا نجده يرفض نعت المجتمع بالجاهلية، كما يعتبر أن وصفه بالمجتمع المتخلف قصور، ويستعمل لوصف واقع المسلمين مصطلحا نبويا أوسع دلالة، وأشمل مضمونا هو الفتنة "ونحن نفضل استعمال كلمة فتنة لوصف مجتمعاتنا، فهي كلمة نبوية "، وهي تشمل كذاك معاني التخلف "الأفق واسع والمشروع الإسلامي الذي تعمر نيته وإرادته والرغبة في المساهمة فيه قلوب مئات الملايين من المسلمين الرازحين في أغلال الجهل والمرض والفقر، في بلايا مباشرة وغير مباشرة وجهها المادي يسمى بلغة العصر تخلفا اقتصاديا وفوضى اجتماعية وتبعية سياسية، ووجهها المعنوي يسمى بلغة الكتاب والسنة فتنة". ويقسم الفتنة إلى نوعين عينية تعم الأفراد، وعامة تعم المجتمع. ولعل القارئ يتساءل عن سبب العناء في انتقاء المصطلحات، لكن سرعان ما يتبين له السبب إذا عرف أن وراء ذلك اختلافا في أسلوب العمل، فوصف المجتمع بالفتنة يتطلب صبرا وتحملا لتغييره "من يحاول تغيير المجتمعات المفتونة لابد له أن يتقدم إلى الميدان وله من القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوة المعادية متتالية"، وهكذا يجعل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله التؤدة من الخصال العشر الواجب التحلي بها، وهي لفظة نبوية تعني "الرزانة، والتريث، وما في معناهما من أخلاق الحلم والصبر، والتحمل، والأناة وضبط النفس، وأهلية تحمل المسؤوليات والاستمرار في الجهاد". ويتطلب كذلك رفقا ورحمة في التعامل مع أفراده لأن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (رواه البخاري) وعند مسلم "أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي رواية ثالثة " إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". وهذا ما يؤكده الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله " في الأمة خرافات وبدع وأمراض وشرك لا بد من تطهيره. وجند الله حين يتألف، وحين يزحف، وحين يتولى الحكم، مسؤول أن يعطي المثال، ويفرض النموذج السلوكي، ويربي عليه، والتطهير والتربية عمليتان تطلبان الوقت، وتطلبان الرفق". 3- المخرج من الفتنة: التجديد وهنا نصل إلى بيت القصيد، فوصف المجتمع بالفتنوي يؤدي إلى اختيار طريق للعلاج هو التجديد "إننا مسلمون فرديون مفتونون وإننا في حاجة إلى تجديد يبصر المسلمين الفرديين بمنهاج العمل بعد أن يجدد لهم إيمانا"، ويحدد معانيه "ليس التجديد تغيير الثابت من شرع الله، فإن أحكام الكتاب والسنة ماضية إلى يوم القيامة... لا نرتاب أن الاجتهاد ضروري لتكييف حياة العصر مع شرع الله". وتماشيا مع تصنيف الفتنة العينية التي تعم الأفراد، والعامة التي تعم المجتمع يقسم التجديد إلى قسمين: تجديد الإيمان ويورد أحاديث نبوية في الباب. وتجديد الدين ويستدل بالحديث النبوي الوارد في الباب، ومن خلال هذا نستنتج خاصية أساسية لفكر الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله وهي الأصالة. وعن علاقة تجديد الإيمان بتجديد الدين يقول رحمه الله "لتجديد الإسلام والعمل الإسلامي لابد من تجديد الإيمان بالقول الثابت". فلا يمكن للأمة أن تخرج من فتاتها إن لم تتألف قلوب أفرادها – وكان هذا أول الخلل كما سبق ورأينا عند الحديث عن الصدمة الأولى- ولن تكون وحدة القلوب إلا على مادة الإيمان، ومن خلال أعلى شعبه لا إله إلا الله، قولها باللسان حتى تنفذ إلى القلب فيعمه نور اليقين، فإذا بدل الخنوع شعور بعزة الإيمان وإذا بدل التعلل القاعد بتحفز وتوثب يحدوه طلب الموت في سبيل الله، حديث نفس أولا ثم رفض لكل قانون وكل حكم لا يتقيدان بلا إله إلا الله ثم عمل إيماني لاستبدال المنكر بالمعروف، والطاغوت بالحق، والظلم بالعدل والكفر بالإيمان". 