مدخل 1. يعيش المسلم المعاصر مرحلة تاريخية صعبة وحرجة، عنوانها العريض العجز والتيه، وتبدو صعوبتها أكثر جلاءً في الصراع بين النماذج والبدائل التي يستعرضها التاريخ أمامه؛ فهو تبعا لذلك حائر بين منطقين، استطاعت الحداثة للأسف أن تقدمهما باعتبارهما متعارضين متخاصمين؛ الأول ديني والثاني عقلي. وقد عملت على الانتصار لكل ما هو عقلي وعقلاني، وفي المقابل قامت بتهميش الدين إلى زاوية ما هو شخصي، ولم تقنع بذلك، بل إنها تعمل جهدها، بما تمتلكه من قدرة على التفكيك والمراوغة، على إلغاء كل ما يَمُتّ بصلة إلى الوحي من حياة الإنسان، ومسْح أثره وظلاله بهدف "إخلاء الطريق" أمام العقل الفلسفي والعلوميّ كي يصوغ الإنسان والعالم على "هواه". لكن قلة من العلماء والمفكرين المصلحين مازالوا يرفعون الصوت عاليا بمعارضة هذا المسلك المهلك المهين، ويعملون على إعادة إحياء العلاقة بين الوحي والعقل على أساس التوازن بينهما، المفضية إلى أولوية "السماع"؛ على اعتبار أن القرآن يذكر السمع قبل البصر، "لأن حاسة الإبصار وما يلتقطه البصر من صور العالم لا تحمل إلى العقل رسالة إلا عن العالم المرئي. لا يخبر البصر عما وراء المرئي ولا عن أصله، ولا عن معناه" ( عبد السلام ياسين، "تنوير المؤمنات" ج1، ط 1ص262). كل هذا رحمة بالإنسان، ورغبة في دفعه كي "يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا". وفي هذا المقال سنقف مع اجتهادٍ واقتراحٍ رفعَ صاحبه، منذ بداية تهمُّمِه بمصير أمته، شعارَ "المنهاج النبوي لتغيير الإنسان"، واشترك مع الحداثويين في الهدف؛ أي"إخلاء الطريق" أمام العقل، ولكن هذه المرة كي يتمتّع بأول حق من حقوقه؛ وهو حقه في معرفة ربه. 2. في سنة 1994 صدرت الطبعة الأولى من كتاب "محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى" للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله والذي كان حينها محاصرا في بيته جرّاء الإقامة الإجبارية التي فُرضت عليه منذ سنة 1989، وكان يبلغ حينها السادسة والستين من عمره. يقع الكتاب في 127 صفحة، ومقسم، بالإضافة إلى مقدمة، إلى 37 مقالة قصيرة. سياق الكتابة والنشر في الحقيقة، لا نملك أية مؤشرات توضح لنا "زمن كتابة" هذا النص ولا سياقاته، وإن كنا نرجِّح أن الأستاذ كتبه أثناء وجوده في "الإقامة الإجبارية"، في إطار محاججته للمفكرين العقلانيين العرب، الذين لا يبرحون يبحثون عن "سلف لهم في اللاييكية؛ فينادون شبح ابن رشد، ويلتمسون عند المعتزلة آباء أصلاء للعقلانية الجريئة" (محنة... ص93)، ورغبة منه في نسف مقومات تفكيرهم وأدواتها. فهو يصرح بأن مقصوده منه هو تتبع "المقالة اللاييكية لندحض الزعم الحداثوي ونتقدم بأن الحكم الشوري والعقل المتدين المتعلم بلا حرج من كتاب الله وكتاب العالم، كفيلان وحدهما بضمان الحياة والقوة والتنمية والوحدة للمسلمين"(محنة... ص85). هذه التصورات يعتبرها مضرة بالشباب، الذين لقلة خبرتهم يسارعون لتبنّي أية طريقة تفكيرٍ تبدو ناجعة في تفسير تخلفنا، وتطرح مشاريع مستقبلية لنهضتنا. فيجب ألا ننسى أن الكتاب سُبق