عاشت الفنانة الكبيرة الأنيقة "جانيت جرجس" : (صباح)، شحرورة صادحة لم تمل ولم تكل من الغناء والتغريد طوال عقود امتدت من منتصف القرن العشرين إلى غاية نومها الأبدي قبل أيام، ورحيلها وقت صلاة العصافير، ألم تكن عصفورة العصافير؟، وفي هذا ما يشي بعمر رَفَلَ في الفن والتغريد، والرقص والتمثيل المسرحي، والسينمائي الميلودرامي الراقي. ويشي – من جهة أخرى- بحياة ملأى بالفتون، وعامرة بالفرح والبهجة والانتشاء. لم يكن من السهل أبدا على من كان أنثى في تلك الأيام، أن يقتحم الصفوف، ويتقدم الرجال، ويتصدر المشهد الفني أو الأدبي أو الفكري. وعلى رغم الانعتاق الجزئي، والتحرر المحسوب الذي عرفته المرأة العربية، فإن التقاليد المتحجرة، والفحولة المتورمة، والذكورة الطاغية، سادت، وهيمنت، وَعَوَّقَتْ مهمة التحديث على أكثر من مستوى. وحدها الطبقة البورجوازية، والفئات الشعبية المسيحية المتنورة لأسباب تاريخية، من خلال رجالها ونسائها، هي من اقتحم العقبة، وتخطى الحاجز، وعانق الحرية بمشمولاتها المختلفة، وبتعبيراتها المتنوعة وفي رأسها : حرية القول والتعبير، والسفور بالمعاني جميعها. وكان للصدف، والمباركة "السماوية"، كما كان للأسر المتعلمة أحيانا، اليد الطولى في ظهور أقلام وأصوات على يد ثلة من الأساتذة والمفكرين، وقادة الرأي. ويكفي أن نشير –لَمْحًا- إلى مي زيادة وملك حفني ناصف، وهدى شعراوي، ومنيرة المهدية، وأم كلثوم، وصليحة التونسية، وفتحية أحمد، وعلية، وفيروز، وصباح، وغيرهن من القامات اللاتي هدهدن الأحلام، وسرن بأبهاء الجمال، واللذائذ "الحلال" إلى ما تحقق وأنجز، وعم الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وسارت بذكره الركبان، فصار عنوانا على مرحلة منقوعة في سحر الغناء، ومغموسة في ماء العذوبة والإشراق والبهاء. بهذا المعنى، يكون –القرن العشرون- وتحديدا العقود السبعة الأخيرة منه – زمنية قوية، وأكاد أقول : استثنائية في تاريخنا الحديث والمعاصر، تاريخ العرب المشطوب والشقي. زمنية استثنائية لحاصل المتحقق والمنفذ فيها إنْ على مستوى الموسيقا والغناء، أو على مستوى الأدب والفكر والرأي. فضمن هذه الزمنية المتوهجة والمشتعلة، ظهرت المطربة الأنيقة الرائعة : صباح، ظهرت شحرورة الوادي التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. لم تُضَاهِها مطربة في شجوها، وعذوبة صوتها، ونُعَمَى وجهها ومبسمها العريض، وتَصْهالها الجبلي الذي ترتعش له جذور السُوح والمدائن، والجرار على رؤوس الصبايا عند المنابع- اللجين، وتهتز له الأوراق والأحداق والأشجار، وتتصادى معه الطيور من كل جنس. لم تُضَاهها مطربة خلا قليلات في طول الوطن العربي وعرضه. لها البسمة مشرقة كفجر بَلِيلٍ وشمس مخفورة ناصلة من غيم شفيف، وغلالة رقيقة، و"الميجنا" و"الدبكة"، اهتزاز واعتزاز واختزال للبنان بكل ما فيه، بجواريه المنشآت كالأعلام، ونسائه المسيحيات أو المسلمات المتلفعات بالندى والسحر كما يتلفع الشربين والسنديان والأرز الخالد في مقتبل أبريل، وفي آصاله، وتسابيح إيار ولطائفه، وبشجره الظليل، ونسيمة العليل، ومائه السلسبيل، ورجاله الصِّيدِ المتحدرين من أرومة فينيقية مثمرة أبدا، ودوحة لها الأطياف والأعراق تلاوين، وأقواس قزح. حملت صباح لبنان في فمها كما يحمل عصفور عشه في منقاره العاجي أو الأبنوسي الملون، ورفعته إنسانا وشجرا وحجرا، إلى الذرى حيث الملكوت الأسنى يتقطر غلالات من شفيف الوجد كالمطر الغضير، أو الغضارة الممطرة. فارعة بارعة، واقفة كأرز بلدها، ريشة في الريح، خيزرانة في تواثب الضوء والنور، متشحة ببياض الثلج في فرو من نَسْج كبرياء لبنان. ومثلما نجم هادٍ، ونقطة متوهجة لامعة، ذاهبة آيبة، جاذبة بارعة، سار إليها المجد مرفرفا في البُرْدَة – الزمرد، والفستان -الياقوت، والطرحة – السندس، والإِشَارْبْ - الماس، وتهافت