ليس الموت هو من جعله عظيماً كما دأبنا على رثاء من نفقدهم.. بل الحياة هي من جعلته كذلك. يستحيل تقريباً أن تسأل أسرة مغربية تتجمع حول تلفازها عن اسمه فلا تعرفه، ويستحيل تقريباً أن تذكر السينما المغربية خلال العقد الأخير فتقفز على اسمه.. ويستحيل تقريباً أن تقول للناس إن البسطاوي مات، فلا يتدفق الحزن غزيراً. نعم لقد مات.. مات محمد البسطاوي. استمتع الحاضرون في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش بدوره المرّكب في فيلم "جوق العميين" لمحمد مفتكر، تساءل البعض عن سبب غيابه، فأتت الأخبار بأنه يعاني من مرض، وأن العملية الجراحية الأخيرة التي أجراها كُللت بالنجاح. هذا المرض الذي يعاني منه البسطاوي ليس وليد اللحظة، فقد بدأ في احتلال جسده منذ زمن، وكان قد زار المستشفى العسكري خلال العام الماضي، حيث خرج منه سالماً معافى، بيدَ أن المرض بقي يتربص به إلى أن سرقه من أسرته وجمهوره وهو لم يتجاوز عامه الستين. ابن مدينة خريبكة الذي انتظر طويلاً حتى أدى أول أدواره في السينما عبر "كنوز الأطلس" لمحمد العبازي سنة 1997، لم يمر إلى السينما إلا بعدما صقل موهبته لسنوات طويلة فوق خشبة المسرح، تتذكره وزيرة الثقافة السابقة ثريا جبران عندما كان يشخًّص إلى جانبها أدواره في إطار "مسرح اليوم"، ويتذكره يوسف فاضل في فرقة "مسرح الشمس"، ويتذكره أبناء مدينته، وأبناء سلا، وأبناء مغرب ينزف كل سنة بفقدان أخياره. سألنا المخرج داوود أولاد السيد ذات مرة عن أسباب اختياره بشكل دائم للبسطاوي في أدوار بطولة أفلامه، فأجابنا أن محمد كانت لديه القدرة على التقمص بحرفية عالية، لذلك وثق فيه داوود ومنحه دورا أساسياً في فيلمه "باي باي السويرتي" سنة 1998 حتى وهو لم يكن وجها معروفاً آنذاك. لتتوالى بعدها مشاركاته، فيتعرّف عليه جمهور القنوات العمومية عبر مسلسل "أولاد الناس"، ثم مسلسل "ادواير الزمان"، وكلاهما من إخراج فريدة بورقية. ليخلق حميمية خاصة لدى المشاهد المغربي، كأنه صار بوصلة يقيس بها المغاربة مدى جودة الأفلام والمسلسلات الدرامية التي تعرض أمامهم. لم يكن البسطاوي نجم الشاشتين الصغيرة والكبيرة فقط، بل كان نجماً في الحياة كذلك. كان حضوره يضفي رونقاً خاصا على المهرجانات وتجمعات الممثلين، بخفة دمه، بابتسامته العريضة، بغضبه عندما لا تسير الأمور كما يشتهي، وبصراحته في وجه الجميع، كان البسطاوي رجلاً بسيطا إلى أبعد الحدود، هو ابن الشعب كما قال دائماً، ولا عجب، ففي تشخيص البسطاوي، كان المغاربة يجدون جزءاً من معيشهم. بساطة البسطاوي لم تكن قادرة على إخفاء كبريائه، يحكي عنه أصدقاؤه كيف كان يفرض شروطا قاسية على صناع الأعمال العربية التي تستدعي الممثلين المغاربة، كان يرفض أن يكون مجرّد عجلة احتياط أو أن يتقاضى أجراً أقل من الآخرين، آمن على الدوام بقدرة الممثلين المغاربة على التميز في الأعمال الضخمة. قال لنا ذات مرة:" صرخت في وجه مخرج سوري: 'أنا بسطاوي، ممثل مغربي'. وتعمدت أن أعيد 'مغربي' أكثر من مرة، كي أبيّن له أنّ المغربي يعتز بوطنه كما يعتز به المصري أو السوري أو اللبناني". عندما سألناه ذات مرة عن أسباب اشتغاله في السيتكومات الرمضانية رغم رداءتها التي تصل إلى "الحموضة"، كان يجيب بكل صراحة:" نعم هي إنتاجات تافهة، لكن الممثل في المغرب ليست لديه الكثير من الخيارات. فأحياناً، قد ينقضي العام ولا يستدعينا أحد لأداء أدوار في عمل ما، لذلك لا تنفع المثالية في مهنتنا ". لم يكن البسطاوي رجل الفن فقط، بل كانت لديه قناعات سياسية تقلّ عند بقية زملائه، صارحنا في حوار سابق، بتعاطفه سابقاً مع التيار اليساري، وبأن تتبعه الدائم للأوضاع السياسية في المغرب جعله يخلص إلى أن الكثير ممّن يمارسون السياسة اليوم أساءوا إليها. كان حلم البسطاوي أن يجد ذلك الدور الذي يشبه تجاربه في سنوات الرصاص، عندما كان يتخوّف من أن يكون التالي في قائمة الاعتقال. لكنه رحل دون أن يشخّص ذلك الدور. فاز البسطاوي بمجموعة من الجوائز الشخصية في الأفلام التي شارك فيها، كجائزة أفضل دور رجالي عن فيلم "أيادي خشنة" لمحمد العسلي، وساهم في تتويج مجموعة من الأعمال بجوائز كبرى، آخرها فيلم "الصوت الخفي" لكمال كمال الحائز على الجائزة الكبرى لمهرجان الفيلم الوطني بطنجة. نذكر مثالين فقط، لرجل كان مثالاً للمشخّص الذي يحترم نفسه، فهو "ممثل وكفى"، دون أن يرمي نفسه إلى مجالات لا يتقنها، كما فعل ويفعل الكثير من أصدقائه.