بسلسلة من الكتب التي تقوم بنفس الدور؛ ونذكر هنا: "حوار مع النخبة المغربة" (محاضرة،1981)، و"الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية" (1987)، و"الإسلام والقومية العلمانية" (1989)، ثم بعده مباشرة؛ أي بعد شهور صدر كتاب "حوار مع الفضلاء الديموقراطيين". أما "زمن النشر" فالظاهر أنه ليست هناك ظروف، يمكن اعتبارها "مناسبة الصدور"، ولكننا نعلم إن جاز لنا أن نتحدث عن هذا الأمر هنا أنه ظهر في لحظة حرجة جدا من تاريخ المغرب؛ عندما كان الملك الراحل الحسن الثاني قد بدأ يُعدُّ لما سمي ب"التناوب"، وما رافق ذلك من "توافقات" مع اليسار بدأها بإظهار "حسن نيته"، وذلك بمحاولته إغلاق ملف المعتقلين السياسيين، واستثنى الاسلاميين من ذلك. قراءة في لبنات العنوان ومؤشراته العنوان موحٍ جدا؛ ويمكن عدُّه بمثابة "فكرة عامة" للكتاب، فهو كاشف، يصرح ولا يُخفي كما جرت عادة واضعي العناوين؛ يصرح بأن العقل المسلم يعيش حاليا "محنة" حقيقية، يتجاذبه فيها طرفان متخاصمان؛ فهو حائر بين الفطرة التي تدعوه كي يتشرب من المنبع الصافي للوحي: كتابا وسنة، وبين "هوى" يطمع ممثلوه أن يسيطروا على مفاصيل التفكير في حياتنا المعاصرة. فلنفكك عناصر العنوان أولا: "المحنة" مصدر لفعل "مَحَنَ"؛ أي خَبره وجرَّبه، وعذبه فاشتد في تعذيبه، فالمحنة بهذا المعنى تفيد البلاء والشدَّة. "السيادة" تفيد السلطة، والغلبة، والرفعة، والمجد، والبروز، والشيوع، والرجحان، والتفوق على الغير أهمية وتأثيرا، والاستقرار، والاطراد من دون تعكير. وسيادة الوحي؛ احترامه وتطبيقه، وجعله مهيمنا على ما سواه. "السيطرة" تفيد في اللغة نفس ما تفيده "السيادة"؛ فهما يعتبران من المترادفات، إن جاز لنا ان نؤمن بوجود الترادف في اللغة العربية. لكن الأستاذ لا يستعملهما كمترادفتين؛ فلماذا إذن "سيادة الوحي"، و"سيطرة الهوى"؟ الفرق أن السيادة تأتي نتيجة القَبول والاقتناع والرضى، أما السيطرة فنتيجةً للتحكُّم. الهوى أصله الدَّويّ في الأذن. ويفيد معاني كثيرة جدا، لكن الأستاذ يستعمله للدلالة على "الزيغ والميلان عن الحق"، فصاحب الهوى بهذا المعنى وكما يقول الشعراوي رحمه الله "يهوى حكما في شيء ثم تأتي ظروف أخرى فتجده يهوى حكما مقابلا". والمرجع قول الله تعالى: "فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله" (ص، 26)، وقوله أيضا: "ومن أضلّ ممّن اتّبع هواه بغير هدى من الله" (القصص 50) وقوله أيضا: "أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم" (الجاثية 23). وهذا يعني أن اتباع الهوى يؤدي ضرورة وحتما إلى"الضَّلال". أسئلة الكتاب وشواغله منذ أن بدأ الأستاذ ياسين الكتابة في مجال التنظير للعمل الإسلامي بداية السبعينات من القرن الماضي، لم يتوانَ عن بناء منظومته الفكرية، وتشييد عُدَّته المنهجية، وتعزيز جهازه المفاهيمي، فنراه يجلس تلميذا أمينا بين يدي القرآن الكريم يتشرَّب المعانيَ والطُّرق والأساليب، فعمل على إحياء العديد من مصطلحاته ومفاهيمه، وقام بتوظيفها في كل إنتاجاته مهما كانت مواضيعها، أما حينما