مدخل عام لا أدري كيف يتعامل الناس مع مقولة "من علمني حرفا صرت له عبدا" التي تبدو اليوم غارقة في التقليدانية، وفي أحسن الأحوال تُذكِّر بعهد جميل مضى وانقضى، وتُذْكَرُ في لحظات الاسترجاع النوستالجية. لكني حقيقة وصدقا أجد في نفسي احتراما مهيبا للمقولة ولمن سكَّها، فأنا أفهمها وأعيها وأتذوقها بنَفسٍ غارق في الصوفية. في بعض الأحيان، أجدني أتدبر مكونات هذه المقولة، وأسبر أغوار إيحاءاتها العميقة، خاصة وأن "لبناتها" تفتح شهية متأملها: المعلم/المربي، الحَرْف/العلم، الأنا المتواضعة/ المتطلعة، والصيرورة اللامتناهية، و"العبودية" المحققة للذات! وعلى هذا الأساس أنا لا أفهم مطلقا مَن "يفتخر" بكونه لا "شيخ" له ولا "معلم"، ويتبجح بأنه علَّم نفسَه بنفسِه، ومن خلال الكتب فقط. طبعا هذا ليس قانونا ينسحب على الجميع، لأن هناك العديد من العباقرة العصاميين الذين شكَّلوا لحظة فارقة في حياة أمتهم، وبعضهم في حياة الإنسانية جمعاء، لكن التواضع كان سِمَتهم، رغم أنه كان يُستشف من طرف خفي إحساسهم بنقص ما، مَرَدُّهُ غياب تلك ال"مَن" المذكورة في بداية المقولة. طبعا أنا لست من دعاة "من لا شيخ له فالشيطان شيخه"، ولكني أومن يقينا أن "أشياء" كثيرة، و"معاني" جليلة، تسلك إلى العقل والفؤاد أثناء التَّلمذَة المباشرة عبر الجلسة والنظرة والإشارة. وهذا ما يتعذر تماما في حالة التلمذة على الكتب. هذا الفهم يجعلني "أعيش" هذه المقولة بكل كياني كلما استحضرت فضل أحد عليّ، ولو كان بسيطا: تعليم في "المسيد" والمدرسة والجامعة، ملاحظة عابرة، توجيه من صديق، نقد من قارئ، نقض من خصم متحامل. ولا أكتفي بذلك بل أعبر عنه كلما أتيحت لي الفرصة شفويا أو في مقالاتي. لقد تعلمت أن أحتفي بذاتي وتجربتي، وأعبر عنهما بكل أريحية وقوة. أقول هذا الكلام لأني أود أن أدشِّن سلسلة من المقالات كلما أتيح لي من الوقت متسعا للحديث عن أناس أُكِنُّ لهم كل الاحترام والتقدير؛ منهم الحي ومنهم الميت، منهم من التقيت وجالست، ومنهم من تتلمذت على كتبهم ومقالاتهم، والحسرة تعتصر القلب لفوات فرصة اللقاء. لقد استوحيت الفكرة والعنوان من أحد مؤلفات الكاتب والصحفي المصري سلامة موسى، وإن كنت لن أكتفيَ بذكر "الأسماء اللامعة" في عالم الفكر والأدب كما فعل، وإنما سأعود أولا وبفرح كبير إلى طفولتي، حيث تحدد مساري وتوجُّهي، لأذكر بعض أفراد عائلتي وأصدقاء حيي وغيرهم. في الطفولة: لونُ الماءِ لونُ إنائه تقديم 1 عنوان هذا الجزء كما ترون يتكون من عنصرين: عنوان سيرة ذاتية جميلة للكاتب المغربي عبد المجيد بن جلون، ومقولة صوفية توحي بقضايا فكرية وفلسفية عميقة وخطيرة، ليس هنا مجال تفسيرها والتموقف منها، ولكني أستعملها هنا ببراءة من يريد أن يؤكد على كون الطفل مادة خامة وعجينة تُصنع في أسرته ومدرسته ومحيطه، ولن يكون في المستقبل إلا بلون الإناء الذي صُبَّ فيه في صغره. 2 الحلقة الأولى من هذه السلسة موجهة بالدرجة الأولى إلى تلامذتي، الذين اطلعوا على بعض ما كتبت، فعبروا عن رغبتهم في أن أنسج لهم مقالا يناسب عمرهم: قضية وأسلوبا ولغة، فاخترت بعد طول تفكير، لأن