4- التصور التربوي: تربية على شعب الإيمان لتحقيق هدف التجديد، يؤكد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله على ضرورة التربية، وأهميتها تتضح من خلال ارتباط التغيير العام بها "إن قانون التغيير الإلهي قائم على التربية"، و"التربية في مفهوم القرآن والحديث تغيير باطني لنفس الإنسان، معناها في اللغة تنمية وتقويم"، وهي "مقدمة الجهاد وشرطه وقوامه وقاعدته وأساسه"، وهي "علاج داء الفتنة"، وهي التي "ينبغي أن تحظى بالأولوية لأن كل ما دونها متممات لها الفاعلية إن لم تتنزل على فراغ تربوي". وإن تربية تعطاها هذه الأولوية، ويرجى منها تحقيق هذه الأهداف لابد أن تتميز بخصائص، فماهي؟ - خاصية التوازن: ويقصد به شمول التربية لكل جوانب الإنسان، علقه وقلبه وجوارحه، وكذا شمولها للجماعة والفرد "يجب ألا تكون السمة الغالبة على جند الله زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة...إسلام الزهادة والهروب من المجتمع والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق". - خاصية التدرج: يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في هذا السياق كلاما دقيقا وعميقا "تزول الجبال عن قاعدتها ولا تزول الناس عن عاداتها". بهذه الحكمة يوجز ضرورة التدرج في التربية، وعن سبب ذلك يقول " التربية معالجة لمادة إنسانية، وشخصية لها ماض، وبيئة اجتماعية، واستعدادات. هذه المعالجة تريد من النقيب المربي حلما كثيرا، وصبرا ومداراة... وكما تتأخر الشجرة الكريمة الثمار في الإنتاج... نصبر على ذوي الاستعداد الطيب السنين حتى ينضجوا". - خاصية المستقبلية: تحت عنوان تربية مستقبلية أورد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله كلاما نقتصر على فقرات منه " نحتاج لجماعة تواجه عقبات الحاضر لتخرق طريقها إلى العزة بالله ورسوله عبر عقبات الاضطهاد، لكن مهمتها لا تنحصر في هذا، فلابد أن تهيئ المستقبل، مستقبل تحمل مسؤولية دولة... فلا بد إذن أن يتطلع المومن الذي نربيه ... ليكون من صانعي غد أمته". - خاصية الاستمرارية: ليست التربية عملية ظرفية تنتهي في مرحلة معينة ولكنها حاضرة قبل وأثناء وبعد، ومتواصلة إلى آخر الأمر، ومواكبة للجهاد من أوله "الواجهة الأولى في الجهاد هي واجهة التربية أولا ووسطا وآخرا ولا آخرا ودائما، لا نفرغ من تقويم أنفسنا ومتى ظننا أننا أتممنا تهذيبها فذلك نزغ من الغرور، وغرة بالله، وطيش في ميزان الرجولة". - خاصية الفاعلية: "بالتربية المتكاملة يصبح الإنسان هو الفاعل التاريخي الذي يؤثر فيما حوله" وفاعلية هذه التربية تظهر حين تخرج جيلا من المجاهدين، إذ "ليست التربية الجهادية إنشاء جيل من الأصحاب المتبتلين، بل إنشاء جند الله المقاتلين الطالبين وجه الله، والراغبين في الشهادة في سبيله". - تربية على شعب الإيمان: "جند الله لابد أن يكونوا كلهم من المومنين لا يكفي أن يكونوا مسلمين بهذا المعنى الخاص لكن سعي كل واحد منهم لاستكمال إيمانه فالترقي إلى الإحسان أمر أساسي". وعن سبب ذلك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله "حزب الله المخاطب بالقرآن في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا" افعلوا أو لا تفعلوا فالمفروض أنه جماعة يتمثل فيها الإيمان الذي هو مناط التكليف بحمل الأمانة الجماعية، فلا ينتظر من جماعة مؤهلها لا يتجاوز مرتبة الإسلام أن تقدر على حمل الأمانة". 5- التصور السياسي: دعوة إلى ميثاق إسلامي الحديث عن التصور السياسي مسألة مهمة لأنه أداة التنفيذ، ولهذا يفرد له الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مساحات واسعة من كتبه. نتناول- بنوع من الاقتضاب الخط السياسي والعلاقة بباقي التيارات السياسية. أ- الخط السياسي: بين العصيان والمعارضة يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله "خطنا السياسي الواضح هو أننا لا نعارض حكام الجبر معارضة الأحزاب على مستوى تدبير المعاش والاقتصاد، بل نعصيهم لأنهم خرجوا عن دائرة الإسلام إلا أن يتوبوا توبة عمر بن عبد العزيز، نعصيهم ونعارضهم لأنهم خربوا الدين... الأمر أعمق وأشد من مجرد المعارضة السياسية". فما هي مميزات هذا الخط ؟ - رفض العنف والاغتيال السياسي: وذلك لسببين "أولهما أننا أمرنا ألا نقاتل المسلمين زمن الفتن، الثاني وهو سياسي أن القضايا الغريبة عن الشعب عاجزة عن الانتظار بالاقتناع والتمكن في المجتمع هي وحدها التي تلجأ إلى أساليب الإرهاب والاغتيال". - الوضوح ورفض السرية: وفي هذا يقول "فمن ثم لنا معشر الإسلاميين حقوق سياسية مثلما لغيرنا فلم نتستر؟ مادامت الديمقراطية ... تسمح لنا أن نتكلم ونجتمع وننتظم فسنعمل على وضح النهار وسنطلب بأن يكون لنا موطئ أقدام تحت الشمس". - عدم الرضى بأنصاف الحلول: لأنها خصلة تنافي الصدق وهو أساس نجاح المشروع الإسلامي. - رفض كل أساليب المكر والخداع والغش: وهذه كلها تناقض الصدق، والسياسة في الإسلام مرتبطة بالأخلاق ومنضبطة بضوابط الشرع والغاية لا تبرر الوسيلة. - المرونة: تحدثنا عن رفض السرية وعدم القبول بأنصاف الحلول، لكن لا ينبغي أن تفهم هذه المرونة وكأنها مسلسل من التنازلات بمبرر ضرورة التزام الواقعية السياسية، ولكن المرونة هي الامتثال لهذه القاعدة " تدرج في قول الحق وعدم تفوه الباطل". خط العصيان ليس من السهل أن يتبناه الشعب لأنه لا يعي ما معنى تأخير الحاكم للصلاة. "لا يفهم العامة أن حاكما لا يصلي رجل يعصي الله وقد يجحده ابتداء فإذا جحد وعصى أصبح طاغوتا، وحكم بهواه، وحارب الله، وظلم عباده". ولهذا لابد من سلوك مسلك المعارضة "لابد أن نشرح للشعب والشباب ماذا يعني التحول الإسلامي الذي نريده بالنسبة للظلم الطبقي، بالنسبة التبعية، بالنسبة للمستقبل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لبلادنا، نشرح كل ذلك في تفاصيله، فنتحدث عن الخبز اليومي، عن العامل المهضوم الحق، عن رب الأسرة المقهور تحت أعباء المعاش، عن الفلاح الذي يستغله الثري الظالم والحاكم الجبار، عن التعليم وفساده، عن القضاء ورشاه، عن الإدارة الكسيحة والسخيفة وعن مسؤولية الحكم في كل هذا". لكن ما هي الأسباب الأخرى لولوج باب المعارضة ؟ يوجزها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في: * الاستفادة من التسهيلات الرسمية، ومزاحمة الأحزاب على كسب الرأي العام "ومزية أخرى للدخول في الانتخاب، وولوج ذلك الباب، وهي مزاحمة غيرنا على كسب الرأي العام والاستفادة من التسهيلات الرسمية في التحرك هي مزية التضييق على الإسلام الرسمي وإسلام الأحزاب السياسية التي أصبحت ترفع شعارات الإسلام". * كشف زيف دعوى الديمقراطية: "ثم إن قبولنا المشاركة في اللعبة الديمقراطية من شأنه أن يكشف زيف دعوى الديمقراطية". ب- العلاقة بباقي التيارات السياسية: يشكل هذا جزءا مهما من التصور السياسي للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لطالما شابه غبش وتشويه كبيرين، فهناك من صور "العدل والإحسان" جماعة تحتكر الدين ومنهم من نعتها بإقصاء وتكفير الخصوم، ومنهم من تطرف في استعمال ألفاظ التجريح أو ذات دلالات لا تتصور إلا في سفاكي الدماء ومزهقي الأرواح. فما هي حقيقة ذلك؟ لا يفتأ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله يدعو إلى مد جسور الحوار مع الآخرين، والتعاون مع ذوي المروءات الصادقة، حيث يقول "توجيه كتاب ربنا وسنة نبينا أن نلتقي مع ذوي المروءات من الناس، نعترف لكل فاضل بفضله مادام يقول ربي الله. بتعبير العصر: نلتقي على صعيد القيم المشتركة مادام الناس يحترمون ديننا ويصون المصالح بيننا ذمم مرعية وعهود مقضية "، ولا يفتأ يدعو إلى التعددية "وعندها فميثاق جماعة المسلمين من عهده أن ينص على حق المعارض من داخل أو من خارج"، ويدعو إلى الاحتكام إلى الشعب وهذا قمة الديمقراطية "كلمة ديمقراطية تعني حكم الشعب واختيار الشعب، والاحتكام إلى الشعب وهذا أمر ندعو إليه ولا نرضى بغيره". لكن الاتفاق على المبدأ –أي الحوار- لا يعني بالضرورة اتفاق