يضطرُّ لاستعمال غير ذلك من المصطلحات فإنه يقوم أولا بإعادة تعريفها، وشحنها بدلالات جديدة تناسب رؤيته قبل أن يدمجها منسجمةً في نسقه الفكري، ويجعلها إحدى آليات تحليله. وهنا تحضرني نماذج من هذه المصطلحات، مثل: "الداروينية" و"القابلية" و"التحدي والاستجابة" و"الدولة" و"الاسلاميون". وبناء على هذا الأساس نطرح الأسئلة التالية: ما المعنى الذي يقدمه الأستاذ ياسين لمفهوم"العقل" في هذا الكتاب وغيره؟ وما هي وظيفته ؟ وكيف هي استجابة العقل المسلم لتحديات الحضارة الغربية وإنتاجاتها؟ وكيف يفهم "الوحي"؟ وما العلاقة التي ينسجها بين العقل والوحي؟ وماذا يقصد ب"الهوى" كمفهوم إذا جاز لنا أن نلحقه بالمفاهيم وما هي آليات اشتغاله، وتجلياته ؟ أما الكتاب فإننا نطرح عليه السؤال الأهم، وهو سؤال الأفق. مصادر الكتاب: بين الخفاء والتجلي نشير في عجالة إلى أن الأستاذ ياسين يتّبع أسلوبا خاصا في الكتابة؛ فمن عادته ألا يصرّح بمصادره، لأنه بكل بساطة يعتبر نفسه مُنظِّرا وليس باحثا؛ فهو لا يكتفي بالتحليل والتفسير بل يتعدّاهما إلى التهمّم التعبديّ بالبحث عن بديل يُغيِّر ما بالأمة من تخلف ووهن، من أجل ذلك نراه يقرأ الفكرة ويعمل على دمجها في مشروعه: تبنّيا أو نقدا. وهذا ما نلمسه واضحا في هذا الكتاب؛ فمَتْنٌ يناقش من بين ما يناقشه قضايا الوحي والعقل، ويُسائل مسائلَ عديدةً يتشابك فيها العقدي بالتّعبّدي بالفكري بالفلسفي، حريّ به حسب وجهة نظر الأكاديمي أن يُحيل على الكتب المعتمدة في الباب، لكننا لا نكاد نضفر إلا بعنوانين اثنين: "المقاصد" لأبي حامد الغزالي، و"مناهج البحث عند مفكري الإسلام" لسامي النشار، ويوردهما فقط لأنه ينقل عنهما بعض النصوص القليلة. ولكن المطّلع المدقّق يصادف أفكارا وتصورات وتدقيقات لا تخطئ العين طرقها ومسالكها. مقدمة وثلاث مسائل يدشّن الأستاذُ كتابَه بمقدمة قصيرة يبدأها بطرح سؤالٍ مركزيٍّ، وعلى إجابته سيبْني ما يأتي من رؤًى ومسالكَ وأحوالٍ وخياراتٍ، وهو سؤال تبدو الذاتيةُ حاضرةً بقوة في صياغته؛ ذلك أن الأستاذ يمجُّ ويحتقر ما أسمِّيه ب"الموضوعية الباردة"، وهذا يحتّم عليه الاصطفاف والانتماء والتحزب لمرجعيات الأمة واختياراتها، ويبدو هذا جليا حتى في الكلمات والمفاهيم التي ينسج منها السؤال، وكيفية طرحه. ف"هل من فرقٍ جوهريٍّ بين عقل من يستَقي من حوض اللاييكية وينظر بمنظار مستعار، وتجري في دمائه الثقافية تيارات فلسفية متطورة متدرعة بالحجة العلومية، وبين عقل غيره من الناس؟". (محنة... ص4) ثم يُعرِّج على ثلاثِ مسائلَ بدت له أساسيّةً، ويجب الحسم فيها منذ البداية: سارع أولا ل"تصفية حسابه" مع علماء النفس (طبعا المنظرين منهم والتأسيسيين) الذين يعتبرهم نموذجا "للإفك الجاهل والإفك المتعالم على عواهنه"، لأنهم نظروا إلى الوحي، ثم فكروا وقدروا، فصنَّفوه في النهاية إلى جانب الظواهر المَرضية الشاذة. ثم أشار إلى خصوصية "العقل المؤمن"، الذي يُؤجِّل تعريفه، ويجعله، دفعا للخلط، مختلفا اختلافا جوهريا عن العقل المشترك بين الناس، والذي يسميه "العقل المعاشيّ"، وخاصة