الكتابة للمراهقين متعبة ومرهقة أن أنقل لهم بعضا من تجربتي مع أناس "أثقلوا" كاهلي بأفضالهم، لعلهم أولا ينتبهوا، ويدركوا أن أناسا كثرا يحبونهم، ويريدون الخير لهم، عكس ما يظنون! فأنتم تعرفون أن "المراهق" عامة بسبب طبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها يعتقد السوء في كل الكبار تقريبا؛ خاصة والده وأستاذه، اللذان يظنهما يكرهانه، ويريدان تكبيل حريته وتطلعاته جراء كثرة الملاحظات على سلوكه، والنصائح التي يقدمانها له كي لا يخطئ و"يُجرِّب المُجَرَّب". وليفهموا ثانيا أن المعرفة هي في الأصل عملية تراكم وتنمية لمكتسبات وتجارب تبدأ منذ الصغر، وتبدو في بعض الأحيان بسيطة، ولكنها تفتل بالتدريج في حبل الفهم والوعي. الوالدان... عطاء دون حساب هل يستطيع أحد أن يتجاوز والديه أثناء حديثه عن الذين ربَّوه وعلموه وأثروا فيه؟ يتفق الأسوياء من الناس على أن الأصل الأصيل هو "الاعتراف الجميل" بالدور الكبير الذي يلعبانه في بناء شخصية أولادهما ونسجها. أما أنا فيصعب عليَّ، حقيقة، أن أحاول مجرد المحاولة الحديث عن فضل والديّ عليَّ في الشق التربوي التعليمي، فهذا أمر فوق قدرتي و يتجاوز طاقتي، لذلك تراني أتعامل مع قوله تعالى "وبالوالدين إحسانا" باعتبارها تهديدا، فهي في نفسي وبدون مبالغة أخوف آية في القرآن الكريم. ومع ذلك لا يمكن إلا أن أنمذج بمثال أو اثنين. أشير أولا أن طريقة تعامل والديَّ معي، جعلتني أتعرف المعنى الأولي والبسيط للحرية؛ فقد كنت أتحرك في طفولتي بأريحية كبيرة جدا؛ فدخلت السينما، وتعرفت على أغلب الأحياء والشوارع والأزقة الحديثة والقديمة، وتجولت في جل المناطق البحرية والغابوية المحيطة بمدينتي، وسافرت مرارا وتكرارا إلى البادية، كل هذا وأكثر، وعمري لم يتجاوز التاسعة. وهذا ما غرس فيَّ مبدأ "الاعتماد على النفس". وعن طريق والدتي فهمت فيما بعد أن مسألة "الوعي" لم ولن تكون أبدا مرتبطة بالدراسة والتعلم؛ ذلك أن والدتي تستطيع أن تدبر أمور الأسرة، وعلاقاتها الاجتماعية المتشعبة بحنكة غاية في البراعة، ولها قدرة على اتخاذ مواقف "جريئة ومتقدمة" مما يحدث حولها وفي العالم، رغم عدم ولوجها المدرسة. أما والدِي فكان حريصا جدا على تربيتي، فكان يمنعني من مصاحبة الأطفال سيئي الأخلاق. وكم من "حفلات عقابية" نظمت لي جراء عدم التزامي بهذا المنع. الحي... الأسرة الممتدة الإطار الاجتماعي الذي تحركت فيه في طفولتي هو ما يسمى ب"الأسرة الممتدة"؛ ففي الحي الذي نشأت فيه كان كل الأطفال معروفين للجميع، والكل متهمم بمراقبتهم وتربيتهم، وكأنهم أولياء أمورهم؛ فحتى "الطّرّاح" وهو عادة "طفل كبير" قست عليه الحياة، وطَّوَّحَتْ به إلى قاع السلم الاجتماعي كان إذا وجدنا في موضع مشبوه، أو سمعنا نقول كلاما قبيحا، ينهرنا ويخير آباءنا. وأذكر مرة أنه وجدنا نصنع "سبْسِيًّا" من القصب كي ندخن به "الفلايو"، فلا تسأل عن العقاب الذي لاقيته جراء ذلك. وهذا يؤكد أن الفترة التي كنت أقضيها "فْالزَّنقة" وما أطولها لم تكن مجرد "صياعة" كما يقول المصريون، وإنما كانت، بالفعل، فترة للتربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية. حكايات جدتي الزهراء... "الزُّهْرَه" أول ما أقوله في حقها رحمها الله أنها كانت جديرةً بالاحترام الذي حازته وسط قريتها وبين أفراد عائلتها. كانت ابنة فقيه، حفَّظها القرآن الكريم، وزوَّجا لشاب مؤذن حامل لكتاب الله. هي التي سمَّتني. كانت تنتبه جيدا لأخلاقي، وتعمل على تحفيظي بعض السور أثناء وجودي معها في البادية. كانت تُصرُّ أن تأخذني معها للمناسبات الاجتماعية، وهناك تعرفت على العادات والتقاليد الجبلية التي تهم العرس والعقيقة والختان وغيرها. كان أمرها غريبا؛ فلا أذكر أني استيقظت ليلا وكنت غالبا ما أنام بقربها إلا ووجدتها تصلي. وبعد الغذاء كانت تستلقي، وتطلب مني أن أتلو عليها ما أحفظه من آيات وسور، وعندما أحس أنها نامت أقوم للعب والذهاب للبساتين بحثا عن ثمرات التين وعناقيد العنب و...أعشاش الطيور. وفي الليل تحكي لي حكايات غرائبية عجيبة (الخْرايْف) مثل حكاية "عمتي الغولة" وسلسلة الحكايات التي لا تنتهي بين "عمي الديب وعمي القنفد"، وهذا ما غرس فيَّ الهيام بعالم السرد. "الفْقي دْ الجامع": البحث عن "التحريرة" ولجت الكُتَّاب وأنا في الرابعة من عمري، لا أتذكر مطلقا ملامح وجه "الفقي"، وهل كنا نستطيع أصلا أن ننظر في وجهه مباشرة... مستحيل. أكتفي هنا بذكر واقعة محفورة في ذاكرتي: كان رحمه الله يرسلنا لجمع التحريرة"، وهي هدية بسيطة عادة ما تكون عبارة عن بيض وسكر كنا نطلبها من سكان الحي كي يمنحنا عطلة قصيرة، ولا أنسى ما حييت فرحت الناس الكبيرة بنا ونحن ندقّ أبوابهم، يستبشرون بقدوم "طلبة القرآن" لبيتهم، فلا يتوانون أبدا على منحنا ما نطلب، ولسانهم يلهج بالدعاء بالصلاح والرحمة والخير لنا ولوالدينا ولفقيهنا. يوسف ابن "دار الفقير"... أحسن الله إليك كنا نسكن حيا غاية في الشعبية، وسكانه غاية في البساطة، ويشكلون بشكل أو بآخر "أسرة ممتدة"، فكنت، مثلا، إذا عدت من المدرسة ولم أجد والدتي، تتكفل جارتنا بإطعامي، وإعدادي للعودة للمؤسسة. وكانت هناك أسرة مشهورة بلقب "دار الفقير"، ابنهم الثاني اسمه يوسف، عرفت فيما بعد أنه كان حينها طالبا في كلية الآداب بتطوان، أحسن الله إليه، كما أحسن إلينا، ومتعه برضا الله في الدنيا والآخرة. غريب أمره، كان يهتم بنا نحن أطفال الحي وبتربيتنا وتعليمنا وأخلاقنا كلما عاد من دراسته اهتمام الأم بابنها، وأثناء غيابه كان يترك وسطنا "عيونه" مُفَتَّحةً يخبرونه، بعد عودته، بكل تفاصيل سلوكاتنا. وكان ينظم لنا المسابقات الرياضية والثقافية، ويمنح الفائزين جوائز عبارة عن قصص صغيرة. ويذهب معنا إلى البحر، ويلعب معنا الكرة. وكان يركز أكثر على تعليمنا الصلاة، فهو أول من علمني الوضوء والصلاة، وهو الذي عرفني أول مرة على الشيخ عبد العزيز بن الصديق. وفي صحبته أحسست لأول مرة بما فهمت فيما بعد أنه يسمى "الثقة بالنفس". بعد انتقالنا للسكن في حي آخر، لا يشبه الأول تماما، عدت ذات مرة لأسأل عنه، ولأشكره على فضله، لكن للأسف، قيل لي بأنه رحل، حيث أصبح أستاذا للاجتماعيات في وجدة. فله التحية والسلام من صميم قلبي. الفقي البرّاق: بين القرآن