على التفاصيل، فمن الأشياء التي تثير اختلافا كبيرا في الساحة الفكرية والسياسية أرضية اللقاء أو الحوار، ولهذا يرفض كل أرضية سوى الإسلام، سواء كانت أرضية وطنية "قد يحاول أحدهم أن يتفلت مما يلزمه به اعترافه أنه مسلم فيجرنا إلى أرضية وطنية وبساط المصلحة العامة. وما هي إلا اللائيكية تدافع عن موقعها"، أو أرضية عقلانية " لا نلعب بالكلمات لنلقي جسرا وهميا نعبر عليه ويعبرون لنلتقي على أرضية عقلانية مشتركة، ولا نطرح بمقتضى آداب العقلانية لغة السجال لنلاطف حتى نستلطف"، ويقترح رحمه الله، بالمقابل، أرضية إسلامية " تعالوا إلى كلمة سواء جامعة ! تعال! لفظة الكلمة السواء ومعناها أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا. سماء الكلمة السواء ما بين العبد وربه توبة واستجابة وإيمان وعمل صالح. أرض الكلمة السواء ما بيني وبين أرباب مستكبرين في الأرض واجب علي أن أكفر بهم وأقاتل بغيهم. ولا قدرة لي على قتالهم لأفرد الله ربي بالعبادة إلا بتحزب لله يبني قوة سياسية قوامها المستجيبون لله". ويدعو رحمه الله، لتحقيق ذلك، إلى صياغة ميثاق إسلامي تجتمع حوله جهود الصادقين، ويشارك فيه الكل وضعا ومناقشة " صياغة ميثاق على عين الشعب وتحت سمعه وبصره، والله عز وجل رقيب والأمة شاهدة... صياغة ميثاق، ومناقشة ميثاق، وإشراك الشعب في النقاش لتستنير الطريق، وينكشف الزيف، ويعرف الحق وتختار الأمة وينفضح الدخيل ويخزى المنافق ". هذه بإجمال وتركيز شديد المعالم الكبرى للمشروع الفكري الذي أسس له الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، وهو في أمس الحاجة إلى من يناقشه بموضوعية وتجرد عن الخلفيات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة وبتغليب للمصلحة العامة لأن في ذلك إثراء للعمل المجتمعي والفكر السياسي. لقد التحق الإمام رحمه الله بالرفيق الأعلى ويده بيضاء على العمل الإسلامي بالمغرب وخارجه لأنه استطاع خلال مسيرته العلمية والعملية: 1- بناء حركة إسلامية مغربية أصيلة بعيدة عن التبعية للمدرسة الإخوانية أو الوهابية أو الشيعية أو الطرقية؛ 2- نقل العمل الإسلامي من دائرة السرية إلى العمل العلني في وقت كان كل رواد الحركة الإسلامية يعتبرون ذلك مخاطرة وصبر من أجل ذلك على أذى الكثير منهم، وقد أثبتت السنوات صواب تقديره؛ 3- استطاع خلال مسيرته جمع كل ما تشتت خلال قرون، حيث حرص على الجمع بين فقه الباطن وفقه الظاهر في توليفة قلما توفق فيها غيره؛ 4- رد الاعتبار لفقه التزكية والتطلع للترقي إلى الإحسان ولم يجعل هذا التهمم حبيس الزوايا والطرق الصوفية، بل جعله ديدن كل من يريد العمل في حقل الدعوة إلى الله عز وجل؛ 5- رد الاعتبار للمسألة الاجتماعية " العدل" لتحظى بالأولوية في مشروع الحركة الإسلامية بعد أن ظلت حكرا على مناضلي التيارات اليسارية. ومن أفضل ما كتبه في هذا الباب "في أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز،وفي وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية، فمن كان شغل يومه ونهاره هم القوت، والمأوى والكسب، والشغل والدَّين، ومرض الأطفال ومصير الأسرة لن يسمع لعرض المبادئ العليا ولو كانت دينا يؤمن به، لا وقت له، لا استعداد، لا مناسبة"؛ 6- رسخ منهج السلمية والرفق في زمن العنف وبذل من أجل الإقناع بصواب هذا الاختيار جهدا كبيرا أثمر أجيالا ومنهج عمل سلمي بعد أن كان ينظر بالتنقيص لمن يتبنى هذا الخيار؛ 7- دعا إلى تجاوز إرث المذهبية والطائفية فحفلت كتاباته مبادرات تقريبية وتأليفية لقلوب وجهود المسلمين بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية لأنه كان حريصا في اجتهاده على النهل المباشر من منهاج النبوة؛ 8- دعا مبكرا إلى تجديد أصول الفقه بالانتقال في دراسة المقاصد من الصيغة الحفاظية إلى الصيغة المطلبية ومن الفهم الفردي إلى الفهم الجماعي المرتبط بمصير الأمة.