العلوميّ والفيلسوف، ويقطع بأنه "محجوب عن حقائق الغيب"، لأنه، بكل بساطة ووضوح، لا يسمع من الوحي. والنموذج الذي يقف معه سريعا في المقدمة، ولكن ظلاله سترافقنا في كل ثنايا الكتاب وأعْطافه هو داروين الذي تتلمذ في الطبيعة وعلى يدها، ثم خرج على الناس بنظرية أفسدت في نظر الأستاذ فطرتهم، لأنه شأنه في ذلك شأن أغلب إنتاجات العقل المعاشي الفيلسوف "يدور في منطق مغلق لمّا انسدت مسالكه وانحبست قنواته وعميت عينه وصمت أذنه عن السماع من الوحي". (محنة... ص6) وهذه الوقفة القصيرة مع داروين نابعة عن وعي كبير بالدور الذي لعبته أبحاث الرجل وخلاصاته في توجيه تصورات من جاء بعده من العلماء والفلاسفة. فالأستاذ يؤمن وكما يقول علي عزت بيجوفيتش بأن "قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان، تأخذنا إلى الوراء، إلى حيث مسألة "أصل الإنسان". وفي ذلك تتناقض الإجابات التي يقدمها كل من الدين والعلم، كما هو الشأن في الكثير من القضايا". ( علي عزت بيجوفيتش، "الإسلام بين الشرق والغرب" ص47) العقل والوحي: التعريف، والوظيفة، والعلاقة للأستاذ ياسين رؤية خاصة لمفهوم "العقل"، تنطلق أساسا من استقرائه للسياقات القرآنية التي ورد فيها، وحاذيه في ذلك هو محاولته إبراز تهافت الخلفية التي تحكّمت في نقاش ما سمي في الأدبيات الإسلامية القديمة ب"ثنائية العقل والنقل"، والنتائج التي ترتبت عليها، خاصة عند الفلاسفة والمتكلمين. وفي هذا السياق يقول:"سيُطرح السؤال (...) عن وظيفة العقل وحدوده، عن علاقته بالوحي المنزل ومكانه منه. وهنا (...) يجب أن يكون البرهان في الجواب هو القرآن لا من تحدث باسمه فأخطأ، ولا من اجتهد فقصر، ولا من حرف فخان" (القرآن والنبوة ص 19) ومن هذا المنطلق يقسِّم الأستاذ العقل إلى عقلين؛ ف "ما نسميه عقلا لغة وتعريفا للملكة المشتركة بين البشر ليس هو مسمى العقل في القرآن"؛ والذي يثبت له ذلك أن مادة «عقل» ذكرت في القرآن الكريم خمسين مرة "ما منها لفظة تدل على الآلة المشتركة". "العقل في القرآن فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب. العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب". أما الوحي فهو "كلام يكلم الله به عباده المصطفين إما للاهتداء في حد ذواتهم، فتلك النبوءة، وإما يصطفيهم سبحانه لحمل رسالته لمن يشاء من خلقه، وتلك رسالة الرسل عليهم السلام، وقوامها النبوءة".(محنة...ص19)، والسنة عنده وحي من الوحي. "العقل الذي تحدث عنه القرآن (...) هو العقل الذي يتفكر في الخلق، (...)هذه واحدة. الثانية أن هذا العقل المُشادَ به في القرآن هو الملَكة التي يستدل بها المتفكرُ، اعتمادا على مسَبَّقات مغروزة في الفطرة، على أن هذا الصنع العجيب لا يمكن أن يكون صانعه الضروري عابثا. الثالثة أن هذا العقل يتدبر القضية الأولى والثانية ليستنتج منها نتيجة وجودية لا نتيجة فكرية منطقية باردة. يستنتج العقل المحمود في القرآن اهتماما حميما بالمصير الشخصيّ بعد الموت. (الأحسان ج2 ص 27) "لجأ العقل الراشد إلى شخص جاءه بحجة دامغة مقنعة أنه أقوى وأقدر وأعلم. هذا الشخص هو الرسول المؤيد بالمعجزة، المخبر عن الخالق، المجيب عن الأسئلة الوجودية، المنادي للإيمان.