والإنشاد من أحلى الأيام في صغري، يوم الجمعة، لأنه بالإضافة ليوم الأحد كان يوم عطلة مدرسية، مما كان يمنحني فرصة للذهاب ل"مسجد السوريين" للاستمتاع بحضور حصة الُمَسمِّع "الفقي البراق"، الذي كان رحمه الله يتلو "الحزب" بصوت رائق قبيل صعود الإمام المنبر. وكنت أجلس مشدوها ومشرئبا إلى الشرفة حيث يجلس، أتابع ارتفاع صوته وانخفاضه... تمايل جسمه... حركات رأسه... إغماضات عينيه. وأتذكر أني كنت بين الفينة والأخرى أستمع لأشرطته التي كان يمدح فيها إنشادا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رفقة مجموعته. الشيخ عبد العزيز بن الصديق: هيبة العلماء لم يكن ينافس "الفقي البراق" من رواد المساجد في نفسي إلا الشيخ العالم سيدي عبد العزيز بن الصديق رحمه الله الذي كنت أحضر بعض خطبه المشتعلة حماسة في مسجد حي "علي باي"، ورغم قصر فهمي عن استيعاب ما كان يوجهه حينها من مواعظ ونصائح ومواقف فإن النظر إليه كان كافيا ليحدث التأثير التربوي في نفسي. وأتحصَّر كثيرا على فرصٍ ضاعت مني لمجالسته في بيته بعد أن أصبحت شابا. "المغامرون الخمسة": يطلبون الحق والعدل في القسم الخامس ابتدائي، أو ما كان يسمى ب"الشَّهَّادة"، بدأت أقرأ سلسلة "المغامرون الخمسة"، فلا أستطيع أن أنسى "السيارة الذهبية" و"قطار الأشباح" و"الرسائل المجهولة" و"اختطاف شهيرة"، وما زلت لحد الآن أحتفظ بكتابِ قراءةٍ كتبتُ على خلفيته الداخلية، ما كان مكتوبا على خلفية تلك السلسلة (وعلامات الترقيم من عندي الآن): "كبار في نفوسهم وقلوبهم وأرواحهم. المغامرون الخمسة: عماد وسامبو، جلال وسعاد ، وحيد وشهيرة، خمسة صغار شجعان، وكلب شجاع. يطلبون الحق والعدل، ويدافعون عن الظلم ( مكتوبة هكذا، ويقصدون: يدافعون عن المظلومين). صغار العمر، كبار العقل، كبار النفس. هؤلاء هم المغامرون". وكانت جملة "يطلبون الحق والعدل " تحدث في نفسي أثرا بليغا. طول شهر، كنت أجمع دريهمات قليلة لأشتري بعض الأعداد وأكتري أو أبدِّل أخرى، وأثناء قراءتي كنت أحفظ بعض الجمل والتعابير قصد استثمارها في الإنشاء، ومنها ما زلت أتذكره، مثل: "في إحدى الليالي العليلة النسيم، والساعة لا تتجاوز التاسعة، والناس قد ركنوا إلى بيوتهم يتعشون ويلهون، ويستعدون للنوم ..." "غرانديزر"... اِنطلق "علِّ عَلِّ بطل فليد، هيا طِرْ يا غراندايزر..." أغنية ولحن جميلان لا يستطيع من كان طفلا في الثمانينات أن ينساهما، أو ينسى الرجل القصير الأصلع "دامبي"، وهوسه الكبير بالغرائبي والعجائبي المتمثل في "سكان الفضاء"، حيث يريد أن ينسج معهم علاقة صداقة، لكنه يفاجأ كل مرة بعدوانيتهم. من خلال هذه السلسلة الكرتونية وعيت بجدّ معنى "الصراع بين الحق والباطل"، وانطبع في ذهني قدرة قوى الخير الدائمة على الانتصار، وفهمت أيضا معنى "العلاقة العاطفية البريئة" من خلال نوعية النظرة التي كانت بين البطل "دايسكي" وزميلته في الفريق "هيكارو". البادية: على أنغام "قرنفل سنبل... طَرَقْ طَقْ، طَقْ طَقْ" لكن، في طفولتي، لم يؤثر فيَّ أحد/ شيء/ مكان قدر ما فعلت البادية؛ ففي الثمانينات، حيث كانت العطلة الصيفية