بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: ثمة ملابسات عدة أسهمت في تشكيل وعي سلبي تجاه الآخر إفراطا وتفريطا، وهو وعي يجافي موقف الإسلام؛ لذلك أرى أن من الأهمية بمكان بيان الموقفين: الإسلامي، والغربي من الآخر. ولتكون النظرة شمولية والحكم صائبا؛ فلابد من بنائه على مختلف المراحل التاريخية التي تؤرخ لمثل هاته المواقف وتجسدها في واقع عملي، وبزوغ إشكالية الآخر لدى المسلمين؛ مرده إلى أحداث واقعة، وعادات موروثة، وسوء فهم لنصوص شرعية؛ فقد كان لهاته العوامل مجتمعة، وغيرها سبب رئيس في شيوع هاته الإشكالية. ولا يمكن –بأي حال من الأحوال- اختزال الإسلام وتاريخه وحضارته وقيمه ببعض الممارسات الشاذة والمبعثرة هنا وهناك، التي تمارس الإكراه، وتنافي ما جاء به الإسلام نفسه، أو ببعض الاجتهادات التي تفلسف الإكراه باسم الغيرة على الدين؛ وتخلق ظروفه ومبرراته، أو الاعتماد على شخصيات تبنت مواقف معينة أساءت فيها أو أخطأت. والإسلام جاءت بحق إقرار الآخر في الحياة، وضمنت حقه في ممارسة شعائره الدينية أيا كانت ديانته التي يدين بها، واحترم البشر بصرف النظر عن عرقه ولونه ووطنه وجنسه، ولم يجعل الإسلام للمسلمين الدعوة والوصاية على أحد من العالمين؛ بل جعل لهم الدعوة والتبليغ وبذل أسباب الهداية فحسب؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾(الشورى: 48). وقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾(الغاشية: 21). ولا يقف عند هذا الحد فحسب؛ بل يتجاوزه إلى تكريم الإنسان غير المسلم -الذي يعد أبعد الناس عن ديانة الإسلام وهو المشرك-، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ (التوبة: 6). وسوى هاته الآيات كثير في إقرار هذا المبدإ، ولم يقر الإسلام حق التعايش لهم فحسب؛ بل أقر حرية الاقتناع والاختيار في المذهب والديانة، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29). واعتبر حقوق أصحاب الديانات الأخرى معلقة في عنق المسلمين، وإن كانوا مخالفين في الملة والمعتقد؛ فإنهم في ذمة الله ورسوله والمومنين؛ «فكل إنسان له في الإسلام قدسية الإنسان، إنه في حمى محمى وحرم محرم، ولا يزال كذلك حتى يهتك هو حرمة نفسه، وينزه بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبا من تلك الحصانة...؛ بهذه الكرامة يحمي الإنسان أعداءه؛ كما يحمي أبناءه وأولياءه...، وهذه الكرامة التي كرم الله بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم». وفي تقرير هذه الحقوق تقرير لكرامة الإنسان، وإشاعة للعدل ومدافعة للظلم والاضطهاد والعدوان، واعتراف بوقوع الاختلاف، وأن لكل وجهة هو موليها، وهذا الإقرار ما أحوج الأمة المسلمة اليوم لإبرازه وتفعيله؛ لبيان تأصيل المشترك الإنساني للعالمين، وتقرير القواسم المشتركة بين الناس أجمعين؛ لتأسيس ثقافة التعايش والتفاهم والتعاون والحوار انطلاقا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13). ولما أراد قوم تحويل أبنائهم قسرا من اليهودية إلى الإسلام نزل قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة: 256). فحرية الدين، تعتبر من أرقى أنواع الحريات والاختيار وأعلاها وأسماها، والإكراه على الدين يناقض كرامة الإنسان من جانب، كما يناقض قيم الدين ونصوصه من جانب آخر، فحرية التدين قيمة أساس في المجتمع الإسلامي. وقرر الفقهاء: أن القتال إنما يكون للحرابة والظلم والبغي -لا مجرد عدم الإيمان بالإسلام- وتحرير الناس من الطغيان والفتنة، واسترداد إنسانية الإنسان، وتحقيق حرية الاختيار، وتأمين المناخ للدعوة وإزالة العقبات عن طريق بيان الرشد من الغي؛ فالإسلام لا يخوض حربا إلا ردا لعدوان، أو درء لفتنة. ولما وجد النبي صلى الله عليه وسلم نسخا من التوراة بين الغنائم في أعقاب فتح خيبر، فإنه أمر بأن ترجع إلى اليهود-وهم أعداء متآمرون-وقدر في ذلك أنه من حق اليهود أن يعلموا أولادهم دينهم وأن ترد إليهم كتبهم، بغض النظر عن رأيه في اعتقادهم، أو عن عداوته لهم وجرائمهم في حقه. وقد يدخل الإبن الإسلام ويبقى والده على غير الإسلام؛ فيدعو الإسلام الإبن إلى طيب الصحبة وأدب العشرة مع أبيه؛ رغم اختلاف الدين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ (لقمان: 15). وقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، تجسيدا وتجليا واقعيا وبيانا عمليا لمبادئ القرآن في التعامل مع الآخر، وتنزيلا على واقع الناس؛ لتبقى للأجيال المتعاقبة، وسيلة إيضاح ومصدر بيان واستلهام لمسيرة الحياة وتصويب لها حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهو محل التأسي والاقتداء؛ لأن الله سدده بالوحي، وأيده به، وعصمه من الخطأ، وبعثه رحمة للعالمين، ليكون أنموذجا للاقتداء، فقال تعالى: ﴿لسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 22). وقال سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الأنعام:104). وقال: ﴿نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق:45). ومن الأمثلة الرائعة الدالة على قدر الآخر وكرامته في الإسلام ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي ضرب ابنه صبيا قبطيا؛ فأصر عمر على أن يقتص الصبي القبطي من ابن عمرو ابن العاص، قائلا له: «اضرب ابن الأكرمين...» ثم وجه تعنيفه إلى واليه على مصر قائلا: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟». ومن عهود عمر بن الخطاب لهم: «هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المومنين أهل الذمة من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها: إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود». والإسلام يعتبر هذا الاختلاف والتنوع القومي والعرقي والديني طريقا إلى التعاون والتعارف والتحاور والتعايش؛ إذ لا يمكن أن يكون البشر بطبائعهم نسخة مكررة عن بعضهم، وإلا تعطلت الإرادات وتوقف العمران؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود:118). يتبع: التعصب الغربي ضد الآخر [email protected]