(...). أما العقل المتكبر فهو العقل الفلسفي الذي استمر في تخميناته فقدَّر ونظَّر وتقدم وأدبَر فأثبت وجود الخالق أو نفاه، وأثبت له سبحانه من عنده افتراء وظنا سيئا ما شاء من الصفات وسَلَبَ. وعاش هذا العقل الفلسفي في نسجه العنكبوتي يشيِّد منظومات ويقوض أخرى". (الأحسان ج2 ص 28) العقل الآخر: التحدي ثم الصدمة... ونوعية الاستجابة يؤكد الأستاذ أننا لا نستطيع أن "نعرف أي إنسان نعني، ويعني غيرنا، وأية حقوق، إن لم ننظر نظرة متوازية لتطور العقل المسلم والعقل الآخر إلى أن وصل حالهما إلى ما نرى ونسمع". (محنة،ص83). ومن ثم ينطلق في مناقشة مسألة اختلاف الظروف والسياقات التي ولد فيها، ثم سلكها، كل من العقل المسلم والعقل الغربي؛ فالأول ولد في المسجد، بينما وولد العقل الفيلسوف، سلف العقل المادي الحديث، في الساحة العامة في أثينا. وفي الوقت الذي خرج العقل المسلم من المسجد إلى الساحة يريد تخليقها و"أسلمتها"، دخلت الساحة في العقل الآخر دخولا متمكنا، واحتلته بماديتها وعنصريتها وضبابية أهدافها. وقد اصطدم العقلان تاريخيا في لحظتين مشهودتين: الأولى "حين برز المسلمون ووطئوا بساط رستم وأرض الفرس ومستعمرات بيزنطة، وقالوا تلك الكلمة المحررة التي فتح لها حد سيف التحرير مجال الفعل، وفتحت لها كلمة الحق محررة العقل صدور الأمم"، أما الثانية فقد "بدأت منذ قرنين من الزمان بغزوة تفوق فيها العقل الآخر التفوق الذي ما زلنا نتحدث عن عواقبه"(محنة،ص83). ثم يناقش اختلاف، بل تناقض، استجابة العقل المسلم في اللحظتين؛ حيث تعامل مع "التحدي" من موقع القوي وبمنطق صاحب رسالة، رغم تواضع مقوماته المادية والحضارية، بينما وقف مذهولا، ثم تابعا مقلدا أمام "الصدمة". أفق الكتاب: تحرير العقل المسلم وإعادة تركيبه يودّع الأستاذ ياسين قارئ كتابه بمقالة، هي بمثابة خاتمة وأفق، سماها "تحرير العقل المسلم"، يشير في أولها إلى أن العاملين في حقل الدعوة الإسلامية من الجيل الجديد أصبحوا واعين تمام الوعي بأن "تحرير العقل المسلم أولوية في مقدمة الأولويات" (محنة، ص123) ولكن، تحريره بأي معنى؟ و من ماذا؟ وفي أي اتجاه؟ تحريره كما يقول أهل اللغة بمعنى تخليصه وإطلاق سراحه، ثم، فيما بعد، تجويده وتحسينه. فلابد إذن من تحريره لإنجاز أولا المهمات الدنيوية التالية : ليكون للمسلمين اقتصاد منافس؛ للإقامة الدولة على قواعد مستقرة؛ ليتحرر المسلمين من الوطنية الضيقة؛ لمحو الأمية، وتعليم القرآن، وتعميم العلوم، وتوطين البحث العلومي، واكتساب الكفاءات التصنيعية. وهنا يَطرح سؤالا عميقا مفاده؛ إذا كان تحرير العقل المسلم بهذا المعنى، لنندمج في العصر إذن؟ ! فيجيب بالقطع؛ كلا. لأنه علينا نحن المسلمين "أن نبني على أصولنا" لأن "طريق الاندماج مغلق مسدود"، فلا حلّ سوى التحرر والاستقلال حتى "نستطيع الإجابة عن أسئلة العصر" الحرجة. ذلك أن ما يعرفه الغرب من "تقدم" مادي لا يغرينا يقول الأستاذ لأن هذا التقدم لا يربطه مشروع إنساني، مادام أن الإنسان عندهم "لا معنى له" إلا أن يكون أنانية واستهلاكا ولذة. ولأن المسلمين مرتبطون بهذا العالم وبمصير الإنسانية: ارتباط الضرورة والمعاش أولا، ثم ارتباط المسؤولية الدعوية والرّساليّة، فلابد من تحرير العقل المسلم التحرير الحقيقي حتى يقوم المسلمون بما بُعثوا به للناس: نشرا للحق والعدل والرحمة. يقول الأستاذ ياسين: "إن الغزو الفكري الجاهلي فكك العقل المسلم تفكيكا، وركبه تركيبة وثنية، وفصله عن الوحي. وإن إعادة تركيبه في أحضان الوحي والنبوة والربانية شرط أساسي في قدرة الأمة على الجهاد.(...) بداية التركيب العقلي للمسلمين البداية الصحيحة (...) أن نصل شرايين العقل بواردات القلب ليتمكن العقل المسلم من كل أنواع القدرة العلمية والتكنولوجية والخبرة التنظيمية في كل المجالات دون أن يتنازل عن استقامته الفطرية". (كتاب الإحسان ج1، ص 98) وعلى هذا الأساس فإن المقصود بتحرير العقل المسلم هو: 1. تحريره من "ذهنية التقليد" المتراكمة فينا منذ قرون، والتي تبحث عن الحل الشافي لهزيمتنا في "التاريخ الإسلامي"، وتلغي الأبعاد الزمانية والمكانية وآثارهما. 2. تحريره من "ذهنية التبعية" للغالب، والتي تعمل على استيراد الحلول من التجربة الغربية بكل أشكالها الفردية والجماعية. 3. تحريره من "الذهنية التبسيطية المركبة على نفسية راضية عن ذاتها (...) واثقة عادة من نفسها، تنسب الخطأ لكل ما خالف نظرتها الضيقة، وتنخدع، وتتعصب".(المنهاج النبوي،ط2 1989، ص217/218) وخطورتها، أننا "حين نحتاج لعقول نيرة شجاعة تكشف غامض الحاضر وترتاد إمكانات المستقبل وتشق الطريق للعمل، تعترضنا هذه الذهنية الملازمة لتلك النفسية فنسقط في الجدل العقيم، القاتل للإرادة، المثبط للعزائم".(المنهاج النبوي، ص 218) 4. تحريره من "الذهنية الذّرّيّة التي لا تنظر إلى ما في أمور الشريعة والحياة من ارتباط، لا تستطيع تصور الإشكالية المركبة من تداخل السياسة، والاقتصاد، والتربية، والاجتماع، والوضع الداخلي والخارجي، والظرف المكاني والزماني، وتطور الأحداث، ووجود التناحر على الهيمنة وتنازع البقاء بين أقوياء الأرض، وضرورة وحدة المسلمين، والاستناد لكتلة المستضعفين في الأرض، وعزائم الشريعة في كل هذا ورخصها، ومقاصدها ووسائلها، وقواعدها في حالة الرخاء وحالة الاضطرار. إلى آخر ما هنالك. هذه الذهنية عاجزة عن تصور عمل إسلامي في نسق منتظم على منهاج يرتب الوسائل لتبلغ الأهداف، ويرتب المراحل والأولويات، ويترك في حسابه مكانا للمرونة عند الطارئ المفاجئ والضرورة الغالبة".(المنهاج النبوي،ص 218) خاتمة المتتبع المدقق لكتابات الأستاذ عبد السلام ياسين ومسيرته الجهادية يخرج بخلاصة مُعتَّقَة؛ مفادها أن قضية القضايا التي قام عليها مشروعه، واستنفذت كل وقته وهمّه هي: كيف"يجلس العقل مجلس التلميذ يستهدي الوحي ويستنير به"، وكيف يتكامل العقلان: المعاشي والإيماني، حتى يَسْلَمَ للفرد المسلم دينُه ودنياه ؟ وتحت هذا الكلام علْمٌ كبير طبعا؛ لأن كل القضايا الأخرى هي بمثابة الطُّرَر والحواشي المفسرة لدقائق هذا المتن.