سؤال وتنبيه 1. تفيد العَظَمَةُ معانيَ: الكبرياء، والنَّخْوَة، والزَّهْو، والجَلال، وارتفاع في القدر والمكانة، وفخامة وجلال وسُموّ، وإحساس لدى الإنسان بأنّه متفوِّق على غيره. وقد تفيد أيضا كما هو مذكور في المعاجم "خلل عقليّ يجعل المرءَ يشعر بقوّة وعظمة غير عاديّة فيخترع وقائع خياليَّة تتَّسق مع هذه المشاعر للهروب من الواقع الفعلي الذي يعيشه الشخص". فأي نوع من العظمة تنسحب على شخصية شيخنا محيي الدين بن العربي وفكره؟ ولماذا البحث أصلا في موضوع يقال بأنه أُشبعَ درسا وكتابة وتمحيصا. بل هناك من يعتبر أن لا فائدة ولا جدوى من العودة إليه، فإن حصل فبِنِيَّة إحياءِ نارِ فتنةٍ خبا لهيبها منذ زمن ليس باليسير، أو بحثا عن مشروعية فاقدة للبذور والجذور على حدّ سواء ؟ 2. نريد في كلمة كي لا نُتَّهم بجهل "المعلوم من العلم بالضرورة" أن ننبه إلى "الخصومة" المفتعلة حول لقب الشيخ؛ فهناك من يثبت "ال" للفقيه أبي بكر، وينفيها في حق الصوفي محيي الدين، وفي الحقيقة لا أحد منهما أحق بها من الآخر، خاصة إذا عرفنا أن محيي الدين نفسه يثبتها وبخط يده في العديد من مخطوطاته كما يؤكد المحقق محمود الغراب، أما القول بضرورة التمييز بينهما بإثبات "ال" أو نفيها فهذا كلام متهافت، لأن أوجه الاختلاف بينهما أكثر من أن تختلط معها الشخصيات والألقاب؛ فالأول الفقيه أبو بكر بن العربي المعافري، والثاني الصوفي محيي الدين بن العربي الحاتمي. الحيرة المفضية إلى البحث والسؤال مدة طويلة وأنا أقرأ لمحيي الدين بن العربي وأُصاحبُه، وكلما تعمقت أكثر في قراءته ازددت فيه حيرة، كي لا أقول جهلا، والذي يريحني ويهدئ من روعي أني لست الأول، وأكيد لن أكون الأخير، في هذه المعاناة؛ فقد سبقني بمراحل من يُعتبرون راسخون في علوم العبارات والإشارات، وكلهم عبَّروا عن هذه الحيرة: إعجابا أو إنكارا. وفي بعض الأحيان، وبسبب استغلاق عباراته، وطلبها الغوص عميقا وراء مخبوآتها، لأن استراتيجية الرمز والإشارة والتلميح هي سيدة ما أسميه "إمبراطورية الكتابة الأكبرية"، كنت، حينها أترك ما بيدي من تآليفه وألتجئ لكتابات أخرى أجعلها "وسيطا" بيني وبين الشيخ لعل إحداها تفتح لي كوة من المعرفة في جدار هذا العالم الغامض والشاسع. فقرأت لفقهاء وصوفية ومستشرقين وعقلانيين حداثيين، وكلهم يعبرون كلٌّ بطريقته وحسب خلفيته عن وقوفهم مندهشين أمام قامة شامخة، وبعضهم وخاصة الفقهاء يعبر عن ذلك من حيث لا يشعر. لكن كتابا واحدا كان له الأثر الأكبر في "تذوقي" لإشارات الشيخ الأكبر ومكاشفاته، إنه كتاب "الولاية والنبوة عند محيي الدين بن العربي" للبحاثة الكبير علي شود كيفيتش، وهو الكتاب الذي سنقف معه مطولا في الجزء الثاني من هذه المقالة. لا يختلف الناس إلا في العظماء ومن خلال مطالعاتي تبين لي أنه لم يختلف "الناس" في تقييم شخصية إسلامية قديمة أو حديثة اختلافهم حول محيي الدين، وهذا في نظري كافٍ جدا ليثبت له الخلود والعظمة. فابن العربي كما يقول يحيى عثمان في تمهيده لكتابه "مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها": "يحتل عن جدارة مركزا أساسيا ومتميزا في الحضارة الإسلامية بمظهريها: الفلسفي والأدبي، وقد هيمن فكره على الحياة الروحية في الإسلام منذ القرن السابع الهجري، كما أن التاريخ لم يعرف على مدى تاريخه الطويل شخصية فذة بلغت من القوة ومن التعقيد ما بلغته شخصية ابن عربي". لقد بلغ التناقض في التّموقف من شخصه وسلوكه وأفكاره وإشاراته حدّا كبيرا؛ فمنهم من رفعه إلى مقام عال