تمتد لثلاثة أشهر تقريبا، كنت أتقاسم وقتها بين البحر في مدينتي والسفر إلى البادية لزيارة جدتي ومعاونة جدي وأعمامي في عمليات الفلاّح الصيفية؛ من حصاد ودرس تقليديين، وكل أنواع "الصخرة" الممتعة؛ من إخراجٍ للغنم والبقر من الحظيرة وتسليمها للراعي والشمس مازالت خلف "جبل العلم" الشامخ هناك، حيث يوجد ضريح "مولاي عبد السلام بن مشيش"، وسقيٍ للماء، وجمعٍ للحطب، وقطفٍ للثمار، وسقيٍ للمزروعات، وتوريدٍ للبهائم. من الصعب جدا أن يفهمني من لم يتذوق التجربة، لأن بعض الأشياء تكسب قيمة رمزية في عقل صاحبها غير قيمتها الوظيفية؛ فالوقت الذي يسبق شروق الشمس، مثلا، يبقى في ذاكرتي الأجمل والأروع: ديَكةٌ تصيح، دجاجٌ يقيق، طيورٌ تستعد لفراق أوكارها، كلابٌ تنبح فرحا بقدوم راع، جدةٌ تستعد للذهاب لجني ثمرة "الهندي"، عمٌّ يتوجه للحقل، زوجته تُشعل النار في "الخبّاز" استعدادا لطهي الخبز. هذه الخبز التي لا يمكن أبدا أن أنسى رائحتها وهي ساخنة بسبب "الخميرة البْلْدِية"، كما لا أنسى رائحة الغبار عند أول الغيث. وكيف أنسى مشهدا سيبقى محفورا في ذاكرتي ما حييت، وأتمنى معاودة مشاهدته، ولكن بعين الطفولة، وسأحاول هنا تقريبه بلغة أعرف مسبقا قصورها على وصفه وتصويره كما هو في ذهني: ديكٌ يبحث في خشاش الأرض، يجد حبات مما يؤكل، وبصوت جميل يبدأ في تنبيه دجاجاته إلى وجود الخير، فتأتي مسرعة تتبعها كتاكيتها، فيبدأ في نبش التراب وتحريكه، والجميل أنه، أثناء ذلك، ينفخ صدره ويرفع رأسه عاليا ويبدأ في تحريكه يمينا ويسارا، إظهارا للعظمة، وتنبيها لديك منافس، وإعلانا على أن حمايته مبسوطة على الدجاجات الموجودات، كل هذا دون أن ينافسهن مطلقا على ما وجد! أما الغروب، فزمن مرتبط عندي بالعودة والحزن: عودة البقر من المرعى، وهي تجر أرجلها، وبطنها ممتلئ عن آخره، ولهفة عجلها على ضرعها المكتنز بالحليب، لكن الجدة تسارع إلى حلبها أولا، ثم تترك له بعض ما يهدئ نفسه. [ وهل سبق وأن سمعتم صوت نزول الحليب من الضرع في الآنية ؟! ] وحزن لغياب الشمس، لأنه بانطفائها تنطفئ الحياة؛ فبسبب التعب الشديد الذي يلاقيه البدوي في يومه جراء الأعمال الشاقة، وبسبب ما ينتظره غدا من مهمات والشمس مازالت خلف الجبل، وبسبب غياب الكهرباء أيضا، فإن أغلب البدويين ينامون بين وقت المغرب والعشاء، وكان عاديا جدا أن ترى الرجل يجمع صلاة العشاء مع صبح الغد. أما الشباب فإنهم يسهرون في بعض الأحيان في مقاهِ عتيقة جدا، يفترشون الحصير، ويلعبون "الكرطة" و"الضامة"، وهم يدخنون "السبسي" ويرتشفون كؤوس الشاي المنعنع. والاستثناء والوحيد الذي يمكن أن يجعل الأسرة البدوية تسهر كلها احتفاءهم بقدوم ضيف من المدينة. طبعا بدخول التلفاز إلى البيوت الطينية تغيرت حياة البادية، ولم يعد هناك إلا الذكريات! ولكن ... أين المدرسة؟! عندما انتهيت من كتابة هذا المقال، قدمته كالعادة لزوجتي كي تطلع على النسخة الأخيرة؛ فتبدي وجهة نظرها في بعض القضايا، وتنبهني لبعض الأخطاء المحتملة، لكنها هذه المرة أصرَّت على حذف فقرة طويلة تتحدث عن المدرسة ! لماذا ؟ نلتقي في الحلقة المقبلة إن شاء الله.