منذ سنوات طويلة وأنا أتابع خطواته، أتابعها بصمت، خطوات أبت إلا أن تسابق الزمن نحو مستقبل معلوم، معلوم بنجاحاته وانتصاراته، مستقبل يتكلم لغة لا يفقهها الكثيرون، لغة حاول البعض منهم تكلمها واستعمال رموزها فرسبوا وأخفقوا، لغة لا تؤتى إلا لمن اجتهد وكد وثابر، لغة قيمتها في جسد يعرف كيف يفكك مخيلة المُشاهد ويجمعها من جديد، جسد يبني ويهدم في آن. قد تتعرف عليه وتشير إليه من بين الآلاف وتصرخ عاليا، هذا هو، فقط من خلال ترانيم لغته، تلك التي جعلته مميزا بين أقرانه، يعرف كيف يروض الكاميرا، وكيف يقبض على اللقطة، هو ابن هذا المجتمع بواقعه وخياله، فكلما أغمضت عينيك، وفتحت جهازك، وتناهى الى سمعك صوته، تقول هذا أنا، لأنه بارع في التسلل الى دواخلك، يقرأها ويرددها أمامك، فتصفق لبراعته، وتندهش لتشخيصه، ثم تهمس بإعجاب، إنه بطل. أجل هو بعينه، محمد البسطاوي تلك البولفونية الساحرة المتعددة والمعقدة في الوقت نفسه، يصرخ، يبكي، يحزن، يغضب، يفرح، يصرخ، يشتم، يبتسم، يتجهم... كل تصرف، كل حركة، كل سلوك تجده متقنا متميزا، متمرد على ذاته، وعلى صورته الواقعية داخل الشاشة، فقلما تجد محمد البسطاوي في أعماله، إذ يتجرد من شخصيته الأصلية ليتقمص أخرى لا تشبهها في شيء. يُنَحي حياته الواقعية جانبا، ليبدأ مع كل ''أكسيون Action'' حياة أخرى، لا تشكل بديلا يهرب إليه، أو عملا يقتات منه كما يفعل البعض، بقدر ما تشكل إبداعا متكامل الأركان في شكله وجوهره. التقيت به مؤخرا في مهرجان السينما والهجرة بهولندا، كنت أعتقد أنني سألتقي بمحمد البسطاوي الممثل، كما تعودنا من أغلبية الممثلين المغاربة، فكلما التقيت بأحدهم تجده هو نفسه ذاك الممثل الذي يظهر على الشاشة، ذاك الذي لا يفرق بين دور الضابط، والنجار، واللص، والعجوز، والموظف و... فكل الأدوار لديه متشابهة، حتى أنه لا يفرق بين الواقع وبين الشخصيات التي يتقمصها في أعماله، فتجد تحركاته وتصرفاته وسلوكاته هي نفسها، لا تتغير في السينما كما في الواقع، لكن حدسي خاب هذه المرة فالتقيت بمحمد البسطاوي، ذاك الفنان الواعي بهذا الفرق، ذاك الإنسان المغاير تماما، لن تتعرف عليه إلا من خلال ملامحه وشكله. أما الباقي فهو ينتمي للبسطاوي الإنسان الخارج من جبة التمثيل والغارق في مسؤوليات الحياة مثله مثل اي شخص آخر عادي، لا يتوانى في كشف ما يجول بداخله، يصارحك، يتقاسم معك اللحظة وكأنك تعرفه من زمن، لا التباس في شخصيته، تجدها مفتوحة واضحة شفافة، شخصية ذات طبيعة شعبية، تلك التي تغرف من المجتمع المغربي الحر طبائعها، شامخة، متزنة، بسيطة، متواضعة، كريمة... محمد البسطاوي من الممثلين القلائل الذين فهموا معنى التمثيل ومارسوه بإبداع، يتقن دوره وينسحب بصمت، هو من الممثلين المغاربة المعدودين على رؤوس أصابع اليد الواحدة، أولئك الذين يشخصون الأدوار المركبة بحرفية وإتقان. لغته الجسدية تتماهى والدور الذي تتقمصه، تسايره ببراعة وإحكام، بريق عينيه يكشف ذكاءه، يصمت في عمق النقاش حتى تظنه غادر ورحل، أو غير مهتم بالمرة، فجأة يهجم بشراسة فتكتشف أنه لا يسكت ولا ينطق اعتباطا. محاور ذكي وشرس، لذا وجب أخذ الحيطة والحذر منه، خبير في إجادة الكلام وصنعه، كيف لا وهو يعشق ناس الغيوان حتى النخاع، بل يردد أغانيهم بإتقان، إذا تكلم عن الفن تشعر بغيرته عليه وحبه له، له أسلوبه الخاص في الاعتراض عن شيء لم يقنعه، اسلوب يتسم بالاقناع المضاد والتأثير المباشر السلس. محمد البسطاوي موهبة مغربية فتاكة، وأنا أعي ما أقول، فأنا بدوري لا أنطق عن الهوى، موهبة لم تُظهر بعد كل قدراتها الحقيقية، ربما لأنها لم تجد بعد الفضاء الملائم للتوسع والانتشار، ثوابته في هذا المجال واضحة ومقنعة ومحترمة. " لا أريد أن أكون مخرجا ولا منتجا، سأكتفي بالتمثيل، لم أُخرج بعد كل مافي جعبتي، لن أقتل موهبتي وأخمد طاقتي" هكذا يقول ويعيد ويؤكد، ونحن الجمهور ما علينا إلا أن نصدقه ونؤمن بإبداعه، وننتظر منه ما لا نعرفه، فحتما هناك مواهب أخرى وطاقات أقوى تكمن في مكان ما داخله.