من الولاية، بل وجعله "خاتمها" حسب ما ادعى هو نفسه رحمه الله حين قال في بيت شعري مشهور: أنا ختم الولاية دون شك / لورث الهاشمي مع المسيح. ومنهم من طوَّح به إلى قاع الزندقة والكفر. ويكفي أن نتصفح كتب كبار العلماء حتى يتبن لنا وكأنهم كانوا رحمهم الله ملزمين بإبداء وجهة نظرهم في الرجل ومؤلفاته، وكأنه كان حينها المؤشر الذي يرسم الحدَّ الفاصل بين جبهتين متخاصمتين. وسنكتفي هنا بإيراد نماذج لتلك المواقف ليتضح مبلغ الخصومة حول الرجل وفكره. الأقدمون وابن العربي ولنبدأ بصاحب "القاموس" العلامة الفيروزآبادي، الذي يصرح بكثير من الفخر والاعتزاز بأن "الذي أقوله (...) وأعتقده وأدين الله سبحانه وتعالى به أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام الحقيقة حدّاً ورَسْما، ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما. إذا تغلغل فكر المرء في طَرفٍ من بَحرِه غَرِقَتْ فيه خواطِرُه في عُبَابٍ لا تدركه الدِّلاءُ وسحاب تتقاصَر عنه الأنواءُ. وأما دعواته فإنها تَخْرِق السبع الطِّباقَ، وتفترقُ بركاته فتملأ الآفاق. وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته. وغالب ظني أنني ما أنصفته: وما عَليَّ إذا ما قلت مُعْتَقَدي / دعِ الجَهولَ يَظن الجَهْلَ عُدْواناً واللهِ! تالله! بالله العظيم ومَنْ / أقامَهُ حُجَّة لله برهاناً إن الذي قلت بعض من مناقبه / ما زدت إلا لَعَلِّي زدتُ نقصانا" أما ابن خلدون، وهو معدود من المخالفين الأشداء له، فيقول: "ومن هؤلاء المتصوفة: ابن عربي، وابن سبعين، وابن برّجان، وأتباعهم، ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها، مشحونة من صريح الكفر، ومستهجن البدع، وتأويل الظواهر على أبعد الوجوه وأقبحها، مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملّة أو عدّها في الشريعة (...) فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب". ولا يمكن الحديث عن ابن العربي دون استدعاء موقف ابن تيمية، خَصْم التصوف وخَصيمُه، كما يقدمه الفكر الوهابي، فهو يشير في نص مَنْسوبُ الهجومِ فيه مخففٌ مقارنة مع نصوص أخرى إلى أن "ابن عربي صاحب "فصوص الحكم" وهي مع كونها كفرا فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما مات عليه". أما شرف الدين المناوي، فهو نموذج لفئة فضّلت "مذهب التَّوقُّف"، وذلك حين قال بأن "السكوت عنه أسلم، وهذا هو اللائق بكل وَرِعٍ يخشى على نفسه". الإمام السَّرْهندي وابن العربي: من التوحيد الوجودي إلى التوحيد الشهودي في الجزء الثالث من كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام"، والذي خصصه للإمام السرهندي، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله بأن العلماء والمفكرين انقسموا إزاء نظرية وحدة الوجود التي قال بها البسطامي والحلاج وابن العربي، ومن هم على شاكلتهم، إلى ثلاثة مذاهب: الفئة الأولى أيدوا النظرية تأييدا كاملا، وجعلوا منها "غاية المعرفة والتحقيق"، أما الاتجاه الثاني فقد أبدا أصحابه معارضتهم الكلية والعنيفة للنظرية، ولم يروا فيها إلا نتيجة للوهم والتخيل والشطح، أما المذهب الثالث، ويمثله كما يقول الإمام ابن تيمية والإمام شرف الدين يحيى المنيري صاحب "رسالة العبودية"، الذي عرض بديلا عنها سماها "وحدة الشهود"؛ ذلك "أن ما يراه السالك، والذي هو واقع الحال، ليس أن الوجود واحد وما سوى واجب الوجود معدوم لا حقيقة له، بل الواقع أن الموجودات قائمة في مكانها، ولكن نور الوجود الحقيقي لواجب