عليها، كالفراش محترقا بصعقة الضوء، فنانون كبار، فنانون ومخرجون وممثلون من عيار ثقيل، عيار الذهب، إذ وجدوا في صوتها، وبحته ورخامته، ومقام خامته، ما بَلَّ غلتهم، وروى ظمأهم، وأبهر سمعهم، وَرَوَّقَ خاطرهم، وأسعفهم على اختيار الأجود والجميل والجليل الملائم الموائم لصوتها الرائع الهادر الناعم كَكَرْكَرَةٍ طفل، وكأنه دَفْقُ "بردى"، وَسَيْلُ الثلج المتكوم والمتسرسب كالنوافير على ميزاب الجبال وأجنحة الهضاب والتلال. وكأنه حفيف الأرز الشامخ يجفجف في الشروق والغروب وما بينهما. وكأنه رفيف الفساتين المترعات عطرا وضوعا يهطل على المسامع والمشارب والحواس والمرائي والأفئدة في ضحوة النشوة، وصولة الفتنة والمدام، (فإذا الطير في الربى تتالت // وتغنت والغصن مَادَ وشَوَّقْ // وسجا زورق الإله، ومدت // منه، كفَّان تقْطِفانِك زَنبقْ)، بلغة مواطنها الشاعر الكبير الراحل سعيد عقل. هي ذي الشحرورة التي غنت فتردد غناها وصداها في الجهات، وتبلل في الينابيع والأنهار والعرصات، والتي أطربت بكل الشجا والشجن، وبكل الفرح والمرح، فتلقفناها أضمومة من حبق، وزعتر، وورد، وياسمين، وفل، وقرنفل، وأقحوان، وتنشقناها في الأصباح والعشيات. كانت لنا غذاء وفاكهة، وعيدا وعطرا وفرحا تَسَايَفْنا به، وتَصَايَفْنا على غدائره، وتشاطأنا معه على مرتفع الصحو، ومرتقى الأنفاس، ومنحدر اللذة والامتلاء. فمن ينسى، على رغم أن التراكم والتزاحم اليومي يُنْسي، أغانيها التي انكتبت في الذاكرة والوجدان، وارتسمت في الروح كأشفى وأمتع ما يكون : "زي العسل" و"آلو بيروت"، و"مَرْحَبتينْ"، و"عالرايحْ والجايْ"، و"جينا الدارنسأل عن حبايب"، و"عالضيعة ياما عالضيعة". ومن يسهو عن أغنيات البهجة، والفرحة والضحكة، والانشراح: "أَكْلَكْ منين يابطة" و"عالبساطة.. البساطة"، و"حبيبة أمها"، و"جيب المِجَوزْ يا عبود" و"عاشقة وغلبانة" وعالنَّدا.. الندا.. الندا.." إلخ؟. هذا غيض من فيض، وإلا فإن عدد أغانيها ومسرحياتها وأفلامها، يربو على الستمائة عمل فني في أقل تقدير. ومع أن صباح عَمَّرَتْ، وعاشت في سنواتها الأخيرة معركة وجودية شرسة مع الزمن بوصفه متغيرا يفسد الجمال، ويحط من قدر ومنسوب الأناقة والكمال، ومع علمها أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر، فقد ظلت "الصَّبوحة" صبّوحة في عمرها العتيّ، شابة مغناجا كما نشأت، على رغم كبرها وشيخوختها، طفلة لعوبا في أغانيها، وآية ذلك أغنيتها مع "رولا" : "يانا .. يانا بحبيبي أموت أنا ..". لم يفتر عنفوان الشحرورة لحظة، لم يشحب وجودها ويَذْوي تماما عودها، ولا انطفأ وهجها وبريقها، استمرت تقاوم زمنًا لا يرحم، ووعدا آتيا لا ريب فيه، غالبته بكل ما أوتيت من رغبة محمومة في الحياة، ورصيد فني تاريخي بهيج ومبهر، استقوت به – لا محالة- على الرداءة، وانكسار أحلام وآمال. ويكفي للتدليل على ذلك زواجها المكثار وخروجها – بين الفينات- ب "قفشات"، وآراء وأغنيات قديمة – جديدة، في تصميم معجز على أن تحيا، ويستمر ذكرها واسمها مشتعلين في الذاكرة والوجدان العام، مشتعلين في العالمين والتاريخ الإنساني. نامي في سندس الفن يا صباح، نسيجا من حرير علوي، ورداء فاخر من أخضر أرزك وجبالك. نامي في حضن لبنانك طيرا مبلولا عاد إلى رَحِمِه الأولى، إلى ثراه- التبْر، وعشه الدافيء. نامي مُمَجَّدَةً، مكرَّمة بنياشين أغانيك وأفلامك، وعطائك الفني الباذخْ والكبير. نامي لتستريحي من وعثاء الزمن، وسأم الشيخوخة الظالمة، والهرم القاسي، وتعودي "صبوحة" "دلوعة" كما انبثقت في الزمن الجميل. زمنك لم يغب إذْ غبت، سيجيء منا، من تاريخك الفني الأنيق، من تاريخنا، وتاريخ لبنان، ملفعا بالفن، مدثرا بالجمال.. ثم يرفرف عاليا ليملأ الكون المتداعي، وخراب الروح، زقزقاتٍ وسقسقاتٍ وأهازيجَ وأغاريد، وشدوا بديعا، يرد الروح . وداعا صباح وداعا شحرورة الزمن الجميل.