الوجود حجب وجودها عن الأبصار حتى كأنها فانية معدومة". لكن الندوي، وهو من يكون تدقيقا وتحقيقا، يشير إلى العمل الاجتهادي والتجديدي الكبير الذي جاء به الإمام السرهندي في قراءته لهذه النظرية؛ ذلك أن هذا الإمام اختار مذهبا رابعا إزاء المذاهب الثلاثة السابقة؛ "وهو أن وحدة الوجود مقام يعرض للسالك خلال سلوكه، فيشاهد عند ذاك عيانا وجهارا أنه لا وجود هناك إلا لواجب الوجود (…) وما سواه فليس إلا "تنوعاته وتلويناته" (…) فلو حالف التوفيق الرباني (…) السالك فإنه يفوز بمقام آخر، وهو مقام "وحدة الشهود". ثم يورد أبو الحسن رأي صاحب "التوحيد الشهودي" في صاحب "التوحيد الوجودي"؛ حيث يقول:" يرى هذا الفقير أن الشيخ محيي الدين بن عربي من الرجال المقبولين، ولكنه يرى معارفه وعلومه التي يخالف فيها عقائد جمهور الأمة وظاهر الكتاب والسنة، خطأ وضررا على قارئها". عبد السلام ياسين وابن العربي: لا أنصح بقراءة كتبه إلا أن تكون القدم راسخة ومن العلماء المعاصرين الذين شاركوا في هذا النقاش نجد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الذي أفرد في الجزء الثاني من كتابه "الإحسان"، مقالة حول ابن العربي تحمل عنوان "وحدة الوجود والحلول والإتحاد". في البداية يشير إلى أن علمين من أعلام الملة يقفان منذ زمان وجها لوجه: "ابن تيمية وابن عربي، شغل كل واحد منهما، ولا يزال، عقول المسلمين، وفتنت كتبهما الأجيال. ولا مناص من النظر في هذا الخلاف"، ثم ينبه إلى أن لب الخلاف بينهما هو بيت شعري لابن عربي يقول فيه: وطالب غير الله في الأرض كلها / كطالب ماء من سراب بقيعة. "معناه: أن الخلق عدم، وأن ما في الوجود إلا الله. فهل يقول ابن تيمية غير هذا القول (...) قال (أي ابن تيمية): الكائنات ليس لها من نفسها شيء، بل هي عدم محض ونفي صرف، وما بها من وجود فمنه وبه". ثم يدين ابن تيمية إدانة شديدة لكونه "نفى المقالة بالحلول المطلق، لكنه اخترع مقالة غريبة شنيعة سماها "الاتحاد المعين". بعدها يوضح موقفه من القائلين بوحدة الوجود والحلول والإتحاد، فيؤكد أن ذلك "قول كفر وزندقة وجحد"، ولكنه ينبه إلى أن حاجي خليفة سبق وأن كشف في موسوعته "كشف الظنون" بأن الباطنية قد دسوا على الشيخ في كتبه الشيء الكثير. وبعد أن يورد نتفا من شهادة علماء سابقين في مدح أو إدانة الشيخ يُنهي كلامه بأن يَنهى كل من يقرأ كتبه "عن النظر في كتب ابن عربي وأمثاله، إلا أن تكون قدمه راسخة". ابن العربي مختصر الولادة والنشأة؛ بين المتون واللعب، ثم بين نعم ولا 1. يبدأ "الوجود الدنيوي" لابن العربي في الأندلس سنة 560 ه / 1165م، أي قبل عامين من وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني، وبعد نصف قرن تقريبا من وفاة أبو حامد الغزالي، وقبل قرن تقريبا من ولادة ابن تيمية و"بعد عامين من البدء في بناء "نوتردام" بباريس، إبان حكم الملك لويس السابع في فرنسا، وقد واكب مولده فترة ضعف المرابطين في إسبانيا الإسلامية، وزوال دولتهم، ووصول الموحدين إلى سدة الحكم في أعقابهم، كما واكب مولده أيضا نهاية الفاطميين في مصر، واستعداد صلاح الدين لإزاحتهم، إيذانا بشروق عهد الأيوبيين، وتتزامن هذه الفترة مع مولد جنكيزخان في سيبريا الشرقية، وسوف لا يمضي على هذا التاريخ قرابة مائة عام أو أقل، حتى نرى حفيده هولاكو وقد دمر مدينة بغداد، وأجهز فيها على آخر خليفة من خلفاء بني العباس".("الولاية والنبوية عند محيي الدين بن العربي"، علي شود كيفيتش) 2. نشأ محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي الطائي بإشبيلية في أسرة غنية عريقة مشهورة، وكان وقتُه، وهو طفل، مقسّما بين حفظ القرآن الكريم ومتون العلوم الشرعية واللغوية وبين اللهو واللعب، وقد قدّم لنا الشيخ لمحةً عن الوسط الذي كان يعيش فيه في طفولته حين قال في بداية كتابه "روح القدس": "فإذا كان آخر الليل، أنام أنا والجماعة السوء مثلي، وقد تعبنا من كثرة ما رقصنا، فلا نلحق ننام إلا والصبح قد قام، فنقوم فنتوضأ أقل ما ينطبق عليه اسم الوضوء، ثم أجيء إلى المسجد هذا إن وُفِّقتُ وإلا فالأغلب على من هذه حالته أن يصلي في داره ب "إنا أعطيناك الكوثر" وسورة الفاتحة كيفما كانت، والقنوت ليس بواجب فتركته، وأنقرها مخففة جدا، ثم أضطجع إلى وقت الضحى لأستريح". لكنه، وهو في الثانية عشرة من عمره مرض مرضا أشرف أثناءه على الموت، وحينها وقعت له وقائع بدأت بعدها إرهاصات "وجوده الروحي"؛ ففي الوقت الذي "خالَه أهله ميتا، كان هو في عالمه الباطني يرى نفسه محاطا بمجموعة من الشخصيات الخطيرة ذات المظهر الجهنمي، لكن، ظهر فجأة شخص ذو جمال رباني مضمخ بعطر عذب الرائحة، فقهر بقوته الجبارة الكائنات الشيطانية. فسأله: من أنت، فأجاب: أنا سورة يس. والحقيقة أن أباه المسكين القلق على حياة ابنه كان يتلو تلك السورة خاصة بمن أتتهم سكرات الموت" ("الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي" ل"هنري كوربان") بعدها بدأ يطمح أن يكون تقيا مثل بعض من شاهد والتقى من الصلحاء. ثم سلك طريق القوم وهو في السادسة عشرة. سطع نجمه بسرعة، ودخل أثناء ذلك في محاورات مع عدد من مشاهير عصره، ليواجه "إشكالية صراع المناهج" المختلفة داخل البنية المعرفية الإسلامية الواحدة، "فنفر كما يقول قاسم محمد عباس في مقدمته لتحقيق كتاب "عنقاء مغرب" من منهج الفقهاء الذي يسيطر عليه الحسّ تماما، الأمر الذي يدفعه للوقوف في ظاهر النص، وتغييب كل ما عداه، ومن جانب آخر شعر بالضغط من مواجهته للمنهج العقلي عند الفلاسفة الذي يدور حول (...) إلغاء التعارض مع الدليل العقلي". وبحلول سنة 598ه/1200م قرر الرحيل نهائيا عن الأندلس والتوجه نحو المشرق، فزار تونس والقاهرة ومكة والمدينة وبغداد والموصل والقدس وآسيا الصغرى، والتقى بعدد من الأعلام والسلاطين وراسل آخرين. 3. ومن أشهر من عاصره من العلماء والمفكرين نذكر على سبيل التمثيل فقط: فخر الدين الرازي وصدر الدين القونوي والعز بن عبد السلام وفريد الدين عطار وشهاب الدين عمر السهروردي وأبي الحسن الشاذلي وجلال الدين الرومي وتوما الأكويني و ابن رشد. هذا الأخير الذي يحدثنا ابن العربي، في نص مشهور، بأنه التقاه، ودار بينهما حوار يحبّ "الحداثيون" أن يجعلوه مدخلا للتواصل بين الفلسفة والتصوف. يقول ابن العربي: "دخلت يوما قرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله سبحانه وتعالى به في خلوتي (...) فبعثني والدي إليه في حاجة قصدا منه حتى يجتمع بي. وأنا ما بقل وجهي ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي محبة وإعظاما فعانقني، وقال لي: نعم، فقلت له: نعم، فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت: نعم. لا، وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها، فاصفر لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا ". وأتذكر،هنا، أن الأستاذ محمد المصباحي، المتخصص في ابن رشد، والمشارك بنصوص كثيرة في دراسة ابن العربي، خاصة كتابه "نعم ولا"، عندما زار مدينة طنجة ليشارك في ندوة فكرية حول "التصوف والتفلسف"، انطلق من هذا النص ليخرج في نهاية التحليل بخلاصة بدت لي فجّة مفادها أن "الحقيقة ابنة العقل". اندهشت حينها، ولكني عندما عدت إلى كتابه، ووجدته يعترف بأنه أتى "إلى ابن عربي بالعَرَض لا بالذات، لا لأنني ما زلت أعدّ نفسي لحد هذه الساعة من أهل النظر لا من أهل المشاهدة، بل وأيضا لأنني أتيت إليه في لحظة أولى من خلال ابن رشد، أي من خلال الموقف العقلاني من العالم". فهمت حينها موقفه "الآتي من خلف حجاب ما بعد الحداثة" على حدِّ قوله. (محمد المصباحي "نعم ولا"). مشكلة التراث الأكبري: الموسوعية والغموض المفضي إلى الإبهام في التقديم الذي أعده للترجمة الجميلة لكتاب "الولاية والنبوة عند محيي الدين بن عربي" ينبه أحمد الطيب إلى معضلة من معضلات تراث ابن العربي؛ "حيث تمتزج فيه علوم العقل والنقل والذوق امتزاجا عجيبا"، ومن ثم لا يسع الباحث المدقق إلا أن يعترف بأن "هاهنا مستوى من المعرفة يفوق كل طاقات البحث والدرس، ويقع وراء كل الحدود". من أجل ذلك تراه يوصي الباحثَ في التراث الأكبري أن يتجمل بالصبر"لأن محاولة ترتيبه وربط خوافيه بقوادمه والسيطرة على النتائج المستخلصة يتطلب عمرا مديدا، وجهدا شاقا لا يطيقه إلا الأفذاذ" كعثمان يحيى ومحمود الغراب من العرب وأسين بلاسيوس وهنري كوربان وكلود عداس من الغربيين. ويحدد أحمد الطيب مشكلة تراث محيي الدين في أمرين: "الأول، موسوعية هذا التراث، وتنوع مجالاته وحقوقه المعرفية، وتوزعه بين مئات المؤلفات. الأمر الثاني، الغموض الشديد الذي يستحكم من وراء تعبيرات من أجمل التعبيرات وأكثرها دقة وتحديدا على المستوى اللغوي والدلالي"، وهذا ما ينبه إليه الشيخ نفسه في العديد من كتبه حين يشير مرارا إلى "قصور اللغة وعجز ألفاظها وعدم وفائها بالإفصاح عن علوم الأسرار والمخاطبات والمكاشفات"، فتراه يقول في إحدى قصائده: صفة قدسية علوية / أَعلِمتَ أن لصدقي قَدما فاصرف الخاطر عن ظاهرها / واطلب الباطن حتى تعلما وهذه أمور من جملة ما يجعل كل مقترب مدقق من كتابات ابن العربي يخرج بانطباع أوليٍّ مفاده أن الرجل كان فائق الذَّكاء، متفوّقا، مبرَّزا، نادرة، نابغة، يأتي بالعجب في عمله: كمالا وقوّة وإبداعا وحذقا. في الحاجة لابن العربي ... ولكن بأي معنى؟ لقد كان ذهولي كبيرا عندما قرأت أول مرة بأن الرجل يُقدَّم الآن، مِنْ قِبل مَن كانوا صباح أمس يعتبرون التصوف خرافة ومسؤولا مباشرا عن سبات العقل المسلم واستقالته، يقدمونه كنموذج ومثال للرؤية التي يجب أن تسود عصرنا الحاضر، ولكنهم للأسف يختصرونه فيما يعتبرونه دعوة ل"الوحدة بين الأديان"، بل هناك من يتكئ عليه ويذهب بعيدا عندما يدعو إلى رفض الأديان جملة وتفصيلا، أو على الأقل إبعادها عن المجال العام السياسي والمجتمعي لأنها في رأيهم لم تأت إلا بالتعصب والعنف والخراب. ومرجعهم في ذلك أبياتٌ شعريةٌ صاحبها لا يملّ من تكرار أن معناها عميق يستوجب صرف الخاطر عن ظاهرها، والغوص عميقا في باطنها. لا يخالجني أدنى ريب بأننا محتاجون حاليا من بين أشياء كثيرة إلى استدعاءٍ انتقائيٍّ واعٍ لجزء من التراث الأكبري، ويهمّ أساسا: التخلُّق بمبادئ الرفق ونبذ العنف، ثم التّحقّق بصفة "الإبداعية" أثناء النظر إلى أحوال الأمور ومآلاتها، وأخيرا التوفُّق في سلك طُرق "الاجتهاد التأويلي" المفضية إلى تجديد فهمنا للدين بما لا يتناقض وأسسَه وقواعدَه؛ ذلك أن هذا المنهج، في تكامله، سيعمل على إعادة الحيوية والفاعلية لمجتمع كاد العنف والتقليد أن يقصياه نهائيا من الوجود الشهوديّ. [يتبع]